“مراسلات وطنية أخوية موجهة إلى الأستاذ محمد داود”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( (محمد داود) )
الجمعة 10 نوفمبر 2017 – 18:20:53
وفي كل هذه الامتدادات الجغرافية الموروثة عن الاستعمار، ظل الأستاذ محمد داود علما شامخا ونبراسا مضيئا لبث معالم النبوغ والتميز والعطاء والجرأة والتجديد التي ميزت عطاء الحركة الوطنية بمنطقة الشمال خلال عقود الاستعمار.
وبخصوص الإطار العام الناظم لمضامين الكتاب، فقد لخصته حسناء داود في كلمتها التقديمية، عندما قالت: “هذه نصوص مراسلات صدرت عن شخصيات بارزة، كان لها وزن وحضور وقيمة في ميدان الوطنية والسياسة والأدب والاجتماع والثقافة…، شخصيات جمعت بينها وبين الأستاذ محمد داود علاقة ود وصداقة، وأخوة وعمل، وتفاهم وتقارب، فتحابوا في الله، وتعاملوا بما يرضي الله، وعاشوا من أجل تحقيق أمالهم وآمال وطنهم، ثم ماتوا وهم راضون عما قدموه، مرتاحون لما أدركوه… أما مجموع هذه الرسائل، فهو 541 رسالة، جمعت من المعلومات والمحادثات والأخبار والأسرار والطرائف، الكثير مما يعكس لنا اهتمامات وانشغالات ومشاعر وارتسامات هؤلاء الرجال، الذين كان لهم دور –من قريب أو بعيد- في سلسلة أحداث الوطن، خلال الفترة التي يتحدثون فيها أو عنها…”.
هي رسائل كتبت بمداد الوفاء والإخلاص، جمعت بين العمق الإنساني النبيل من جهة أولى، وبين التاطير الوطني التعبوي من جهة ثانية. كتبها رجال لهم وزنهم داخل مسارات العمل الوطني التحرري ضد الاستعمار، يتعلق الأمر بكل من أحمد بلافريج، والطيب بنونة، والحاج محمد بنونة، والحاج عبد السلام بنونة، والحاج الحسن بوعياد، والعربي الديوري، وعبد الخالق الطريس وعبد الله كنون، ومحمد المكي الناصري، ومحمد المختار السوسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، والحاج محمد اليزيدي.
و إذا كانت هذه المراسلات قد احتوت على تفاصيل كثيرة وغزيرة تهم المسار النضالي التحرري للأستاذ داود، فإنها –بموازاة ذلك- استطاعت أن تتحول إلى سجل للتأريخ لمبادرات كل واحد من الشخصيات المذكورة في الكتاب. دليل ذلك، أن المراسلات ظلت تعكس قلق النخبة وهواجسها وانشغالاتها، منفتحة –في ذلك- على انتظارات العمل الوطني وعلى سبل تطويرها وتخصيبها من خلال مبادرات متكاملة غطت مجالات متعددة سواء من داخل المغرب أم من خارجه. في هذا الإطار، نستطيع الوقوف –على سبيل المثال لا الحصر- على الكثير من تفاصيل الجهد النضالي الذي كان يقوم به الأستاذ أحمد بلافريج في مستوياته المختلفة انطلاقا من القاهرة ومن الرباط ومن باريس ومن جنيف ومن نيويورك. ونفس الشيء، يمكن أن يقال عن كل الأسماء الأخرى التي كانت تراسل الفقيه دواد.
باختصار، تحولت هذه المراسلات إلى وثائق ثمينة، لا شك وأنها تكتسب قيمة أصيلة، بتوفيرها للمادة الخام الضرورية للاشتغال بالنسبة للباحثين وللمؤرخين، بل إن قيمتها تتجاوز إطار البحث التخصصي التاريخي، لتشمل مجالات رحبة من العلوم الإنسانية، وخاصة بالنسبة للدراسات الأدبية وللتنقيبات السوسيولوجية الراصدة لأوجه التحول داخل بنية التفكير المهيكلة لسلوك الفرد والجماعة بمغرب القرن 20.
إنها مراسلات توثيقية تعيد تقليب صفحات العمل الوطني، انطلاقا من وثائقه الغميسة التي تؤرخ للتفاصيل وللجزئيات التي كثيرا ما ظلت تنفلت من بين أسطر متون المذكرات المتواترة الصدور لبعض الفاعلين والمنتسبين للعمل الوطني خلال زماننا الراهن. وإذا أضفنا إلى ذلك قوة اللغة وجدة المواضيع وسلاسة الأسلوب الذي كتبت به كل هذه النصوص، أمكن القول إننا أمام ذخيرة هامة من العناصر الراقية المؤثثة لعناصر الذاكرة الجماعية التي يمكن أن تشكل أرضية لدراسات نقدية أدبية مسترسلة، ونقطة الارتكاز في التأريخ لمسارات تشكل ذهنيات العطاء الثقافي والإعلامي لنخب مغرب التحول خلال عهد الاستعمار، وخاصة على مستوى تطور أنساق التفكير الجماعية ثم على مستوى النظم المعيشية والتدبيرية والمواقفية التي أضفت على الحركة الوطنية المغربية بالشمال هويتها المميزة داخل حضنها المغربي الواسع وداخل امتداداتها القومية والدولية الرحبة.