مذكرات الهاشمي الطود.. خيار الكفاح المسلح في ظل المدرسة الخطابية
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( خيار الكفاح المسلح)
الثلاثـاء 12 شتنبر 2017 – 16:54:14
تعتبر قضايا كتابة تاريخ المقاومة المغربية المسلحة والحركة الوطنية السياسية التي جابهت مشاريع الاستعمار، إحدى أهم المجالات المؤجلة في سياق انشغالات قطاعات عريضة من مؤرخي المغرب المعاصر. كما تعتبر إشكالات هذا المجال، إحدى أكثر النقاط الملتهبة في الذاكرة الجماعية لمغاربة القرن 20 وبداية القرن 21، وذلك بالنظر لإثارتها لقضايا خلافية يتداخل فيها التاريخ مع إسقاطات النزوعات السياسية الذاتية، وتلتحم فيها الحقيقة مع إغراءات البطولات الحزبية الضيقة، وتتعارض داخلها الجهود العلمية في البحث وفي التوثيق مع توظيفات سياسوية فاقعة، حيث تتوارى الحقائق خلف سيل من الادعاءات والافتراءات أصبح هدفها الأساسي ينحو نحو اختلاق البطولات وافتعال الملاحم وتبرير الشرعيات التاريخية المفتقدة. ونتيجة لذلك، لم يكن غريبا أن ينزوي المؤرخ بعيدا عن زوابع “المذكرات” التي يتم تدبيجها تحت الطلب، “مذكرات” أقل ما يمكن القول عنها إنها لا تحترم الحس الأخلاقي والوطني والقيمي للشعب المغربي، كما أنها لا تقيم وزنا لأبجديات التوثيق الأكاديمي ولا لمنطلقاته المنهجية ولا لقواعده الإجرائية المعروفة، بل تتحول إلى قراءات نمطية لمحطات مفتعلة اختلقت معها الزعامات، وأصبحت آلية لتبرير سطوة الراهن ولخنق حق الباحثين في السؤال وفي التشكيك وفي البحث وفي التقييم.
وكما نجحت مثل هذه “المذكرات” – ولا أقول كلها – في اختلاق زعامات ورقية كتبت تاريخا هجينا لوقائع نضال المغاربة ضد الاستعمار وضد كل أشكال التكالب الأجنبي حول بلادنا، فقد انهارت مصداقيتها وظلت حبيسة مكتبات أصحابها والهيآت المرتبطة بها. وفي المقابل ظل البحث العلمي، يبحث عن نقاط الضوء في عتمات ماضينا الجهادي، لا بهدف استغلاله لاكتساب عناصر التفوق في التدافع السياسي أو المصلحي الراهن، ولكن بهدف التأسيس لمنطلقات بديلة ومرجعية لكتابة تاريخ النضال الوطني من أجل الحرية والاستقلال، بعيدا عن الأهواء الذاتية وعن اليقينيات المطلقة وعن الشوفينيات المصلحية، سواء منها الحزبية أو الرسمية. وإذا كان هذا التوجه لازال محصور التأثير لاعتبارات موضوعية، أهمها مرتبط بقلة توفر المظان المصدرية وبتغييب رهيب للوثائق الضرورية للاشتغال وبتنازع جهات متعددة حول شرعية هذا الرصيد، فالمؤكد أنه أصبح قادرا على تجاوز طابعه الجنيني من خلال اكتساب القدرة على اختراق حقل الطابوهات والسعي إلى الكشف عن مختلف الجوانب المنسية أو المغيبة في ذاكرتنا النضالية الجماعية، وفق رؤى مجددة لا ولاء لها إلا لصرامة البحث العلمي ولمنطلقاته المنهجية في البحث وفي التوثيق وفي التحليل وفي الاستنطاق وفي الاستنباط.
ونتيجة لهذا التطور المعرفي الأصيل، أصبحت الساحة العلمية تعرف عودة جماعية لإعادة الاشتغال على ذاكرة بعض ممن كان لهم دور في حركة النضال الوطني ضد الاستعمار، سواء داخل المغرب أو خارجه، وسواء من خلال العمل التأطيري والتنظيمي على المستويين السياسي والعسكري، أو من خلال الإشراف على تعبئة الامتدادات الشعبية لجهود توجيه النضال من أجل الاستقلال منذ منتصف القرن 19، وخاصة عقب سقوط الجزائر تحت قبضة الاحتلال الفرنسي سنة 1830، ومرورا بوقائع حركة المقاومة المسلحة التي تفجرت في سياق حدث التوقيع على عقد الحماية الفرنسية على المغرب يوم 30 مارس من سنة 1912، وانتهاء بالمسارات المتشعبة التي أفضت إلى حصول البلاد على استقلالها السياسي سنة 1956. لقد قيل الشيء الكثير بهذا الصدد، ومع ذلك أصبح الباحثون ينزعون -باستمرار- نحو تجديد قراءاتهم لمضامين الخطاب الوطني بهذا الخصوص، بل ظهرت توجهات واضحة لإعادة تقليب مضامين وثائق المرحلة وفحصها ونقدها واستغلالها وتحليل خلفياتها. وقبل هذا وذاك، بدى من الواضح أن الجهود أصبحت تراهن على استنطاق ذاكرة الذوات الفاعلة التي كان لها حضور داخل المشهد النضالي والجهادي لمغاربة النصف الأول من القرن 20. فبدأ الاشتغال من جديد على العديد من السير الجهادية المنسية، وبدا أن الأفق قد أصبح مشرعا من أجل تدارك كل أشكال التهاون أو التخاذل أو الجحود أو التحريف التي اعترت هذا المجال.
في سياق هذا التصور العام، يندرج اهتمامنا بالتوثيق لسيرة المجاهد الصلب والوطني الغيور الهاشمي بن عبد السلام الطود، اهتمام نسعى من خلاله إلى إلقاء أضواء كاشفة على جزء من ملاحم النضال الوطني المرتبط بتجربة التنظيم والتأطير التي أشرف عليها المجاهد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال فترة مقامه بمدينة القاهرة، منذ لجوئه إلى الديار المصرية سنة 1947. لقد استطاع المجاهد الهاشمي الطود أن يربط اسمه باسم جل المشاريع التحررية الوحدوية على مستوى كل أقطار المغرب العربي الكبير، كما استطاع أن يبلور فهما متقدما لأسس الصراع ضد الاستعمار بالمنطقة المذكورة، وذلك باستلهام أفكار الأمير الخطابي وبالانتقال إلى ترجمتها ميدانيا من خلال الإشراف على التأطير والتدريب العسكريين الممهدين لإعلان انطلاق جيش تحرير المغرب العربي.
وقبل ذلك، استطاع المجاهد الطود أن يرسم مسارا جهاديا أصيلا، بدءا من فلسطين، ومرورا بالعراق، وانتهاء بالقاهرة. وفي كل هذه المحطات، عايش المجاهد الطود الكثير من الأسماء التي كان لها وزنها في ساحة العمل الوطني على مستوى كل العالم العربي، كما ظل مخلصا لمنطلقات “المدرسة الخطابية” في البذل وفي العطاء.
ورغم أن الرجل قد استطاع في زمن قياسي أن يصبح محط ثقة الأمير وأن ينجز مهاما تأطيرية رائدة، قرأنا عنها تفاصيل عديدة في مذكرات الكثير من رموز النضال الوطني بكل بلدان الشمال الإفريقي، فإن مؤامرة المحو بمغرب ما بعد الاستقلال السياسي قد اشتغلت بوتيرة سريعة، بهدف اجتثات كل جذور “المدرسة الخطابية” وامتداداتها في ضمير رجالاتها. فكان الانتقام الأعمى باختطاف الوالد، عبد السلام بن الهاشمي الطود، ثم الخال عبد السلام بن أحمد الطود ورفيقه إبراهيم الوزاني، وتعرضت أسرة الطود لامتحان شديد إلى جانب العديد من شرفاء هذا الوطن الذين كان لهم رأي مختلف حول مجمل المسار الذي أطرته “إيكس ليبان” وأفضى إلى حدث الاستقلال السياسي. فكان تنكيل بعض زعماء “وطنية” مغرب الاستقلال، استمرارا لأشكال متعددة من تآمر الإدارة الاستعمارية على وطنيي أسرة الطود. وكان الثبات على الموقف، وفي المقابل كان الجحود وكان الحقد الأعمى وكانت الجريمة الجبانة في حق رجال ذنبهم الوحيد أنهم كانوا صادقين في إخلاصهم وفي قول كلمة الحق مهما تضاربت الأهواء واختلفت المصالح.
لقد عايش المجاهد الهاشمي الطود تفاعلات هذه الأحداث من مقر إقامته بالقاهرة، وتتبع تفاصيلها بالكثير من الدقة ومن الرصانة، مسجلا صرخته ضد من جازاه على وطنيته بالطريقة الهمجية المعروفة، هيآت وأحزاب وأفراد.
وعندما عاد إلى أرض الوطن، ظل وفيا في إخلاصه لذكرى معالم “المدرسة الخطابية”، فابتعد عن الأضواء وانزوى بعيدا عن السباق المحموم الذي عرفه مغرب الاستقلال من أجل الاستغلال النفعي للرصيد الرمزي لتركة الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة بالمغرب. وبين هذا وذاك، لم نعرف عن المجاهد الطود إلا صفة التواضع ونكران الذات، صفة لازمة لعظماء الأمة الخالدين الذين لم يبحثوا عن جاه ولا عن منصب ولا عن أي امتياز نفعي من وراء ما قدموه من بذل ومن تضحيات في ساحة الوطنية الحقة.
فعلى امتداد ساعات طويلة من الجلوس مع المجاهد الطود ومن تسجيل تفاصيل ذاكرته الخصبة، أصبحنا مقتنعين بأهمية ما تختزله ذاكرة الرجل من محطات ومن معطيات ضرورية للتوثيق لتجارب تحررية ممتدة تاريخيا وجغرافيا عبر خريطة العالم العربي. بل إن سيرته أصبحت جزءا عضويا من سيرة الأمير الخطابي ومن جهوده التأطيرية والتنظيمية التي بلورها أثناء فترة مقامه بالقاهرة. وإلى جانب هذه القيمة التاريخية، لابد أن أؤكد على انبهارنا الكبير بالجانب الإنساني في تجربة المجاهد الطود، الأخ والأب والإنسان، تجربة أخلاقية يمكن أن تتحول إلى مدرسة راقية في التواضع وفي حسن الإنصات وفي الابتعاد عن الأضواء.
لقد حرصنا على تجميع تفاصيل هذه السيرة العطرة، وإخضاعها للافتحاص وللتصنيف وللترتيب الضروري والكفيل بتحويلها إلى مادة مرجعية يمكن أن تصبح موضوعا مركزيا لاشتغال الباحثين والمؤرخين المتخصصين. إنها مظان لاشك وأنها ستنير عتمات مخاضات النضال التحرري المغاربي المبادر، وستفتح أبوابا واسعة أمام إمكانيات التدوين والاستغلال العلميين، خاصة وأن ذاكرة الرجل لازالت ثاقبة وأن خزانته لازالت غنية بالكثير من الوثائق ومن الشواهد المعززة للمتن السردي المعتمد في هذا الحوار. إنه حوار السيرة والذاكرة، يقرأ الماضي ويستنطق الحاضر ويستشرف المستقبل. فلعله يعيد بعضا من الاعتبار لبعض أعلام حركة التحرر الوطني الذين طالتهم الآلة الاستعمارية أولا، ثم تآمرت عليهم بعض الزمر المتسربلة – عن باطل – بلباس الوطنية والمقاومة خلال مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي ثانيا. فإلى أرواح كل الضحايا من هؤلاء الأعلام نهدي عملنا المتواضع هذا..