كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “في الثقافة المغربية”
الجمعة 11 نوفمبر 2016 – 11:52:38
إذا كان اسم الشعر إدريس علوش قد ارتبط بهموم تطويع القصيدة المغربية المعاصرة، فإن الانفتاح على عوالم الكتابة النثرية لم يكن أمرا بعيدا عن اهتماماته ولا عن انشغالاته. وإذا كان إيقاع مواده المنشورة قد عرف تواترا ملفتا بصدور سلسلة دواوين صنعت رصيد المنجز الشعري للشاعر علوش، فإن مجموع كتاباته النثرية قد ظلت عبارة عن مقالات متناثرة بين هذا المنبر أو ذاك، سواء داخل المغرب أم خارجه. لذلك، فإن صدور الكتاب النثري التأملي الجديد للشاعر إدريس علوش، تحت عنوان “في الثقافة المغربية”، خلال مطلع السنة الجارية (2016)، في ما مجموعه 124 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، يشكل تكثيفا لنتاج مسيرة طويلة من العطاء ومن الفعل ومن المبادرة ومن الجرأة، وكلها صفات ارتبطت باسم إدريس علوش، المبدع والإعلامي والجمعوي والفاعل المدني المسكون بالقصيدة وبأسئلة التغيير وبلوثة اليسار في تعبيراته الوجودية المتداخلة.
والكتاب الجديد، تجميع لسلسلة مقالات، كتبها المؤلف في سياقات مختلفة أنتجتها التباسات تلقي معالم خصوبة الحقل الثقافي الوطني الراهن. هي قضايا شكلت ميسما لانفتاح إدريس علوش على نبض الفعل الثقافي الوطني الراهن، من خلال قضايا كبرى، تفاعل معها المؤلف من موقعه كمنصت جيد لتفاصيل التحول داخل نظيمة الخلق والعطاء التي تضفي على المشهد الثقافي الراهن ميسم التنوع والتجديد والجرأة في إثارة الأسئلة الحارقة، خاصة منها تلك المرتبطة بإفرازات سنوات الجمر والرصاص والمعتقلات والسجون، وهي التجربة التي كان لقطاعات واسعة من مثقفي المرحلة نصيبهم من لهيبها، مثلما استحضرته بعض مقالات إدريس علوش بالكثير من عناصر الوفاء والاستلهام.
وبهذه الصفة، فقد تجاوز الكتاب ملمح تشريح أسئلة الذات في تفكيكها للواقع، إلى رصد الكثير من معالم العطاء أو المعاناة أو التميز لدى الذوات الأخرى التي كان لها نصيبها في تأثيث معالم التنوع والخصب داخل مكونات الهوية الثقافية لمغاربة الزمن الراهن. إنها قراءة استرجاعية تحتفي بالأسماء وبالتجارب، من خلال الانفتاح على القيم الإنسانية التي تضفي على الأعمال الإبداعية صفة الخلود والبقاء، وتعطي لوظيفة المثقف ميسمه “العضوي” حيث الانخراط في المغامرة الكبرى للتغيير ولأنسنة الوجود ولترسيخ وظيفة المثقف كحامل للواء التنوير والحداثة. لذلك، فالعمل يتجاوز القراءات الاختزالية لمختلف أوجه تفاعل الشاعر إدريس علوش مع تغيرات محيطه التي أثمرت بذرة القصيدة في داخله، إلى مستوى التقاط تفاصيل الزمن البهي للثقافة المغربية المعاصرة، من خلال تعبيراته الإبداعية المتداخلة، العالمة منها والاجتماعية حتى لا أقول الشعبية، العربية والعامية والأمازيغية، المدونة والشفاهية، النثرية والشعرية، المادية والرمزية، التفكيكية والتوثيقية الصرفة. وداخل هذه البنية المتداخلة العناصر، تنهض تجارب على تجارب، وأسماء على أسماء، ومسارات على مسارات، أحسن الشاعر إدريس علوش الانفتاح – من خلالها – على متاهات الاحتفاء بنقاط الضوء المشعة في الكثير من أوجه عطاء الثقافة المغربية المعاصرة.
ولقد أحسن الناقد نجيب العوفي، الذي وضع تقديم الكتاب، التقاط ملامح هذا البعد المهيمن على مضامين الكتاب، عندما قال: “في هذه القطوف الثقافية نقرأ إدريس علوش، كما نقرأ من خلاله أسماء أدبية مغربية عديدة ووازنة، يستحضرها في سياق قراءاته ومقارباته للثقافة المغربية، فاتحا أقواسا وفسحا لحديثها وملاحظاتها، بالأريحية الثقافية ذاتها التي تسكن الكتاب. وهو ما يجعل منه أنطولوجيا مكثفة للثقافة المغربية، لخصوبة مادته وتنوع شرفاته ونوافذه… كما يستحضر الكتاب، تذكرة وتنويها، أسماء ورموز الثقافة المغربية، بكل أطيافها القزحية… يستحضر أسماء شعراء وزجالين ومسرحيين ومغنيين أمازيغ… من كل فج مغربي وبلا جمارك ثقافية، من أقصى الريف إلى أقصى سوس. يستحضر الكتاب هذه الأسماء والعلامات، مع دراية عميقة وذكية بأسرار وتفاصيل الموضوع الذي يقاربه…” (ص ص. 7-8).
وعلى هذا الأساس، استطاع الكتاب تقديم مقاربات عميقة حول بعض من أبرز إبدالات المشهد الثقافي المغربي المعاصر، في قضاياه الكبرى وأسئلته الحارقة، مثلما هو الحال مع التباسات القصيدة العامية وواقع الأغنية الملتزمة وبنية الشعر الأمازيغي وإشكالات التعاطي مع القضية الأمازيغية، لغة وثقافة. وبموازاة مع هذه القضايا المركزية، اهتم الكتاب باستحضار تجارب كانت لها/ولازالت بصماتها على أنساق الإبداع والفكر والفن المغربي المعاصر، مثلما هو الحال مع تجارب كل من محمد شكري وعبد الله زريقة ومحمد عابد الجابري وإدمون عمران المليح وجان جنيه وعبد الحق الزروالي ومجموعة “لمشاهب” ومسرح سيربانطيس.
لا يتعلق الأمر بكتابات شذرية تحتفي بالاهتمامات الشخصية للمؤلف، بقدر ما أنها استحضار عميق لعناصر التحول التي تضفي البهاء على رصيد التراكم المعرفي والإبداعي لصاحب دواوين “الطفل البحري” و”دفتر الموتى” و”رأس الدائرة” و”مرثية حذاء” و”يد الحكيم” و”قميص الأشلاء” و”فارس الشهداء” و”زغب الأقحوان” و”آل هؤلاء” و”دوارة أسطوانة” و”جهات العدم المشتهى”. هي كتابة تسائل عناصر التلقي لدى ذات المبدع، وتضع أسس القراءات التفكيكية المنتشية بحميمياتها المخصوصة، في تقاطع ذلك مع خصوبة عطاء المشهد الثقافي المغربي الراهن. ولا شك أن استحضار هذا البعد التركيبي في كل محاولات تشريح المخيال الإبداعي المنتج للقصيدة والقصة والرواية والمسرحية… يظل عنصرا موجها لكل محاولات رصد إواليات الكتابة لدى الذات الفردية المبدعة.
فقبل أن يختلي الكاتب بعوالمه المميزة ويعود إلى فر دانيته المخصوصة، فإن عينه الثالثة تكون قد اشتغلت على التفاصيل المحيطة بالذات، بالتقاط قيمها وبتحليل خلاصاتها وباستيعاب تمثلاتها. وفي هذا الجانب بالذات، تبدو قراءة المثقف والمبدع لتحولات الواقع الثقافي مدخلا مؤسسا لكل جهود فك طلاسم هذا الواقع وبناه الحاضنة، ومدخلا لبلورة القراءات النقدية، والثقافية تحديدا، الراصدة لمعالم التراكم والتحول أو النكوص في الممارسة الثقافية المغربية الراهنة.