كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” كتابات على جدران مدينة منسية “
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( تاريخ منطقة الشمال)
الخميس 03 مارس 2016 – 18:33:46
في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور كتاب “كتابات على جدران مدينة منسية”، لمؤلفه رضوان احدادو سنة 2001، وذلك في ما مجموعه 128 صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب – في الأصل – تجميع لسلسلة مواد تأملية عميقة سبق للمؤلف أن نشرها بانتظام ضمن زاوية “بلا رتوش” بالصفحة الأخيرة من جريدة “صوت الأمة” التي كانت تصدر من تطوان خلال مرحلة الثمانينيات. وحسنا فعل احدادو عندما قرر نفخ الدفء والنور في هذه المقالات عبر تحيين مضامينها، ذلك أن غالبيتها لازالت تحتفظ – إلى حد الآن –براهنيتها، كما أن البعض الآخر منها قد تحول إلى شواهد ناطقة على ملابسات المخاض العسير الذي كانت تعرفه البلاد خلال مرحلة احتقانبالغة التعقيد والانكسار. لذلك، فقد تحولت – الآن – إلى وثائق حية عكست وعي النخبة المحلية بتحولات محيطها وبشروط الانطلاق وبأصول البلاء وبتجليات الانهيار. ولعل هذا ما أدركه محمد العربي المساري عندما قال في تقديمه للكتاب : ” … الآن بعد الرجوع إلى هذه النصوص أجدها وثائق تشهد بقدر غير يسير عن حسن النية، وبتطلعات أفرزها انطلاق المسلسل الديمقراطي، كانت واعدة. وهي تشهد أيضا بطول انتظار للذي يأتي ولا يأتي. مشاريع التنمية كانت تعد بها الأحجار الأساسية والتدشينات. لكن كل ما كان في الجعبة هو الوعد بمشاريع سياحية. والنتيجة كانت هي أن الأهل استيقظوا فوجدوا أنه قد سرق منهم البحر والشمس. ورغمالاعتمادات، فإن كل ما حدثهو أن الشمال تحول إلى كارت بوسطال، يروج في أشهر معلومة في السنة … ” ( ص. 12 ).
واستنادًا إلى هذا التّقييم الـعـام، أمكن القول إن “كتابات على جدران مدينة منسية” هي رؤية أصيلة نجحت في تجاوز منطق المتابعات الصحفية السريعة وكذا خلفيات الرؤى الانطباعية الاختزالية التي كثيرا ما أساءت لماضي المنطقة ولحاضرها. هي – إذن – رؤية شاعرية عميقة تخاطب الوجدان وتستحث النفوس على المبادرة وعلى الفعل الواعي لإيقاف زحف الظلام وجحافل الجراد البشري التي نهبت البلاد والعباد. ولتوضيح مقومات هذه الرؤية، سعى المؤلف إلى تفكيك مكونات الفضاء العام للمنطقة، وذلك في عمقه التاريخي، وفي تطوره الطويل المدى، وفي بؤس واقعه الراهن وفي آفاق مستقبله الذي يصنعه جيل اليوم. وبعيدا عن كل نظرة شوفينية ضيقة، عكس احدادو– بطريقة كتابته الراقية – أوجه انشغالات المبدع والمثقف الشغوف برموز المكان وبجزئيات الفضاء العام، والملتفت لتفاصيل اليومي التي لا تلتقطها عين المتلقي العادي.
ولعلَّ أهم ما يُمكن استخلاصهُ من قراءة هذا العمل القَيّـم، أنَّ الاهتمامَ بالشأن الوطني إنما يتعزز بتفكيك العناصر المجهرية للواقع المحلي، سواء في شقه التاريخي المونوغرافي أو في تجلياته القطاعية اليومية المرتبطة بمعيش الناس. ولذلك، فإن “كتابات على جدران مدينة منسية”، هي صرخة مدوية بضمير منطقة الشمال نجحت في توظيف البعد الوطني النضالي في خطاب المؤلف، إلى جانب استثمار البعد التاريخي في التحليل والاستشهاد، والارتقاء باللغة إلى مصاف الفعل الإبداعي التأملي السامي. وقد عزز المؤلف كل هذه المواصفات التي طبعت أسلوبه في الكتابة، بإلحاق ألبوم تاريخي من الصور التي رافقت مجموع متون المقالات التي شكلت مادة الكتاب. والحقيقة أن هذه الصور الغزيرة والمتنوعة من فضاءات كانت شاهدة على أصالة تاريخ مدينة تطوان، تجعل القارئ يحس بالكثير من مشاعر الأسى والإحباط أمام التدمير الذاتي الرهيب الذي تكالبت فيه جهات متعددة من أجل تشويه وجه تطوان ومسخ مظاهر سمو تراكمها الحضاري الذي حققته المدينة على امتداد فترات زمنية طويلة. ويبدو أن المؤلف قد انتبه، في سياق انشغاله بالهم الوطني والجهوي، إلى أن التكالب المذكور، قد نجح في إفساد البر والبحر، وفي اجتثاث كل ما هو جميل داخل فضاءاتنا، بل ولم يكتف بذلك، فتجاوزه إلى طمس هوية الإنسان وإلى التأثير في انسجامه الذهني والروحي وفي تلك الملكات المعرفية والأخلاقية التي امتازت بها ساكنة المنطقة منذ القرون الماضية.
ولقد عبر المؤلف عن خطورة هذا الجفاف الجاثم على النفوس والعقول بكلمة بالغة الدقة والعمق عندما قال : ” … ومع ذلك نقول إن أكبر ما خسرته هاته المنطقة المنعوتة بالشمال ليس هو ساحة “الفدان” ولا قوس “باب التوت” في تطوان، ولا هي ساحة التحرير “إسبانيا” بالعرائش ولا “وطا الحمام” بشفشاون إلخ … وليست أيضا تلك القاعات الفنية التي ارتبطت زمنا بالذاكرة والتاريخ، سرفانطيس ( طنجة )، إسبانيا ( العرائش )، بيرس كالدوس ( القصر الكبير )، المسرح الوطني / إسبانيول ( تطوان ) … بل أكبر ما خسرناه وأغلى ما ضاع منا هو الإنسان بإنسانيته … الإنسان بمثله الأخلاقية والحضارية .. بنبله وإيثاره .. فضاعت بضياعه مدنية المدينة وحيوية الحياة … ” ( ص ص. 18 – 19 ).
فهل سنتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أم أننا سنكتفي بالتباكي على مجد غابر لن يعود، في انتظار الذي يأتي أولا يأتي ؟ …