محنة المنح الجامعية
جريدة الشمال – عبدالحي مفتاح ( (المنح الجامعية) )
الجمعة 10 نوفمبر 2017 – 16:54:54
المنحة الجامعية بقيت لعقود ثابتة لا تتحرك ولا تتزعزع، يستفيد من مبلغها القليل وأجرها الكثير وأثرها الجميل جميع الطلبة دون تمييز بين الفقير والغني والكبير والصغير و البدوي والحضري و المرأة والرجل، لم يكن الطلبة لذلك يحسون بضغط الفوارق الطبقية أو المجالية التي قد تباعد بينهم، بل كان الطالب رفيقا للطالب و أخا وظهيرا له على الأقل داخل ما كان يسمى ب”الحرم الجامعي”.
التعميم وما يرتبط به من مجانية في التعليم الذي يعتبر مجالا اجتماعيا استراتجيا بامتياز، كان عنوانا للخروج من مرحلة الاستعمار ودخول عهد الدولة الوطنية المستقلة الراعية، لكن كلما قطعت هذه الدولة أشواطا في زمن تكوينها واشتد عودها واشتبكت خيوط علاقاتها الكونية مالت إلى التقليص من هذه الرعاية حماية لنفسها من أعاصير الأزمات المالية وزلازل اقتصاد السوق و غضبات العيون الحمراء لمؤسسات التقنين والحكامة الدولية.
في ظل هذا الوضع خضعت المنحة الجامعية مبكرا، وقبل غيرها، لمقص”الحكامة و التوازنات المالية”، إذ مع ارتفاع رقم الطلبة الجامعيين لم يعد الالتزام بتطبيق التعميم كشعار من الأولويات الوطنية، فكان أن حصل ربط الاستفادة من المنحة ب “الحالة الاجتماعية” و”الدخل العائلي”، فتم بذلك التراجع عن هذا الحق المكتسب و القضم من نسب الممنوحين، شيئا فشيئا، فأوقدت نار الفتنة التي لم تزدد إلا استعارا مع مرور الزمن، واكتوت بنارها شريحة واسعة من أبناء هذا الوطن، إذ أن معياري “الحالة الاجتماعية” و”الدخل العائلي” لم يفلحا في ضمان العدل بين الناس أو تحقيق العدالة الاجتماعية.
وإذا سلمنا بأن التغير هو سنة الكون؛ وأن البارحة ليست هي اليوم وأن اليوم ليس هو الغد، وأن الله يفضل بعضا على بعض في الرزق، فقد نقبل على مضض بالتنازل عن المنحة وغيرها من الحقوق التي قد تخضع للنسبية في الأحكام، لكن، مع ذلك، لا يمكن التسليم، تماما، بنتائج عملية التوزيع السنوي للمنح الجامعية، بحكم الكوارث الاجتماعية التي تترتب عنها، والمآسي التي تعاني منها الأسر الضعيفة بسبب حرمان أبنائها الناجحين في الباكالوريا من المنحة، وبالتالي من خدمات الأحياء الجامعية ومن الحلم ومن الإحساس بالإنتماء إلى الوطن.
المشكل الأساسي، هنا، مرتبط بعدم بسط الدولة وأجهزتها البيروقراطية على مساحات واسعة من المعطيات المرتبطة بالنشاط الاقتصادي للأفراد، وبدخول الأسر وممتلكاتها وثرواتها، وبالمؤشرات الاجتماعية الدقيقة، على اعتبار أن القطاع غير المهيكل، والأنشطة غير الخاضعة للتضريب، و الممتلكات غير المسجلة تشكل جزءا لا يستهان به من النسيج الاقتصادي مع تفاوت بين المجالات الجغرافية، كما أن عددا لا يحصى من عمليات البيع والشراء والتمليك، والأشغال الخفية… لا يرصدها مجهر الحساب، وبذلك يصبح معيارا “الحالة الاجتماعية” و”الدخل العائلي” مائعين و لايمكن الاتكاء عليهما، دون اهتزاز، في تحديد من الأحق من غيره في الاستفادة من المنحة الجامعية.
فحسب روايات كثيرة متواترة، فإن أبناء حرفيين و مستخدمين وعمال وموظفين مدنيين وعسكريين وتجار وفلاحين بسطاء إلخ لاتشملهم، غالبا، بركة المنحة الجامعية، بل أن الأسرة التي يتعدى دخلها أحيانا-حسب تقلبات السنوات (والعجاف أحلكها)- ألفي درهم، كهذه السنة في إقليم شفشاون على سبيل المثال، لا يستفيد أبناؤها من المنحة، وهذا لعمري يشبه الجنون، فكيف بمثل هذا الدخل الشحيح لأسر مغربية أن تضمن متابعة أبنائها للدراسة الجامعية وأن تحقق أملهم في الحصول على الشواهد العليا وربما الارتقاء الاجتماعي أو ال”السترة” على الأقل، بعد أن يصيبهم هذا الحيف الذي يفرض عليهم المزيد من المعاناة بل الإحباط بعد أن اجتازوا نفق مسار دراسي طويل تحملوا أعباءه بصبرهم و صبر أسرهم المتواضعة المقصوم ظهرها بمصاريف الكراء والماء والكهرباء والدواء…؟!.
إن الإحصاءات التي تقدمها وزارات التعليم العالي والأرقام التي تستعرضها الحكومات كإنجازات، لا تساوي شيئا أمام قصص المعاناة الإنسانية ومحن عدد كبير من بنات وأبناء الأسر المغربية مع مجافاة المنحة الجامعية على علاتها، بل إن نسبة من هؤلاء يهجرون في صمت الجامعات متجرعين آلام الغبن وآلام “حكرة” أسرهم في بلد لم يستطع إنصافهم بتوفير دعم مادي بسيط لهم في إطار التضامن الوطني او التوزيع العادل للثروة.
ولاشك أن ما نسمع عنه من تفاوت في حصص المنح المخولة للعمالات و الأقاليم ونسب الممنوحين، يطرح أكثر من سؤال، ومع أن مبادرات بعض المجالس الجهوية والإقليمية كمجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة والمجلس الإقليمي لشفشاون بتخصيص اعتمادات خاصة للمنح الاجتماعية تتغيى الرفع من نسبة الممنوحين والمساهمة في التخفيف من “التفاوت المجالي” في توزيع المنح، فإن الحل الناجع في رأي بعض الفاعلين السياسيين والنقابيين لمحنة المنح الجامعية هو التعميم أو تغيير أسلوب التدبير على اعتبار أنه يصعب حاليا بالاعتماد على المعايير المعتمدة وطرق التحري والطعن و المنهحية المتبعة في التوزيع ، تحقيق الإنصاف والعدالة الاجتماعية والمجالية، كما أن عدم بسط الدولة أو الإدارات المعنية يدها على دواليب المجتمع، وعدم قدرتها على ضبط القطاع غير المهيكل والتهرب الضريبي ودخول الأسر وجزء كبير من النشاط الاقتصادي يستحيل معه ملء نقائص أسلوب التدبير المتبع حاليا في ملف المنح الجامعية.
وفي الأخير لابد من التأكيد أن مسألة الدعم الاجتماعي للطلبة تحتاج إلى مقاربة شمولية تمس السكن والنقل والتطبيب والإطعام والاستفادة من الخدمات الرياضية والثقافية والشغل الموسمي…، و إلى حين تبلور هذه المقاربة الشمولية عند حكوماتنا الموقرة الآتية فإن إعادة النظر في أسلوب تدبير ملف المنح الجامعية يكتسي أهمية استعجالية لأن التدبير الحالي ينتج عنه ظلم كثير لا يقبله العقل ولا يتماشى مع الاختيارات الاجتماعية لبلدنا و قد يتحول في يوم ما، لا قدر الله، إلى برميل بارود..