مآلات الحضارة
جريدة الشمال – محمد الشـعـري ( الحضارة )
الجمعة 25 يناير 2018 – 17:46:38
بعض الباحثين يظنون أن حضارة أي أمة عبارة عن علومها، وآدابها وفنونها، وصناعتها وبدائعها، وأطوارها في الحياة المدنية والاجتماعية، وأسلوبها في الحياة السياسية، ولكن الحقيقة أن كل هذه الأمور ليست هي الحضارة نفسها، وإنما هي نتاج الحضارة ومظاهرها، وما هي بأصل الحضارة، وإنما هي أوراق شجرة الحضارة وتمارها.
إذا صح هذا، فلا يجوز أن نحدد وزن حضارة وقدرها وقيمتها على أساس مالها من هذه الصور الظاهرة والسمات العارضة.
والواقع أن الحضارة مآلات كثيرة ومتشابكة يؤثر بعضها في بعضها الآخر، وإن أول ما يكون من توابع الحضارة هو الميل إلى الترف الذي يؤدي إلى ازدهار الصناعات وتشكل فنونها ولكن ازدهار الصناعات لا يلبث أن يجعل البشر يتمادون في الترف والشهوات بالتدريج إلى أقصى الحدود، ولكن لصالح بعضهم فقط، وعلى حساب بعضهم الآخر، وحينئذ تفسد الأخلاق وتنهار ويكون ذلك مؤذنا بانهيار الدول والحضارات ذاتها، وبيان على النحو الآتي:
ـ الميل إلى الترف :
إن الميل إلى الترف هو نتيجة لحصول الرئاسة، حيث إن أمور الحضارة من توابع الترف، والترف من توابع الثروة، والتعليم من توابع الرئاسة، والرئاسة هي دور انتقالي من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة، وهذا الانتقال لا يكون إلا بالسعي إلى تحصيل الكمال بعد حصول الضروري، والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال معتادة رائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفاهة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر.
ـ ازدهار الصناعات:
الميل إلى الترف، والإنغماس في الشهوات والملذات، والترفه في الحاجات الكمالية من شأنه أن يؤدي إلى الزيادة في إنتاج تلك الحاجات الكمالية، وأن يشجع الصناع الذين يصنعونها على الإكثار منها، والتفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصناعات، ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه، وبقدر ما يزداد من أصنافها يزداد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها، ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات، أولئك الصناع في صناعاتهم، زمهروا في معرفتها والإعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا.
ـ ازدياد الترف وانتشار الفقر:
فالترف يولد الترف، والصناعات التي كانت وليدة الحاجة إلى الترف، تصبح عاملا في المبالغة فيه درجة درجة، إلى أن يصل إلى غايته، وإذا بلغ التأنق في الأحوال المنزلية وغيرها الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها، فلدينها استحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، أما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات…