كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “مخاض حياة على جليد، وتحت الرماد”
الجمعة 30 دجتبر 2016 – 18:47:33
كيف يمكن التوثيق لإبدالات الزمن الثقافي المغربي الراهن؟ وكيف يمكن رصد سياق تبلور عناصر الثبات والتغير داخل نسق تفاعل مكونات الهوية الثقافية المغربية؟ وهل يمكن القبض بتلابيب هذه العناصر بدون العودة المستمرة للتأمل في تجارب الرواد والنخب والفاعلين، تشريحا للقيم وتحليلا للسياقات وتوثيقا للوقائع؟ وأخيرا، كيف يمكن الانتقال من الخاص إلى العام في سياق تلازم الاهتمامات الفردانية للذات المبدعة والمنتجة للأفكار وللقيم من جهة، مع رصيد المخيال الجماعي المشترك والمسؤول عن ترصيص العناصر الناظمة للهوية الثقافية المركبة والمشتركة لمغاربة الزمن الراهن؟ أسئلة متناسلة، تفرضها القراءة المتمعنة في مضامين السيرة الذهنية للأستاذ أحمد الطريبق أحمد التي صدرت في بحر السنة الجارية (2016)، تحت عنوان مثير وشاعري: “مخاض حياة على جليد وتحت الرماد”، وذلك في ما مجموعه 915 من الصفحات ذات الحجم الكبير، توزعت بين جزأين متكاملين في طبيعة المواد المكونة لبنية السرد والتوثيق والتركيب التي ينهض عليها العمل.
والحقيقة، إن صدور هذه المذكرات بلغتها الشاعرية الراقية، وبرؤاها النقدية التحليلية العميقة، يشكل إضافة متميزة لحقول كتابة التاريخ الوطني، مادام أن الأمر لا يتعلق بسيرة ذهنية خاصة بصاحبها، بقدر ما أنها سيرة جيل كامل، ينتمي لمرحلة انتقال تاريخي حاسم عرفه مغرب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. أضف إلى ذلك، أن الأمر لا يتعلق – إطلاقا – بكتابة خطية تسجيلية تتوخى تدوين الوقائع والأحداث والتواريخ، ولكن بسيرة ذهنية، تلاقحت داخلها الأفكار، واغتنت عبرها التجارب، وتعززت من خلالها المبادرات، فأنتجت كل هذا البهاء الأدبي والثقافي المرتبط باسم الرائد أحمد الطريبق أحمد.
لقد استطاع المؤلف تجاوز الطابع التقريري المباشر في نهجه الحكواتي، فكانت النتيجة بروز متن سردي عميق، يسمو بالذات وبالروح إلى مراقي الخلود والتميز، حيث تتداخل المهام المهنية الحصرية مع الاهتمامات الثقافية المتداخلة، ثم مع تغيرات المحيط الوطني والعربي والدولي في مستوياته المتشعبة والمتداخلة. يرصد الأستاذ الطريبق أدق التفاصيل ويستلهم أدق الجزئيات والحميميات التي قد لا تلتفت لها عين المتلقي العادي، ثم يقوم بتعويم حصيلة نبش الذاكرة الفردية والجماعية في حضن شعري دافق شكل الميسم المركزي للكتاب في كل مستويات مضامينه وفي جزئيات وقائعه. فحتى وهو يكتب عن المسار المهني، وعن الارتباطات الأسرية، وعن العلاقات الشخصية، ظل أحمد الطريبق شاعرا في كل شيء، في لغته، في استعاراته، في توثيقه، وفي تأويلاته.
ولعل هذا ما يثير الانتباه إلى ميزة أساسية في مجال كتابة تاريخ الذهنيات العالمة والمبدعة، مضمونها أن خير من يكتب صفحات هذا التاريخ، يظل الشاعر المسكون بلوثة القصيدة، فهو القادر على تجميع التفاصيل التي لا تنتبه لها عين المؤرخ المتخصص المهووس بالانضباط الحديدي لصرامة التوثيق المادي، وهو القادر على التوثيق للتراث الرمزي غير المدون عبر تعبيراته المتعددة والمرتبطة بإفرازات النظم المعيشية اليومية وبأنساق التفكير الفردية والجماعية.
لا شك أن كتابة السيرة الذهنية أو الثقافية وفق هذه المحددات المنهجية، تعطي للحصيلة صفة الخلود والسمو، مادام أن الأمر يصبح مرتبطا – في نهاية المطاف – بحصيلة عطاء بنية جماعية مركبة، تنصهر داخلها الذات لبلورة قيم التعايش المشترك، رغم كل الانزياحات الفردانية التي تفرزها سياقات تاريخية معينة. لذلك، فإن كتاب الأستاذ الطريبق يقدم خريطة للمشهد الثقافي المغربي والعربي للعقود الزمنية الأربعة الماضية، في أسئلته المؤطرة وفي انشغالاته المركزية، ثم في معالم نبوغه وعبقريته.
ورغم أن أحمد الطريبق أحمد قد اعتمد على البعد التركيبي الشاعري في تقديم حلقات سرده، فقد اختار إلحاق ملاحق توضيحية هامة بعمله، على رأسها ملحق خاص بوثائقه وبمراسلاته الشخصية مع أسماء وازنة من نخب المغرب والعالم العربي، من أمثال أبو القاسم محمد كرو ومحمد برادة وعبد الرحمن بوعلي ومحمد الطوبي وحميد سعيد ومحمد القيسي وصبري حافظ وعلي عقلة عرسان وأبي بكر القادري وأحمد شوقي بنيوب، إلى جانب ملحق خاص بالصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لمحطات من حياة المؤلف، سواء في بعدها العائلي أم في بعدها العلمي والثقافي والمهني الغزير والمتنوع.
لقد استطاع الشاعر أحمد الطريبق أحمد اختزال مساره الثقافي والعلمي بلغة تبتعد عن التتبع الحدثي التبسيطي الذاتي، فانفتح على تجارب الإبداع المختلفة وعلى تيارات الفكر والثقافة والمعرفة بعموم بلدان العالم العربي، راصدا أشكال تفاعله مع إبدالات هذه الحقول، على مستوى عطائها وتراثها وتحولاتها وأعلامها.
وللاقتراب من سقف الكتابة الشاعرية التي اعتمدها أحمد الطريبق في سرده الاسترجاعي، نستشهد بفقرة من تصديره للكتاب، جاء فيها: “علمتني الحياة القصيرة السباحة والطيران: أسبح في المحيطات الدواهي، دون أن أغرق وأطير في الأجواء السديمية دون أن أسقط… علمتني حياتي القصيرة أن أقف في وسط الدائرة لألمس ببصيرتي الأبعاد والحدود، وبعد الوقوف أتأمل خطوط الاتجاهات ومنطلقاتها وارتطامها. وفي نقطة الوسط تتضح الرؤية في اتساع هندسي شمولي، وفي نقطة الوسط تلتقي الرؤى في بؤرة ثاقبة. علمتني الحياة أن أثبت قدمي ثم أنظر إلى السماء حتى ولو ديست قدماي بأشواك الأرض، وحتى ولو عضتني السعالى وعقارب الأرض. كما علمتني أن أقفز بحركية في هضاب الثلوج وجليد الشتاء حتى وإن غشيني ضباب وحطمتني بروق الرعد الخاطفة…”.
هذه لغة الشاعر أحمد الطريبق، وهذه سيرته العلمية والثقافية مضمخة بأريج ملكوت النظم وبفتنة الاستعارات وببهار القصيدة. سيرة جيل كامل يظل عنوانا لنبوغ الثقافة المغربية المعاصرة، ولقلق السؤال، ولفتنة المتخيل..