كتاب ” طبائع الاستبداد ” ودور العلماء و المفكرين في الدفاع عن الحق و العدل للأمم و الشعوب من أجل الغد الأفضل
الثلاثاء 06 دجتبر 2016 -10:35:06
إذا كان ما جاء به العالم الكبير و المناضل الفذ و المفكر العربي الشهير الجليل المرحوم برحمة الله الواسعة عبد الرحمان الكوكبي (1848-1902 ) سيظل كتابه الغني بالدلالات لرجال الحكم و الشعوب أ ين ما كانوا, و هو الموسوم ((بطبائع الاستبداد)) وألحق بعنوان هذا الكتاب ((ومصارع الاستعباد)) لأنه هو نوع من أصوات الحرية وذلك من أجل إيقاظ الوعي وتنبيه كل الشعوب العربية و الإسلامية وغيرها إلى كل الأخطار التي تحدق بهم، وذلك في بداية القرن العشرين.
فأفكاره الغنية و الكبيرة يجب أن نتأملها بوعي في كل الأزمنة و الأمكنة والظروف، وهي قابلة لأن نعيد بها رأيها السديد في بعض أجزائها لنستفيد من عبرها، وحسب المتغيرات المتتالية, لكن هذا المفكر و الكتاب لا يمكن أن ننساهما أبدا مدى الدهر, لذلك كان هذا المفكر واعيا بهذا حينما ألحق بكتابه ((و مصارع الاستعباد)).
وهي كلمات أصيلة وصيحة في واد، وإن ذهبت مع الرّيح ، لقد تذهب في الغد بالأوتاد.
وإذا كان هذا الكتاب قد نشر بالقاهرة سنة 1900 وإذا تأملنا في بعض ما جاء فيه منذ أزيد من116 سنة ’ فقد كان الكواكبي رجل نهضة و ليس رجل ثورة , وكان يعمل خلال عقود من حياته لضرب الاستبداد وعنده يعد خطوة أولى في سبيل النهضة لأية أمة ، فالاستبداد السياسي عنده مرتبط بالاستبداد الدّيني, وناتج عن الجهل , وله آثار تدمر حياة الشعوب في جوانبها الاقتصادية و السياسية كلها, واسترجاعنا لوقائع التاريخ الماضي كله خلال المدة الفاصلة في ما ذكر كفيلة لتجيبنا عن تساؤلاتنا اليوم ولما وصل إليه العالم العربي و الإسلامي خاصة و الإنساني عامة …
وإذا كان قد أدرج هذا المفكر البارز في تاريخ أمتنا العربية و الإسلامية قولته (( وما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد عسى الزمان ((يوسعه )) طبائع الاستبداد ص 11 )). فقبل أن نستعرض بعض مآثره من كتابه هذا لنتأمله ونستقى منه الدروس و العبر في عالمنا اليوم سأشير إلى بعض مظاهر أقلية من العلماء المسلمين وفطاحلها في صدر الإسلام الذين دافعوا وكافحوا من أجل الحق والعدل ولو أنهم تعرضوا للقساوة الكبيرة و التنكيل بحياتهم و التشهير بهم ظلما و كيدا من المغرضين.
ففي صدر الإسلام ظهرت أقلية من علماء الإسلام وهم محسوبون على رؤوس الأصابع و الذين دافعوا دفاعا مستميتا ورفضوا تسخير الدين لغاية الحصول على الوظائف و الهبات المادية من الحكام الظالمين. وعرفوا بإيمانهم الصحيح و الصادق وابتعدوا عن تسخير دين الله تبارك و تعالى في مصالحهم الشخصية ومن أهمهم : أبو حنيفة النعمان (699-767 م) كان يكثر النقد للقضاة و أحكامهم ، وللتصرفات للولاة و ظلمهم و جريئا في فتواه و أفكاره وقد حاول أبو جعفر المنصور شراء ضميره بالعطايا و المنح ليتولى منصب قاضي القضاة فاعتذر له عن تولي هذا المنصب ، وما كان من هذا الحاكم الجبار إلا أن اعتقله ، وتعرض للتعذيب و التنكيل بالسياط كل يوم إلى أن ضعفت قواه وخارت، حتى لم يستطع القيام بالوقوف برجليه، وبعض الروايات تقول إنه قتل مسموما في سجنه ، كما كان العلامة الإسلامي أحمد ابن تيمية (1262-1327 م) بالقاهرة ينتقد كل سلوك الفقهاء الذي ينافي الدين فتم التحريض عليه من حاكم المدينة فجز به في السجن مرتين حيث بلغت مدة السجن والاعتقال ثلاث سنوات. ولما رجع إلى دمشق أصدر إحدى فتاويه في مسألة الحلف بالطلاق، لأن الطلاق قد يمزق الآسرة ، وتتعرض الأسرة لا قدر الله إلى مآسي كثيرة ، واستطاع أن يصر على أن الطلاق لا يمكن أن يقع بالحلف من قبل الزوج ، ولا تنفصم به عقدة الزوجية ، فما كان من الفقهاء الرجعيون إلا أن ثاروا عليه فلإرضائهم سجنه الحاكم في المعتقل لمدة 5 أشهر.
وعندما تهجم التتار على المدينة ظهرت أقلية من الفقهاء الصامدين ، وفي مقدمتهم أحمد ابن تيمية وكان معه زين الدين الفارقي، و إبراهيم الرقي وابن القوام وابن خيارة وشرف الدين ابن تيمية ، ودعوا الناس بالمساجد إلى الجهاد و الصمود في وجه المعتدين الظالمين ، وخاض المناضلون معارك طويلة ضد طغاوة التتار الهمجيين وألحقوا بهم هزيمة كبرى في معركة ( شقحب) عام ( 728 ه -1327 م ).
وكان هذا مزعجا للحاكم المستبد من بن تيمية ورفاقه ، وأطلق عليه الفقهاء المسخرون الذين أخذوا عليه مواقفه الفقهية التي لا تروق الحاكمين آنذاك و ألقي عليه القبض مرة ثانية ليموت في سجنه بقلعة دمشق ( من كتاب لابن كثير ، ( البداية و النهاية )، م،س. ص 2945 ومن قبله أصدر مالك بن أنس ( 711-795 م )فتوى مهمة بان بيعة المكره لاتجوز فاعتبرها جعفر بن سليمان حاكم المدينة الطاغية هي دعوة للتمرد عليه ، وأمر عليه بالتعذيب و الضرب بالسياط لكي يقول فتوى مغايرة لها ، إلا أن رجل الدين القوي والشجاع برأيه القوي و الذي تمسك به مما جعل تعذيبه المبرح يطول عليه…
وإذا رجعنا إلى العصر الحديث و خاصة للمفكر الكبير عبد الرحمان الكواكبي الذي أشرت إليه سالفا و الذي ولد في سنة 1848م بمدينة حلب السورية المأسوف عليها وعلى سورية العريقة وشعبها التواق إلى الحرية و العدالة الحقة ، فلقد تلقى تعليمه في المدرسة الكواكبية وكان تعليمه دينيا مثل نهج التعليم الأزهري منهجا ومادة، ثم عمل على تثقيف نفسه بالعلوم الحديثة، و التاريخ و القانون و أتقن اللغتين التركية و الفارسية وغادر قاعات الدرس مبكرا ليشتغل في الحياة العامة ، فتنوعت أعماله، كما عمل قاضيا شرعيا و بالصحافة و التجارة وغير ذلك ، وفي كل مكان كانت تصادفه صور الفساد و الاستبداد بالإدارات الحكومية ونظام الدولة ، وليس في مدينة حلب لوحدها بل في بلاد العالم الإسلامي المختلفة في الشرق و الغرب ، حيث عاين صور الحكم المستبد ، وظهر له أن الداء هو واحد . وعمل في عدة جرائد ومنها: أصدر أول جريدة عربية خالصة في حلب سماها (الشهاب ) 1878 م و اندفاعه في التعبير عن آرائه التحررية كان سببا في مصادرتها بعد صدور15 عددا منها ، ولم يصب بالإحباط وكان قويا وأصدر سنة 1879 صحيفة(( الاعتدال)) فكانت نبرتها التحررية الثورية العالية ، حيث تسببت في قلق لرجال الحكم ، فكان حظها كالسابق ووقفوها عن الصدور فآراؤه الجريئة تسببت في إغضاب السلطات عليه، كما أسهمت وشايات الحاقدين في أن يتعرض الكواكبي للاعتقال غير ما مرة وأغروه بمغريات عديدة فلم يستجب لإغراءات الحكام ، فواصل النضال و لم تبهره المناصب ، فاعتقل من جديد ثم أفرج عنه،فضيقت عليه السلطات و صادرت أملاكه ولم يجد سبيلا للحرية و الانعتاق من الظلم و الهوان … فهاجر إلى مصر وعاش فيها السنتين الأخيرتين من حياته (1900-1902 م) ومات ودفن فيها.
و في دولة مصر الشقيقة التي نالت قسطا من الحرية آ نداك بتمردها و انفصالها عن تركيا بدأ الكواكبي ينشر كتابيه المشهورين في العالم أجمع ، الأول “طبائع الاستبداد ” وهو كتاب مهم ينقد فيه الحكومات الإسلامية حينئذ و ثانيهما ” أم القرى” وهو كتاب في نقد الشعوب الإسلامية: وفي الكتابين معا عالج موضوعات أساسية وشائكة متعلقة بنظام الحكم ، و العلاقة بين الحاكم و المحكوم ، وتفهم المحكومين بحقوقهم المهضومة ، وتنبههم إلى المطالبة بها ، كما يقع اليوم من بعض الشعوب العربية و الإسلامية في ثوراتها والتي مات فيها العديد من الناس وضاعت بلدانهم في الفوضى الحالكة و القتال المستشري واختلط الحابل بالنابل منذ ثورة الياسمين في تونس سنة 2011 ولو استمع الحكام لمطالب شعوبهم قبل هذه الثورات و الفوضى العارمة وتحقق العدل و الإنصاف، واتعضوا بتاريخ الشعوب المناهضة للدكتاتوريات و الاستبداد لما ضاعت هذه الدول وتفرقت شعابها، ولما استشرى فيها القتال و الدمار و التخريب الفظيع ، ولما اختلط الحابل بالنابل ، وكان الكل خاسرون، حكاما ومحكومين ، وجل الدول العربية و الإسلامية ، أم غطرسة الحكام المستبدين الذين أحيانا لا يستنيرون بأقوال وأفكار المفكرين وأراء ومطالب شعوبهم التواقة إلى العدالة الاجتماعية الحقة و الحرية المتنورة الأخاذة بالألباب و العقول والكرامة كما قال الله تعالى في كتابه العزيز ” ولقد كرمنا بني آدم…” (من سورة الإسراء، الآية 70) والخلاص من الظلم الذي يسحق الكثير.
وهكذا فقد نشر كتاب ((طبائع الاستبداد )) المذكور ، في جريدة (المؤيد) في صورة مقالات غير ممهورة بتوقيع الكواكبي، وهذه المقالات تدور في مجملها حول اثر الحكم الاستبدادي و الطغاة في انحدار الشعوب، وقد ذكر في هذه المقالات ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدين ،على العلم، على التربية ، على الأخلاق ،على المجد ،على المال ، ثم استطاع أن يتوسع في مباحث التربية والأخلاق لما لهما من أدوار هامة في تقدم الأمم ومنح أفرادها حقوقهم ومطالبهم، وترقية الأذواق والعيش السليم والتقدم المنشود والملموس في لمن عمل بها وتعهد لتعاطيها والسير على هداها ومنوالها…
و من أمثلة ما في هذا الكتاب الذي بقيت آثاره مدى الدهر وإلى الآن، حيث افتتح الكواكبي كتابه هذا بالحديث عن داء الشرق الدفين وهو الاستبداد السياسي، وحدد الدواء، وهو الشورى الدستورية ، فقال الكواكبي في (ص 8) ” وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية ” ولم يحدد مستبدا بعينه، لأنه قصد المستبد في كل زمان ومكان، ولكي يدرك المسلمون أن الاستبداد ليس قدرهم المرتبط بهم، بل هو نتيجة جهلهم وضعف همتهم وتواكلهم، يقول ب (ص 10) “وانأ لا اقصد في مباحثي ظالما بعينه، ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه و يمضيه على ذويه .
ولي هناك مقصدا آخر، وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل، و عسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات، و قد عرف الكواكبي الاستبداد، و قدم له تع0اريف شتى تستوعبه فقال في ص(13) إنه هو (( التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى”، و كتب تحت عنوان (( ما هو الاستبداد)) ص 17 (تعريفه في اصطلاح السياسيين بأنه تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة، و بلا خوف من تبعة)) و نحن نلاحظ ما أضافه في هذا التعريف الدقيق على سابقه جمع ( أي جمع المستبدين) حقوق قوم (أي ليس الشؤون المشتركة فقط التي ورد ذكرها في التعريف السابق). بلا خوف من التبعة (أي المستبد لا يقدر العواقب الوخيمة). و في تحليل لغوي طريف يردد الكواكبي (ص7) أن الاستبداد يرادفه – لغة – استعباد و اعتساف و تسلط و تحكم، و يقابله مساواة، و حس مشترك، و تكافؤ، و سلطة عامة و يرادف المستبد الجبار و الطاغية، و الحاكم بأمره، و الحاكم المطلق، و يقابل الحكومة المستبدة حكومة عادلة، و مسؤولة و مقيدة ، و دستورية، و الرعية التي تعاني الاستبداد أسرى و مستصغرون و بؤساء و مستنبتون، و يقابلهم أحرار، أباة، و أحياء، أعزاء.
إن هذا التوسع في التحليل اللغوي الشامل و استعراض المرادف و المقابل يوسع المدارك و الفهم و القدرة على استجلاء كل المعاني من جوانبها المختلفة. و يعود الكواكبي في ( ص18) ليذكر ( الاستبداد) صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، و التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب أو عقاب محققين ، والكتاب مهم جدا للإنسانية و الشعوب كافة في كل ما جاء به من معاني و أفكار و آراء متقدمة جدا من أجل التغيير الشامل و الإصلاحات للدول و الحكومات لتقدم بلدانها و السير في الطريق المستقيم و القويم لتظل نبراسا وهاجا للشعوب و الأمم بأمنها و استقرارها المتين. و لن أطيل، بل على المثقفين و المبدعين و الوطنيين و القراء و الحكام و الشعوب خاصة العربية أن يطلعوا عليه كله لما يحتويه من تنوير لعقولنا و أفئدتنا جميعا و لما فيه من عبر و حكم و مواعيظ للحكام و الشعوب، و يعبر به و فيه كيف السبيل إلى الوصول إلى أعلى عليين بالرقي الحضاري و الأخلاقي، و بالدرر القيمة و الخالدة إذا ما اتبعت و سارت عليه كل أمة .
وأود أن أشير في الختام إلى هذا لنتمم ما أشار إليه لما ذكرته مِؤخرا من كتابه هذا فهي إذا الحكومة المستبدة التي لا مرجع لها بشرعية أو قانون أو دستور أو إرادة الأمة. فالقضية إذا ليست قضية تسمية هذه الحكومة بالمطلقة أو المقيدة، بل المهم هو أن توضع تحت رقابة حقيقية يقول في (ص19) “إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة و الاحتساب الذي لا تسامح فيه”.
و هذه حالة الحكومة المطلقة أو هي مقيدة بنوع من ذلك، و تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، و هذه حالة أكثر الحكومات التي تسمي نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية”.
بقلم : الفاعل الحقوقي و الإعلامي عبد القادر أحمد بن قدور