كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” مغرب الشهوة والتعصب “
الجمعة 29 ابريل 2016 – 10:01:49
إذا كان مجال الدراسات الاستشراقية الفرنسية قد نال نصيبا كبيرا من الاهتمام ومن البحث ومن التجميع، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للدراسات الاستشراقية الإسبانية إلا في حدود ضيقة. وإذا كان مجال الكتابات الغرائبية الفرنسية قد نال قصب السبق في استكناه العوالم العميقة ” للمغرب الذي كان ” حسب التعبير الأثير للكاتب والتر هاريس، فإن ضعف تداول النصوص الإسبانية ذات الصلة، قد حرم الباحثين المعاصرين من فرص هامة لاستكشاف الكثير من العناصر الفكرية والثقافية الاستشراقية التي تحكمت في مجمل الصور النمطية التي يحملها الإسبان تجاه المغرب والمغاربة.
وتزداد أبعاد هذه الوضعية وضوحا، إذا أخذنا بعين الاعتبار السياقات التاريخية التي تحكمت في الوجود الإيبيري فوق الأرض المغربية، وهي السياقات التي تعود إلى مطلع القرن 15 م عندما تمكنت البرتغال من احتلال مدينة سبتة سنة 1415 ثم إسبانيا من احتلال مدينة مليلية سنة 1497، مع ما تبع ذلك من سقوط متتال للعديد من الثغور المغربية المتوسطية والأطلنتية مثلما هو الحال مع مدن طنجة وأصيلا والعرائش ومازكان وأزمور وأسفي وموغادور وأكادير وسيدي إيفني. لقد هيأ هذا الاحتلال الممتد في الزمن الطويل للقرون الخمسة الماضية، الكثير من عناصر الكتابة والاشتغال على ” ورشة المغرب “، باعتباره حقلا خصبا للتأمل وللقراءة وللتفكيك، ثم للاستيعاب. ومع توالي تطور الحضور الإيبيري فوق التراب المغربي، انبثقت موجة من الاندهاش الغرائبي التي بحثت لنفسها عن شروط إشباع نهم القارئ الإسباني والبرتغالي للاطلاع على مجالات ” مغرب السكون “، ” مغرب التقليد “، ” مغرب الحريم “، باختصار ” مغرب ألف ليلة وليلة ” كما فهمته واستوعبته وجسدته كتب الرحلات التي استهدفت سبر أغوار مجاهل إفريقيا. ومع تزايد النزوعات الانبهارية المؤطرة لرحلات الاستكشاف العلمي للمغرب وخاصة خلال القرنين الماضيين، بدأت الكتابات الإسبانية التدوينية المهتمة بهذا المجال، تكتسب عناصر الابتعاد عن اللغة التقريرية أو التسجيلية المباشرة، لترتقي إلى مصاف الكتابات الإبداعية التخييلية، بأدواتها التأملية الفاحصة وبرؤاها الجمالية الواسعة، ثم بآفاقها الكولونيالية الفاقعة.
وبغض النظر عن كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول الدور الذي قامت به مثل هذه الكتابات في تكريس صورة المغربي / المورو ” المتوحش ” و” المتخلف ” في أذهان إسبان الأمس واليوم، فالمؤكد أن العودة لقراءة النصوص التأصيلية لمثل هذه الأحكام، تظل عنصرا ناظما لكل محاولات الكشف عن ثوابت المواقف الإسبانية تجاه المغرب، هذا ” الجار المقلق ” حسب التعبير المتداول إعلاميا على نطاق واسع بإسبانيا الراهنة. لقد صنعت هذه الكتابات تخريجات نمطية وأضفت عليها قيما سلوكية تستجيب لنهم القارئ الإسباني في استكشاف مجاهل المغرب وفي فهم أسرار بنياته الاجتماعية والذهنية والأنتروبولوجية المتداخلة، وهي البنيات التي سعت الرؤى الكولونيالية إلى تطويعها وفق ما يستجيب لضرورات المصلحة الاستعمارية الإسبانية الآنية. وفي المقابل، تبدو العودة الحالية لقراءة متون هذه الرحلات الاستكشافية مدخلا لتحقيق قيم مزدوجة في كل محاولات تقييم الحمولة المعرفية والتأريخية لهذه الكتابات.
ترتبط أولى هذه القيم، بالإمكانات الهائلة التي تتيحها الكتابات السفارية في التوثيق لإبدالات الذهنيات الإسبانية على مستوى تعاطيها مع الشأن المغربي في جوانبه ومكوناته وأبعاده المتشعبة. وترتبط ثاني هذه القيم، بغنى نفس النصوص في التوثيق للكثير من الخصائص المجتمعية التي قد لا نجد لها أثرا في الكتابات التاريخية الكلاسيكية الوطنية، إما بسبب انتظامها خارج نسق اشتغال المؤرخ الإسطوغرافي التقليدي، وإما بسبب تركيزها على قضايا ” المحرم ” أو ” الطابوهات ” أو ” المسكوت عنه ” داخل مجالات التفكير والفعل المغربي العميق. ومن هذه الزاوية بالذات، يبدو تركيز الكتابات السفارية الإسبانية على قضايا مثل الجنس ووضعية المرأة وتعدد الزوجات والدعارة، من الأمور الدالة التي تساعد على التقاط التفاصيل ” الأخرى ” المنفلتة من بين متون النص الإسطوغرافي المغربي التقليدي. وهي قيمة لا شك وأنها أخذت تحفز باحثي المغرب المعاصر من أجل الانفتاح على عوالمها، تجميعا للنصوص وتعميما لترجماتها وتمهيدا لاستثماراتها التأريخية والسوسيولوجية العلمية الأصيلة.
في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور الترجمة الإسبانية لكتاب ” مغرب الشهوة والتعصب ” لمؤلفته أورورا برترانا، ضمن منشورات معهد الدراسات الإسبانية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، وذلك سنة 2009، في ما مجموعه 230 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، الذي ساهم في ترجمته من اللغة الكطلانية إلى اللغة الإسبانية كل من رجاء الخمسي وفرناندو كارسيا مارتين، يقدم نصا أدبيا شيقا كتبته صاحبته عقب زيارتها للمنطقتين الخليفية والسلطانية من المغرب خلال سنة 1935. وقد نحت فيه إلى البحث في قضايا وضعية المرأة المغربية، عبر اختراق عوالمها الحميمية المرتبطة بطابوهات متداخلة في هذه العوالم، مثل تعدد الزوجات والدعارة والسلوك الإنجابي ووضعية الدونية النسائية وما يرتبط بها من قضايا الاستغلال الذكوري المتعدد الأوجه والأبعاد والتمظهرات. وللاستجابة لهذا الأفق العام، قسمت المؤلفة كتابها إلى قسمين مركزيين، اهتمت في أولهما برصد العوالم الشهوانية وطقوس التعصب التي كانت تكبل واقع المرأة المغربية بالمنطقة الخليفية من خلال نماذج منتقاة من مدن تطوان وأصيلا وشفشاون، واهتمت في القسم الثاني بنفس المنحى بالمنطقة السلطانية لمرحلة الاستعمار من خلال نماذج منتقاة من مدن فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش وبعض المناطق المتاخمة للأطلس وللصحراء والتي لم تكن قد خضعت بعد لسلطات الاستعمار الفرنسي المباشر.
لقد استطاع الوصف الذي قدمته المؤلفة أن يكشف النقاب عن الكثير من خبايا ” الحريم ” وعن تمثلات المغاربة تجاه قضايا ” الشهوانية ” ومنغلقاتها الصارمة، مما يقدم متنا شيقا لا شك وأنه يستحق أن يكون موضوع قراءة متجددة واستثمار متواصل، مادمنا لا نجد ما يشفي الغليل داخل مصنفات المدونات الكلاسيكية المتداولة.
وإذا أضفنا إلى ذلك حرص المؤلفة على ربط تجميعها لمواد كتابها بمجمل التطورات السياسية الميدانية التي كانت تجري بإسبانيا وبالمغرب خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أمكن القول – وكما انتبهت إلى ذلك الأستاذة فتيحة بنلباه في كلمتها التقديمية، إلى أننا أمام عمل غير مسبوق، استطاع أن يستوعب خصوصيات التطورات الميدانية السياسية والعسكرية بإسبانيا وبالمغرب، من أجل اكتساب أدوات ربط الظواهر ببيئاتها الحاضنة والتوثيق للتمثلات المتبادلة بالمغرب وبإسبانيا تجاه قضايا المرأة والجنس. إنه انبهار عجائبي، أكتفي في هذه العجالة، بالاستدلال على تمظهراته الفريدة بالوصف الرائع الذي قدمته المؤلفة – على سبيل المثال لا الحصر – لعلاقات باشا مدينة أصيلا بنسائه الأربع، أو بعوالم حي بوسبير الشهير بمدينة الدار البيضاء، حيث شرعن الاستعمار الفرنسي للذة المحرمة في إطار عوالمها المحررة للجسد وللشهوة في أبعادهما الوظيفية المؤطرة لشروط التحكم الاستعماري لعقود النصف الأول من القرن 20.