كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “من ضمير حي”
الجمعة 15 ابريل 2016 – 19:39:51
أصدرت جمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي بأصيلا، عند مطلع سنة 2016، كتابا تجميعيا لنصوص سردية ـ نثرية، سبق للمرحوم المبدع أحمد عبد السلام البقالي نشرها على صفحات جريدة “العلم” خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1961 و1964، ضمن زاوية “من ضمير حي”.
ولتقديم الآفاق العامة لهذا الكتاب الذي كان لنا شرف تجميع مواده وإعدادها للنشر، نقترح إعادة نشر نص التقديم الذي وضعناه للكتاب تحت عنوان “أحمد عبد السلام البقالي .. علم من روافد ذاكرة النثر المغربي المعاصر”. يقول التقديم : نعود – مرة أخرى – لتقليب “أوراق” المبدع الكبير أحمد عبد السلام البقالي، قصد نفض الغبار عن نصوص نفيسة طالها النسيان وطواها الزمن. نعود للاشتغال – من جديد – على رصيد المنجز الثقافي والإبداعي والفكري لمبدعنا المتميز، من خلال عطاء تراثه النثري الذي عرف طريقه إلى النشر على صفحات الجرائد الوطنية لمرحلة ستينيات القرن الماضي، وخاصة بجريدة “العلم” التي كانت تحمل لواء التنوير داخل مشهدنا الإعلامي والثقافي للمرحلة المذكورة. وإذا كنا قد فضلنا الانطلاق في مجهوداتنا لإعادة نشر “منسيات ” البقالي بالاحتفاء بمنجزه الشعري المشتت هنا وهناك، وهو المنجز الذي أثمر ديوان ” بعد الرحيل ” الذي أصدرناه سنة 2014، فإن قناعتنا تظل راسخة بخصوص ذخائر المنجز النثري لفقيدنا العزيز، ليس – فقط – على مستوى كتاباته الإبداعية التخييلية في مجالات القصة والرواية والمسرح وأدب الطفل والخيال العلمي، ولكن – أساسا – على مستوى مقالاته التأملية في ” قضايا الوقت ” وفي استيهامات الواقع وفي مخاضات مغرب كان مكبلا بضغوطات شتى، منها ما كان موروثا عن الاستعمار، ومنها ما كان مرتبطا بتدافع الصراع السياسي للمرحلة المعنية داخليا وخارجيا، ومنها ما كان موروثا عن قرون طويلة من الجهل ومن الخرافة ومن التدجيل.
لقد استطاع أحمد عبد السلام البقالي تحويل كتاباته التأملية النثرية إلى أعين راصدة لالتقاط التفاصيل اليومية والجزئيات المتداخلة في معيش الناس وفي مسلكياتهم المتعارف عليها وفي أنساق تفكيرهم وإبدالاتها المتأثرة بوقع تغير الأزمنة والعقليات والإكراهات. لقد استطاع أن ينتج رصيدا نثريا هائلا تحول إلى مرجع ناظم لكل جهود إعادة قراءة واقع مغرب المرحلة المذكورة، ولإعادة تفكيك عناصر تنافر هذا الواقع أو تفاعلاته المتداخلة. لم يركن البقالي إلى نمط الكتابة التقريرية المباشرة، ولكنه اختار الطريق الصعب، طريق التأمل والتروي، طريق صقل اللغة ومجمل “الاستعارات التي نحيا بها”، طريق دعم المبدأ بكل السبل، طريق المثقف المؤمن بضرورة الانخراط في معركة بناء الوطن وقبلها بناء الإنسان، دون خوف لا من أغلال الماضي ولا من سلط الجبروت الإيديولوجي الذي هيمن على مجالات تلقي الإنتاج الإعلامي والثقافي خلال هذه المرحلة.
وفي زمن كانت فيه وسائل الاتصال محدودة في طبيعتها وفي آلياتها الإخبارية والتثقيفية، كانت للجريدة سلطتها المباشرة على تكوين النخب وعلى صقل الاهتمامات، بل وتحولت إلى إطار مرجعي للتكوين السياسي والثقافي والنقابي للنخب وللفاعلين وللمثقفين. كان المؤلف أحيانا يكتب بعبارات دارجة ليعمم الفائدة في جميع الأوساط، لما للدارجة من تأثير في الأسماع .. ويمكن القول، إنالبقالي ساهم بكتاباته الغزيرة على صفحات جريدة “العلم” في تعزيز هذا البعد، فأصبحت كتاباته تشكل مرجعا لا يمكن الاستغناء عنه لكل باحث في قضايا مغرب ستينيات القرن الماضي. فمن قضايا الاستقلال وانتظاراته، إلى قضايا الهوية واللغة والثقافة، واستنادا إلى ثقل إكراهات المرحلة والتي ظلت تدفع بالدولة وبالمجتمع إلى الخلف، ومرورا بقضايا الحوار مع “الآخر” وطرق التفاعل مع تجاربه ومنجزاته. لقد تشكلت معالم نسق الكتابة النثرية التأملية لدى المبدع البقالي، أو لدى ظله الذي اختار له من الأسماء لقب حسن الشريف ليوقع به الكثير من أعماله ومن مقالاته ومن كتاباته، خاصة منها تلك المنشورة ضمن زاوية “من ضمير حي” بجريدة “العلم” والتي تشكل النواة الصلبة لمختلف مضامين هذا الكتاب.
ووعيا من أطر جمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي بأصيلا بأهمية هذا البعد في تجميع ذخائر التراث الذهني الذي أنتجته نخب مغرب ستينيات القرن الماضي، ومعهم مثقفي مدينة أصيلا ومبدعيها الكبار، كان لابد أن نحتضن المشروع وأن نسعى إلى ترجمته على أرض الواقع، كعربون وفاء وإخلاص لذكرى أحد أكبر الرموز الثقافية لمدينة أصيلا خلال عقود النصف الثاني من القرن 20. ففي ذلك أبسط اعتراف بعمق ثراء العطاء الفكري للمدينة، وأعمق امتنان للقيمة الاعتبارية للمبدع الكبير أحمد عبد السلام البقالي، إنسانا ومثقفا ومبدعا ومفكرا، طبع وجه البهاء الثقافي للمدينة وأرخى ستار التميز والعطاء على هويتها الحضارية لزماننا الراهن. إنه سجل مفتوح، نعيد من خلاله تأثيث معالم التاريخ الثقافي الوطني من خلال الامتدادات الإنسانية والفكرية العميقة التي ظلت تحملها كتابات هذا المبدع، بالأمس وإلى يومنا هذا.