لم يخطر على بالي قطّ أنني سأكتب يوما سيرة ذاتية (1/3)
الجمعة 10 فبراير 2017 – 18:36:40
يُسجّـلُ الدكتـور “مصطفى الجوهري“، النـاقـدُ المُتخصّص في الأدَبِ المغربي، في دراسة علمية أكاديمية أنجزها حول أدب المذكرات في المغرب، أن أهل هذا البلد لا يقبلون على تحرير مذكرات توثق للوقائع والأحداث التي كانوا شُهـودًا عليها خلال مراحل معينة من تاريخ البلاد؛ غير أن هناك من يحطّم هذا التردد، فينخرط في خوض المغامرة. ضمن هذه الفئة، نجد المترجم والأديب والمربي الأستاذ محمدا بولعيش، الذي أصدر خلال الآونة الأخيرة كتابا يندرج ضمن أدب المذكرات، لتتعزز الخزانة المغربية بهذا العمل الذي اختار له مؤلفه من الأسماء “السير على الأشواك.. شذرات من حياة”. حول هذا الكتاب وما يرتبط به من أسئلة وقضايا، يدور هذا الحوار الطويل مع مؤلفه ابن مدينة طنجة، والذي ننشر هنا في العدد الجزء الأول منه:
كيف تغلب الأستاذ محمد بولعيش على التخوف وحطّم التردد ثم فكر في الانكباب على تحرير هذه الشذرات الموسومة بـ”السير على الأشواك.. شذرات من حياة” ونشرها؟ أو بتعبير آخر: ما هو الدافع الذي حفزك على تحرير هذه الشذرات ونشرها للقراء ؟ كما وضحت ذلك في مقدمة الكتاب، لم يكن هدفي عندما بدأت نشر الشذرات على الفايسبوك أن أؤلف كتابا؛ لكن بعد تقدمي في الكتابة بدأ بعض المتتبعين من بلاعشتي ورفاقي وأصدقائي يلحون عليّ بنشر الشذرات في كتاب، بل هناك من اقترح عليّ مساعدتي ماديا لإنجاز المشروع، فأخذت الفكرة تنمو وتستوي حتى صارت ما وصلت إليه وأصبحت واقعا ملموسا. وبهذه المناسبة، لا بد من أن أشكر كل من كان وراء زرع هذه الفكرة ورعايتها حتى نبتت..
اخترت لهذه السيرة عنوانين اثنين أحدهما رئيسي (السير على الأشواك) وآخر فرعي (شذرات من حياة). فهل تعني هذه “الازدواجية” أنك عشت نوعا من التردد في الاختيار؟ لا، أبدا. في البدء، كانت الشذرات؛ فعندما بدأت الذكريات تنساب من الذاكرة كتابة كان عنوانها على الفايسبوك: شذرات من حياة، إلى أن وصلت إلى ستين حلقة. وعندما أخذ بعض الظرفاء يقارن ما كتبت بالقرآن انطلاقا من العدد 60 (ستون حزبا) أدمجت شذرة في شذرتين، ليصبح عددها 59 تجنبا لهذا النوع من المزاح الثقيل؛ لكن عندما جاءت فكرة الكتاب كان لا بد من إعطائه عنوانا ملائما لمضمونه. وبما أن حياتي كانت عبارة عن أشواك سرت عليها جاء العنوان الرئيس للكتاب، واحتفظت بالعنوان الأصلي كعنوان فرعي. هل أجريت تعديلات معينة على النسخة الرقمية / الإلكترونية من هذه النصوص قبل خروجها إلى القراء مطبوعة بين دفتي كتاب؟ لم أرد أن يحدث أيّ تغيير على النص الأصلي الصادر على الفايسبوك، إلا ما كان من بعض التصحيحات اللغوية والأسلوبية، وبعض التعديلات التي أشار عليّ بها بعض الرفاق بخصوص بعض الأحداث (وهو قليل جدا على كل حال).. أما دون ذلك، فبقي على صورته الأصلية شكلا ومضمونا.

تج
مع في السيرة الذاتية بين الهواجس الخاصة والانفعالات الذاتية وبين الهموم والانشغالات العامة.. فكيف استطعت أن تحقق هذه المعادلة الصعبة المتمثلة في الجمع والتوليف بين هذين الجانبين سالفي الذكر؟ بصدق، لم تكن هناك صعوبات ذات قيمة كبرى في معالجة الجانبين المذكورين.. الصعوبات جاءت من محاورة الذاكرة واختبار ما مدى صِدْقيتها ووفائها لما كان بالرغم من تقادم الأحداث والوقائع، ومرارا كنت أتصل ببعض من عايشتهم وما زالوا في زمرة الأحياء لأتأكد مما أقول/ أكتب، وكذا صعوبة الحديث عن أناس أحببتهم وما زلت، وشكلوا أعمدة أساسية في مسار حياتي، وكنت أتألم كثيرا ومجددا حينما تعود إلى الذاكرة معاشرتي لهم ووداعهم المفاجئ في جل الأحيان، إلى حد أن الراحلين (من العائلة والأصدقاء) كانوا مرارا ما يزورونني ليلا في ظروف مختلفة بعضها على شكل كوابيس.. لكن، وبالمقابل، كان ذلك يوفر لي قدرا من الفرح بحكم استحضارهم والعيش معهم لحظات جميلة مستعادة من الماضي، فأنتشي بها في انتظار ما سيأتي من وقائع.يحرص بعض كتّاب السير الذاتية على تضمين الأعمال التي يعدونها وثائق وكتابات يرون أنها تعزز ما يسجلونه من كلمات وأحاسيس ومواقف؛ غير أنك اخترت الاكتفاء بالكلمة وحدها… ألا ترى أن اللغة وحدها (دون حاجة إلى الصور والوثائق) تظل قاصرة عن الوصول إلى الغاية المتوخاة من السيرة الذاتية؟ فعلا، ساورتني فكرة ضم بعض الصور إلى الكتاب تساير مراحل حياتي؛ لكنني عدلت عن الفكرة، بعد أن جمعت لها العدة من الصور (أخذت أنشر بعضها على الفايس مؤخرا).. ومردّ ذلك أنني فضّلت أن يشغِّل القراء مخيلتهم ومخيالهم ليتصوروا طبيعة الحياة والمراحل بأنفسهم دون اعتماد على وثائق أو صور، ليبدعوا الكتاب إبداعا ذاتيا جديدا باجتهاداتهم الخاصة، ويؤولوا النص حسب المعلومات الواردة فيه لا الخارجة عنه
اتّبَعــَت في كثير من الوقائع والأحداث التي أوردتها ضمن هذا الكتاب السيري مسلكا ينبني على الصراحة والجرأة والكشف عن المستور، على خلاف كثير من الأعمال التي تندرج ضمن هذا النمط من الكتابة.. ألا ترى أن هذه المسألة تنطوي على كثير من الإحراج في مجتمع ما زال لم يتخلص بعد من كثير من الأعراف والتقاليد البالية؟ ثم ألا تخشى أن تخلّف هذه الجرأة تأثيرات على علاقاتك ببعض الناس الواردة أسماؤهم في الكتاب؟ طبيعتي هكذا، مع عائلتي مع أصدقائي ورفاقي، لا أحب اللف والدوران.. فصراحتي قد تكون جارحة، وجرأتي قد لا تكون لها حدود لتصل إلى أكثر من الإحراج أحيانا. لكن من يعرفونني ومن يفهمون شخصيتي لا يرون في ذلك فضاضة ولا حرجا ما دام ما أقوله صادقا لا يُقصد به مسٌّ بشخص ولا تسفيه، إلا من كان يستحق ذلك، وهؤلاء لا يهمونني كثيرا، فليفعلوا ما شاؤوا.. لقد أدركت، من خلال الكتاب، أنني تأثرت كثيرا في هذا الجانب بأحد أصدقاء العائلة “المعلم الغورضو” (وقد تحدثت عنه في الكتاب) ومما تعلمته من “أن الحقيقة دائما ثورية” (لهذا فهي جارحة) ومن المثل المغربي المشهور: “عاملني معاملة خوك وحاسبني حساب عدوك”.
بالرَّغـم من الرهـان على الصراحة والجرأة، فإن القارئ لهذه المذكرات يقف في بعض المواضع / المقاطع منها على نوع من التحفظ، من قبيل: الإحجام عن الوقوف عند سبب توقف بعض المشاريع / تفادي ذكر أسماء شخصيات لها ارتباط ببعض الأحداث.. فما مرد هذا التحفظ/ التردد؟ لا أعتقد أنني أحجمت عن ذكر من كان وراء توقف بعض المشاريع خشية أو تهربا، وإنما لأن الأمر سيتم تأويله وإعطاؤه أبعادا ليست له فأسيئ هكذا إلى الناس بسبب خلافات أو اختلافات حصلت لم تكن ذات أثر عميق في سيرورة حياتي.. كما أنني تجاوزت ذكر أسماء اعتبرت أنها لا تستحق أن تذكر في كتابي حتى لا أعطيها قيمة ليست لها، لقد كنت على وعي بأن ما كل شيء يقال، وما كل غسيل قابل للنشر.. لأني لست من هواة نشر الفضائح فذاك ديدن صحف الرصيف ومن وراءها، ولم أكن لأهتم بحياة الناس الذين عشت معهم أو رافقتهم لمدة أو التقيت بهم إلا بالقدر الذي أفاد تطور مرحلة ما من المسيرة أو أثر فيها سلبا أو إيجابا، ولم أنبش فيما هو شخصي لهم ما عدا من كنت أعزهم ومن سكنوا سويداء وجداني.
يتقـاطـع الأمـل بالألم في كثيرٍ من المحطات التي استعرضتها هنا في الكتاب.. فهل جاء هذا التقاطع عن حرص ووعي مسبقين من لدنك؟ لم أختر هذا المسلك، بل فرض نفسه عليّ.. لقد أطلقت للذاكرة العنان تستحضر ما شاءت من وقائع الماضي ومساراته، ثم أختار ما هو صالح للنشر وما هو غير صالح. لهذا، لم أتبع في الكتاب مسارا كرونولوجيا محددا ولا تنظيما موضوعاتيا معينا.. فهاته الوقائع هي التي تأتي من تلقاء ذاتها محمّلة بالأمل أو الألم أو هما معا حسب ما أملته الظروف وما فرضه واقع الحال، ويكون من الصعب بل من المستحيل تجنبها أو التحايل عليها.
بين “الإخفــاق” (أو الخيبة) والنجاح، تسير صفحات هذه السيرة الذاتية: النجاح الدراسي والمهني يقابله الإخفاق النضالي والسياسي والإعلامي.. فما الانعكاسات التي خلّفها “الإخفاق” على نفسية السي محمد؟ ما عشته في الماضي قد ولّى وإن كانت آثاره لا تزال حاضرة، ولا أعتبر ما لم أستطع تحقيقه إخفاقا، قد يكون خيبة بمقياس الطموح الذي يكون يملأنا والأمل الذي يحذونا في التغيير والتغيّر، لأن ما تمكنت من إنجازه شخصيا أو جماعيا أعتبره تجارب ذات فائدة جمة، فمنها نتعلم وبها نهتدي ومن أخطائها نستفيد.. نجحت دراسيا ومهنيا وعائليا واجتماعيا في علاقاتي بالناس، وأنا فخور بذلك.. كما تمكنت من تكوين نفسي ثقافيا ونقابيا وسياسيا، وتطورت تطورا كبيرا خلال هاته المراحل التي مررت بها، واكتسبت قدرة لا بأس بها على الفهم والاستيعاب والتحليل والاستباق.. وهذا كله – كما ستلاحظ – إيجابي، بل حتى ما يمكن اعتباره سلبيا يتحول إلى ضده إن أُحسِن استغلاله.
كانت الذاكرة هي العُمدة والمُرتَكَـز في تحريـر هـذه المُذكـرات/ السيرة الذاتية، إذ لم ترد في الكتاب أية نصوص منقولة من المدون والمكتوب… فكيف أغفل السي محمد مسـألة كتابة اليوميات خلال مساره الحياتي، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض أبناء جيلك؟ لم أفكر قط في كتابة اليوميات أو المذكرات لسبب بسيط هو أنني لم أفكر قط، ولم يخطر على بالي قط، أنني سأكتب يوما سيرة ذاتية أو شيئا من هذا القبيل.. كما أنني كنت أعتبر ذلك بشكل من الأشكال ترفا لم أكن مستعدا له ولا وقت لي لإضاعته فيه، ما دام الأمر من اختصاص الكتاب والمبدعين، ولم أكن أعد نفسي – حتى الآن – من زمرتهم.
في ارتباط بالسؤال السالف، وردت إشارات ضمن الكتاب تعتذر فيها عن النسيان… فهل فاتك الوقوف عند واقعة معينة أو حدث محدد أو مكان أو شخصية أو غيرها من الجوانب التي لها ارتباط أو صلة معينة بموضوع هذه السيرة، ولم يأت إلى البال إلا بعد نشر الكتاب وخروجه إلى القراء؟ أشرت سابقا إلى بعض الهفوات التي كنتُ – وأنا أكتب الشذرات – أستشير فيها بعض من عايشوا الموضوع أو الحدث للتصحيح أو التقويم أو من لهم علم به.. وهناك مجالات أو علاقات أخرى لم أخض فيها أو تجنبتها قصدا وإلا سيصبح الكتاب في حجم لا أستطيع التحكم فيه شكلا ومضمونا، منها جانب عائلة زوجتي وعلاقتي بأصهاري التي كانت علاقة متميزة وغنية، وكذا تجربتي مع البلاعشة بخصوص الرابطة والعلاقات الملتوية داخلها؛ لكنها ذات دلالة، مع وبين مختلف مكوناتها وأطيافها البشرية والسياسية والمذهبية..
وهذان المجالان وحدهما يستحقان كتابا آخر، قد يسمح الوقت بإنجازه وقد لا يسمح.