متاهات التحليل في قراءة د. الحسن الغشتول لكتاب” إيميليو غارثيا غوميث”
الجمعة 11 مارس 2016 – 18:58:52
طالعتنا مُؤخرًا بعض دور النشر السعودية بكتاب يحمل عنوان ” إيميليو غارثيا غوميث “، الذي حاز الرتبة الثانية في سلسلة إصدارات الباحث المغربي التطواني الدكتور محمد العمارتي، بعدما كان قد أتحفنا من قبل بكتابه الفذ ” الأندلس برؤى استعرابية ، دراسة في جهود المستعربين الإسبان المهتمين بالتراث الأندلسي ” الصادر عن دار الكتب العلمية ، بلبنان.
من المعروف عن كتابات الدكتور العمارتي أنها تمتاز بخاصية التركيز الشديد والتأطيرالمنهجي المفرط لطبيعة البحث المتداول، علاوة على الغوص العميق في قرار الموضوع المعالج قصد اكتناه مكنون الحقيقة العلمية وسبر أغوارها وهوهدف كل باحث متمكنوديدنه، الشيء الذي منح لأعماله العلمية طابع الجدية والرصانة الموضوعية والتفوق على الكثير من البحوث والدراسات التي تناولت بالدرس والتحليل جانب الاستعراب الإسباني في مستوى علاقته الجدلية مع الثقافة العربية الإسلامية الأندلسية ، وهي قليلة في مجملها.
من هذا المنظور نقرر بأن التطرق بالنقد والتحليل لمصنفات الدكتور العمارتي يتطلب منا التسليح بمقاربات وأدوات منهجية ناجعة، حتى نتمكن من استجلاء صورة الاستعراب الإسباني وتقريبها إلى ذهن القارئ ، في منأى عن أي مزايدات إيديولوجية أوسياسية أو تاريخية أو مذهبية أو حتى منهجية.
هذه المعطيات المذكورة أعلاه غابت كليا وليس جزئيا خلال القراءة غير المتأنية التي قدمها صديقنا الدكتور الحسن الغشتول لكتاب د. محمد العمارتي ” إيميليو غارسيا غوميث ” في إطار فعالياتالدورة الثامنة عشرة لعيد الكتاب المنعقدة بمدينة تطوان من 9 إلى 16 دجنبر 2016 .
مما جعل الكتاب المقروء يفقد وزنه العلمي الذي أشرنا إليه أعلاه ، بسبب التسرع في إصدار الأحكام والتي اعتبرتها في حينها بأنها جاهزة وتفتقد إلى التجانس الموضوعي الذي يظل السبيل الوحيدلنجاح أي قراءة جدية وناجعة وهادفة. حيث نستشف من هذا الطرح بأن المحلل لم يستطع أو لم يقو على تفكيك طبيعة الموضوع وإعادة بنائه وصياغته من جديد. إيمانا منا بأن القراءة المنهجية المضبوطة لأي نص من النصوص هي في جوهرها مكملة للنص الأصلي ومعضدة له. ومن ضمنالهنات التي كنت سجلتها على القراءة المذكورة، أنها تاهت بين ثنايا تحليل مجمل المدارس الاستشراقية على مختلف مشاربها وأنواعها، وجعلتها في سلة واحدة، وذلك راجع إلى عدم رسم حدود فاصلة بين هذه المدارس ، مما أدىبالمتلقي إلى التيهان هو الآخر في تحديده للخيط الناظم بين مفهوم الاستشراق ومفهوم الاستعراب والخلفيات الإيديولوجية المؤطرة لهما، وما بين المفهومين ضاع التحليل القويم والنظرة العميقة المركزة.
تطرق الدكتور الغشتول في قراءته للكتاب إلى فكر مكسيم رودنسون بدون أي مسوغ فكري أوعلمي يتطلب ذلك، مما جعلني أشك بقوة بعدم قدرة المحلل على ربط أفكار وتصورات ومشاريع إيمليو غارثيا غوميث العلمية الضخمة، بمشاريع رودنسون. فهذا الأخير كان ينطلق في دراساته الشرقية من منطلق الفكر الماركسي المعتمد كما هو معروف على أسس المادية التاريخية، وعلى أسس الصراع الطبقي، وعلى النظرة الواحدية للتاريخ بخلاف إيميليو غوميث…..وقد ارتأيت أن يكون من المفيد جدا التعريف بصورة مبتسرة بهذه الشخصية حتى نتمكن في نهاية المطاف أننثبت مخالفتها تماما في بعدها المعرفي ورصيدها الثقافي، خط المستعرب غوميث، وبالتالي إقحامها في ثنايا قراءة الغشتول كان من باب التعسف على النص المقروء ليس إلا. فقد انضم مكسيم رودنسون إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في عام 1937 لأسباب أخلاقية، تحولت في وقت لاحق بعيدا بعد انجراف الحزب إلى الستالينية، تم طرده من الحزب في عام 1958، وقد اشتهر في فرنسا عندما أبدى انتقادات حادة إلى إسرائيل ومعارضة سياسات استيطان الدولة اليهودية. من آثاره: ” مباحث في فن الطبخ عند العرب ” سنة 1949. ” محمد ” سنة 1961 ” الرأسمالية والإسلام ” سنة 1966 ، ” الماركسية والعالم اإسلامي ” ، ” عظمة الإسلام”سنة 1980. وهنا نتساءل عن السبب الحقيقي الذي جعل الدكتور الحسن الغشتول قيامه بمقارنة بين فكر رجلين ينطلقان من مرجعيات مختلفةفي دراستهماللتراث العربي الإسلامي الأندلسي خاصة.
كما تطرق د. الغشتول إلى أعمال المستشرقة مانويلا مارين ( سبق للأستاذ مصطفى بنسباع ترجمة بعض نصوصها إلى اللغة العربية ). مع ذكرباعها الطويل في دراستها للفكر الصوفي الأندلسي…إلا أنه تعذر عليه أن يجد لها موطئ قدم داخل المنظومة الفكرية لإيمليو غارسيا غوميث، فتركت على هامش هذه المنظومة. أما الأدهى والأمر في هذه القراءة هو إقحام المستشرق الروسي الكبير وصاحب أهم كتاب في الأدب الجغرافي العربي “إغناطيوس كراتشوفسكي ” في ثنايا التحليل بصورة تثير الدهشة والاستغراب ، فالرجل لا محل له من الإعراب داخلنسق الاستعراب الإسباني.فلو تمعن المحلل قليلا في تراث هذا المستشرق وقارنه مقارنة علمية بتراث إيميليو غارسياغوميث لخلص إلى نتيجة واضحة متمثلة في تشابه المقدمات واختلاف النتائج . حيث تاه وصال وجال الدكتور الغشتول بين ثنايا الفكر الاستشراقي العالمي، مما جعل حيز قراءة كتاب الدكتور العمارتي تنحصر وتتقلص إلى الحد الذي خيل للمتلقي أنها كانت محاضرة في تحليل مدارس الاستشراق العالمي وليس مخصصةلدراسة تراث إيميليو غارسيا غوميث كما هو مسطر في الكتاب موضوع القراءة.
كما أجدني هنا مضطرا نظرا لضيق المقام أن أستعرض على وجه الإجمال مجموعة من الملاحظات التي غفلها المحلل،حيث كان من المفروض أن تكون من الركائز الأساسية والثوابت الضرورية في قراءة المتدخل للكتاب.
– تجنب الحديث عن تسلسل مدارس الاستعراب الإسباني انطلاقا من مدرسة بني كوديرا إلى حدود عصر إيميليو غارثيا غوميث
– عدم تفصيل المحلل القول في الرصيد الثقافي العلمي لغارثيا غوميث والذي يعد عمدة الفكر الاستعرابي الإسباني في جميع أطواره وحقبه التاريخية.
المحلل لم يشر بصورة تفصيلية لحياة إيمليو غارسيا غوميث في جميع تجلياتها وأطوارها ،مع العلم أن صاحب الكتاب بذل في معالجتهاوسبر أغوارها مجهودا جبارا ، يشكر عليه في التنقيب عليها واستجلاء مكامنها ومعالمهاوتحليل أبعادها مع محاولة قراءة خيطها الناظم بين مشاربها العلمية المتعددة الاتجاهات والاختصاصات –
عدم تطرق الباحث إلى بعض الشعراء الذين كان لهم في بعض مؤلفات غوميث الحضور القوي ، وعلى رأسهم الشاعرالزجال الأندلسي ابن قزمان.
–
الإشارة ولو بصورة مختزلة وعابرة لمترجمات إيميليو غارسيا غوميث، مثل كتاب “رايات المبرزين وغايات المميزين ” لابن سعيد المغربي، ورسالة الشقندي في فضل أهل الأندلس الواردة في كتاب نفح الطيب للمقري، وكتاب الأيام لطه حسين، وكان على رأس هذه المترجمات كتاب طوق الحمامة لابن حزم. ونقل هذه الكتب من لغتها الأصلية العربية إلى اللغة الإسبانية، يوضح لنا بالملموس مدى قدرة غوميث على امتلاك ناصية اللغة العربية وتطويع معانيها الشاقة والصعبة حتى على أصحابها الأصليين.-كان من المفيد جدا أن يحدثنا المحلل عن الظروف التي جمعت بين العلامة غوميث والدكتور طه حسين ، وكذلك عن ملابسات إحداث المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريدسنة 1950،Instituto Egipcio deEstudios Islámicos en Madrid). ولأجل إنجاح هذا المعهد تضافرت جهود العديد من الباحثين والمستشرقين الإسبان وعلى رأسهم العلامة غارثيا غوميث ، الذي كان آنذاك مديرا لمدرسة الدراسات العربية أيضا وعلما من أعلامها المبرزين.
-جل هذه المعطيات التي تجنب الخوض في ثناياها المتدخل، هي مستقاة من كتاب الدكتور العمارتي الذي يعد بحق فريد في بابه، ولهذا كان يتطلب قراءة هي الأخرى فريدة في بابها. نكتفي بهذا القدر من الرد السريع على مداخلة الدكتور الحسن الغشتول على أن نستأنف نقد ما فضل من الملاحظات في الجزء الثاني إن شاء الله .
.