ـ كيف كانت النشأة الأولى؟ ومن هم الأشخاص الذين كان تأثيرهم فيك قويا؟
ـ كانت النشأة الأولى بمدينة شفشاون حيث ولدت وقضيت فيها مرحلة الطفولة وبعضا من سن الشباب.
امتازت هذه المرحلة بحركة المطالبة بالاستقلال، كما كانت هناك حركة ثقافية تهدف إلى شرح الأوضاع التي يعيشها المغرب إبان الاستعمار الإسباني لمنطقة الشمال.
ـ كيف مر أول يوم في المدرسة؟
ـ كانت العادة أن يلتحق الطفل بالمدرسة “الكتاب القرآني” في سن مبكرة، ويعتبر ذلك اليوم حدثا هاما في تاريخ الطفل وفي حياة أسرته حيث يلبس أحسن الثياب وأحيانا جديدها، مع حفل صغير يقام بالمسيد فتقدم بعض المأكولات البسيطة للأطفال وبعض النقود للفقيه فترفع أكف الضراعة بالدعاء للملتحق، وبصفتي كنت حفيدا للفقيه قوبلت بكثير من الرعاية والاهتمام من طرف “المحضرة” ومكثت فيه إلى أن حفظت القرآن الكريم، ولأجل ذلك أحسست بسعادة غامرة وفرحة كبيرة.
ـ ما أبرز الأحداث العالقة بالذاكرة عن المرحلة الابتدائية؟
ـ في ذلك الوقت لم يكن يوجد بمدينة شفشاون إلا مدرستان؛ مدرسة عمومية عصرية ومدرسة دينية، وكان يلتحق بهذه الأخيرة من حفظ القرآن وبعض متون النحو والصرف والفقه، ولذلك كان طبيعيا أن ألتحق بالمعهد الديني الابتدائي.
صادف التحاقي بالمعهد الديني التحاق زمرة من شباب المدينة تحفزهم الرغبة في الأخذ من العلوم التي كانت تدرس به من تفسير وحديث وفقه ونحو وتاريخ وجغرافيا.
وأبرز ما علق بالذاكرة هو أن التعليم كان بالمسجد الأعظم في حلقات؛ كل حلقة تمثل مستوى تعليميا من السنة الأولى إلى النهاية، أضف إلى ذلك أن أول درس حضرته كان في النحو على يد أستاذ قدير كانت شهرته في هذه المدينة عالية جدا، وتأثرت كثيرا بطريقته في التدريس حيث كان يعتمد الحوار والمناقشة وأسئلة الاختبار لمكافأة المجدين وتحفيز المقصرين.
وفي هذا الظرف زارنا بالمعهد الديني ممثل الجامعة العربية ” أحمد الشقيري” وبعده أمينها العام “عبد الخالق حسونة”، وأقيمت لهما حفلات استقبال من لدن الطلبة.
ـ كيف قضيت سنوات الدراسة في المرحلة الثانوية؟
ـ توزعت دراستي الثانوية بين شفشاون وجامعة القرويين بفاس وكان ذلك مع بداية عهد الاستقلال حيث توافدت على القرويين أفواج الطلبة من مختلف جهات المغرب، وكان العرف يقضي بإجراء اختبارات للطلاب للتعرف على مستواهم الحقيقي، ومدى تناسبه مع النظام المطبق في جامعة القرويين…وكنا نحضر كل صباح إلى المجلس العلمي بفاس وننتظر قدوم اللجنة التي قامت بزيارة إلى تطوان للاطلاع على المناهج والمقررات السائدة فيها. ولما عاد الوفد برئاسة المرحوم العالم أحمد بنشقرون، ومن ساحة المجلس العلمي بالصفارين، أعلن للطلبة القادمين من الشمال بأن كل واحد منهم سيلتحق بالمستوى الذي كان يستحقه في المعهد قائلا بأنه بعد الاطلاع على المناهج التربوية والمقررات الدراسية وأساليب التقويم تبين أنها متقدمة ومتطورة ومسايرة للتطور الذي تعرفه النظم التعليمية الحديثة.
وخلال دراستي بالقرويين، أذكر أنها كانت في البداية في مسجد الجامع حيث كان الطلبة يتحلقون حول العلماء كل في طبقته ومستواه، وكان بعض العلماء يمتاز بالفصاحة وحسن الإلقاء، ومن هؤلاء ـ تمثيلا لا حصرا ـ المرحوم الشاعر محمد الحلوي، والدكتور عبد الهادي التازي، والفقيه محمد الأزرق، والأستاذ عبد الرحمن العمراني، والأستاذ محمد الصقلي.
وبعد حوالي ثلاثة أشهر انتقلنا إلى معهد على الطريقة العصرية، فكانت نقلة نوعية في تاريخ القرويين إذ أدخلت وسائل تعليمية جديدة كالسبورات والخرائط…إلا أني فوجئت بإضراب دام أكثر من شهر، وبعد ذلك أذكر أنه التحق عدد من الأساتذة لتدريس المواد العلمية استجابة لحركة الإضراب.
وفي هذا العهد زار المغرب الدكتور طه حسين، وخلال تفقده الأقسام كان يقف عند بعض العلماء إعرابا منه عن إعجابه بإلقائهم وسرعة استحضارهم للمعلومات من الذاكرة دون الرجوع إلى الكتب. وأقيم لعميد الأدب العربي بالمناسبة حفل استقبال كبير حضره العلماء والطلبة والمثقفون، فكان يوما مشهودا في تاريخ الثقافة المغربية.
هذا؛ وقد توجت دراستي الثانوية بنيل شهادة البكالوريا من المعهد الديني بتطوان، والشهادة التوجيهية من كلية ابن يوسف بمراكش وذلك بعدما أضيفت للمعاهد الدينية قصد تعميق وترسيخ الدراسات الفلسفية والأدبية والعلمية، ولتأهيل الطلبة المتخرجين منها للالتحاق بكلية الحقوق وكلية الآداب.
ـ حدثونا عن ظروف التحاقكم بمهنة التدريس.
ـ الظروف التي ساهمت في التحاقي بمهنة التدريس هو فتح المجال للالتحاق بمدرسة المعلمين وكانت الصدفة هي التي لعبت دورا في هذا الالتحاق فقد كنا جماعة من الطلبة نستمع لنشرة الأخبار الزوالية من الرباط وإذا بالمذيع يقدم بلاغا من وزارة التعليم يعلن فيه عن تنظيم مباراة الدخول إلى مدارس المعلمين؛ وفعلا اجتزنا هذه المباراة في شهر يونيو من سنة 1957، وتقدم لها 900 مترشح، فكان النجاح حليف نحو الثلاثين، وكنت بفضل الله من بينهم مع صديقين؛ وقضيت سنة تكوينية بمدرسة المعلمين… وللحقيقة فإن هذه السنة كان لها تأثير كبير في مستواي الدراسي والسلوكي بفضل إخلاص الأساتذة وتفانيهم في عملية التكوين.
وعقب تخرجي من مدرسة المعلمين بوجدة عينت بمدرسة ابن رشد بالمدينة ذاتها، وكانت تضم ثلة من خيرة رجال التعليم، وكان مديرها الفرنسي يتحلى بالجدية والاستقامة والموضوعية الإدارية، أضف إلى هذا أنني كنت دائما متطلعا إلى التدريس بالتعليم الثانوي، فما أن حصلت على البكالوريا حتى التحقت بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط حيث قضيت ثلاث سنوات عينت إثرها أستاذا، وفي الوقت ذاته حصلت على الإجازة في الآداب والحقوق من جامعة محمد الخامس، ودبلوم الدراسات العليا في النقد الأدبي.
ـ ما أبرز المحطات في حياتكم الوظيفية؟ وما أبرز الأحداث التي عشتموها في مجال التدريس؟
ـ أول محطة هي زيارة لجنة الكفاءة الابتدائية التي كانت تفاجئ المعلم لإجراء الاختبارات العملية والشفوية، وكانت تستغرق يوما كاملا تقدم فيها الدروس المقررة في اليوم الدراسي وتقترح اللجنة دروسا أخرى. أما الاختبارات الشفوية فكانت تشمل تحليل نص لغوي أو أدبي، والإجابة على أسئلة في تاريخ الإسلام وتاريخ المغرب بالخصوص، وعلى جغرافية المغرب، والتشريع المدرسي، ونقد دفتر غير معروف الهوية.
وبالرغم من كوني معلما جديدا فقد أسندت إلي السنوات النهائية “قسم الشهادة” وكان يتردد في قبولها معظم المعلمين مخافة المسؤولية في نهاية السنة، إلا أنني بعون الله وتوفيقه أحرزت على نسبة نجاح هائلة تجاوزت نسبة 90 في المائة، مما زادني ثقة في النفس وحبا لمهنة التدريس، وأذكر أن التلاميذ كانوا يتجاوبون مع ما يقدم إليهم من معلومات ومعارف، وشهد بذلك المفتش الذي كان معروفا بنزاهته وجديته عند زيارته لي، إذ أعجب بطريقة الحوار والتفاعل داخل القسم مما جعله في نهاية الدرس يطرح أسئلة لاختبار التلاميذ في معلوماتهم المكتسبة، ومستوى ذكائهم، مما أفضى به إلى التنويه بهم ومنحهم جوائز تشجيعية.
ومما أذكره أنني في التعليم الثانوي كنت حريصا على ترك هامش لمداخلة التلاميذ وإبداء الرأي في المادة وفي الدرس، وأحيانا في الطريقة، وكان بعض التلاميذ يستوقفني أمام بعض الحقائق التي لا يتصور أن تصدر عنهم في ذلك السن، وكان مرد ذلك إحالتي إياهم على المطالعة الحرة في مكتبة المدرسة ومكتبة المدينة ومكتبة الفصل المكونة من اختياراتهم وإسهاماتهم.
ـ نشطتم في “جمعية أصدقاء المعتمد” بشفشاون. حدثونا عن هذه المرحلة.
ـ تعتبر هذه المرحلة نقلة نوعية في حياتي الثقافية والأدبية، فقد طُلب مني أن أنخرط في هذه الجمعية صيف 1964م، وكانت تضم نخبة من شباب مدينة شفشاون، وكان هدف نشاطها نشر المعرفة بين طلاب المدينة، كما كان ذلك مناسبة لي للمساهمة في مختلف الأنشطة كالمحاضرات والندوات والمعارض والمسرحيات…
وفي شتنبر1965 نظمت الجمعية أول مهرجان للشعر باقتراح مني ولقي استحسانا من كافة أعضاء المكتب، إلا أن بعضهم تخوف من عدم نجاحه غير أنني أقنعتهم بنجاحه، وذلك بفضل تراكمات التجربة التي عشتها في كنف العمل الجمعوي بوجدة وفاس والرباط ومن صداقتي مع رئيس جمعية نبراس الفكر بتطوان الذي سبق له تنظيم مهرجان ثقافي حول ” الفكر الإسلامي بالأندلس”.
بعد تقديمي لزملائي تصورا متكاملا عن تنظيم مهرجان الشعر الأول، شرعنا في اتخاذ الإجراءات اللازمة، وفي مقدمتها اختيار المشاركين من الشعراء والنقاد، فلقيت دعوتنا استجابة سريعة ومرحبة بالحضور في الموعد المحدد. وفعلا تقاطرت على شفشاون وفود من مدن مغربية شتى: الدار البيضاء، الرباط، فاس، مكناس، القصر الكبير، تطوان، طنجة، مراكش.
ومن أبرز الأسماء التي حضرت، أذكر ـ تمثيلا لا حصرا ـ د. محمد السرغيني، ذ. محمد زنيبر، ذ. حسن السايح، ذ. حسن الوراكلي، ذ. محمد الناصري، ذ. مصطفى القباح، ذة. خناثة بنونة، ومن الشعراء: محمد الخمار الكنوني، أحمد صبري، أحمد الجوماري، مليكة العاصمي، محمد الميموني، عبد الكريم الطبال…
ومن أبرز الشعراء العرب الذين حضروا إلى شفشاون ضيوفا على أصدقاء المعتمد الشاعر نزار قباني الذي شرفت بتقديمه للجمهور في قاعة الحفلات ، وكذلك الأستاذ علال الفاسي، والشيخ محمد المكي الناصري.
وتوالت المهرجانات حتى المهرجان الخامس سنة 1970 إذ عرفت تطورا ملحوظا مضمونا وشكلا بناء على التوصيات التي كانت تختتم بها المهرجانات السابقة، وعملية التقويم التي كانت تعتمد على تقارير وملاحظات الصحافة الوطنية، وخاصة الملحق الثقافي لجريدة “العلم”.
ولعل أهم ما يلفت النظر في هذه التجربة أنها رغم ضخامتها في تلك الفترة، فقد كان اعتمادنا في تمويلها على أنفسنا بإمكاناتنا اليسيرة، وعلى دعم المتعاطفين مع الجمعية، إلى حد أننا خصصنا بيوتنا للضيوف المشاركين.
أما موضوعات المهرجان وشعاراته فقد كانت تختار بعد تداول أعضاء المكتب وأعضاء الجمعية في اجتماعات عامة، واستشارات مع الأدباء وخاصة مع اتحاد كتاب المغرب، من ذلك مثلا موضوع فلسطين في الشعر المغربي، وموضوع الأدب بين الحرية والالتزام.
ـ لما تقلدتم مهمة مدير ثانوية الشريف الإدريسي بتطوان، كيف كانت التجربة؟
ـ لم يكن من السهل أن أتقلد مهمة مدير ثانوية الشريف الإدريسي نظرا لكوني مكلفا بالتفتيش في منطقة شاسعة، ومع ذلك أقدمت على هذه التجربة بغرض تنفيذ بعض التجارب التربوية في الميدان والإنصات إلى ما يروج في الساحة التعليمية.
كانت الثانوية تضم 130 أستاذا وموظفا إداريا و2000 تلميذا. وجدت في البداية بعض الصعوبات في تحقيق المنظور التربوي الذي كنت أنشده، ولكن بفضل تعاون الطاقم الإداري والتربوي وتحمسه، وضعنا خطة للنهوض بمستوى التسيير الإداري والتربوي، فأبدعنا أنشطة موازية مثل محاضرة الشهر، وندوة في كل فصل دراسي حول شخصية كبيرة مثل ابن خلدون والشريف الإدريسي وقضية المرأة بين الإسلام والقوانين الوضعية، كما نظمت بعض المعارض في أواخر السنة الدراسية، أسهم فيها التلاميذ بإنتاجاتهم، بالإضافة إلى إعداد مجلة مطبوعة يحررها ويطبعها ويوزعها التلاميذ، زيادة على المجلة الحائطية التي كانوا يتناوبون على إعدادها.
كما نظمنا أياما دراسية حول بعض الكتب والتعريف بأصحابها، وبمناسبة مرور عشرة أعوام على تأسيس الثانوية، أقمنا حفلا شارك فيه التلاميذ وبعض الأساتذة بعروضهم، كما أقيم معرض خاص بالشريف الإدريسي ضم كتبا ومراجع عن حياته وتراثه، وأهم ما ازدان به المعرض خريطة الإدريسي التي زودنا بها مؤرخ تطوان الأستاذ محمد داود مع بعض المخطوطات النادرة.
ـ ما الخلاصة التي خرجتم بها، وما نصيحتكم لمن يروم اليوم تقلد منصب ثانوية؟
ـ تبين لي من خلال هذه التجربة أن كل عمل مؤسساتي ينبغي للمشرف عليه أن يشرك معه في التخطيط والتنفيذ والتقويم جميع المستهدفين من أساتذة وآباء وتلاميذ، وأن يبتعد عن الإدارة السلطوية، وأن تتم جميع العمليات في وضوح وشفافية، ويجب أن تطرح القضايا سواء المادية أو التنظيمية أو التربوية على بساط النقاش حتى يسهم الجميع في بلورتها، ولهذا فإني أنصح من سيتولى تسيير مؤسسة ثانوية أن يكون قد سبق له العمل بالتعليم الثانوي مدة لا تقل عن 10 سنوات بصفته أستاذا ممارسا، كما يستحسن أن يتدرج من مهمة ناظر إلى مهمة مدير، زيادة على اطلاعه على المذكرات والنشرات والدراسات حتى يكون على بينة من جسامة المسؤولية التي سيضطلع بها، وأن يكون فوق هذا وذاك زميلا للموظفين العاملين معه خادما لمصالحهم مجتهدا في مساعدتهم على الرقي معنويا وماديا وأن يكون أبا عطوفا على التلاميذ، ناصحا لهم.
ـ التحقتم بعد ذلك بمجال التفتيش التربوي الذي تدرجتم فيه إلى أن بلغتم سنامه، كيف كانت التجربة؟ وما ملاحظاتكم؟ وما اقتراحاتكم لتطوير أداء هذا الجهاز التربوي؟
ـ استغرقت مهمة التفتيش قرابة ثلاثة عقود من حياتي، ابتداء من سنة 1971 حتى نهاية 1999، وبطبيعة الحال فإن ميدان التفتيش التربوي عرف في هذه المدة تقدما كبيرا، قدر لي أن أساهم في تطويره من خلال الاجتماعات على المستوى الوطني وتقديم الاقتراحات المختلفة بشأنه، وكان من أهمها إيجاد مركز لتكوين مفتشي التعليم الثانوي بالرباط، الذي أمه نخبة ممتازة من الأساتذة عملت على إجادة هذه المهمة، وبالطبع فإن مهمة التفتيش لم تعد تقتصر على المراقبة بمفهومها الضيق وإنما أصبحت تشمل التأطير والتنسيق والتنشيط بين العاملين فيه وتقديم الدراسات المختلفة المتعلقة بالبرامج والمناهج والكتب المدرسية والأدوات التعليمية وكل ما من شأنه أن يرقى بالفضاء المدرسي.
تدرجي من مفتش جهوي في منطقة كانت تتكون آنذاك من أربعة أقاليم هي: تطوان، شفشاون، طنجة والحسيمة؛ ثم بعد ذلك منسقا جهويا في أقاليم الشمال، وفي النهاية منسقا مركزيا بالوزارة.
كانت التجربة بالنسبة لي مفيدة حيث مكنتني من التعرف على حقل التعليم في مختلف جهات المغرب، وعرفتني على بعض المشاكل التي يرزح تحتها، وخصوصا تداخل التربوي بالإداري، فغالبا ما كانت تصطدم الرغبتان لتحد من تطلعات المفتشين ومن توفير الإمكانيات لهم حتى يقوموا بمهمتهم على أحسن وجه.
أما اقتراحاتي لتطوير المهمة هو أن تكون هيئة التفتيش التربوي مستقلة عن الهيمنة الإدارية، ومستقلة أيضا في تنظيم أعمالها وفق منظومة متماسكة تعمل في جو ديمقراطي بعيدة عن كل التأثيرات؛ وهذا لن يتأتى إلا بوضع ميثاق يتفق حوله العاملون في هذا المجال، مع تمكينها من الأدوات التي تيسر لهم العمل إقليميا وجهويا ووطنيا.
ـ كيف تنظرون اليوم بعد هذه التجربة الثرية كما ونوعا إلى حال التربية والتعليم في بلادنا؟
ـ الحقيقة أن المدة التي قضيتها في التعليم تربو عن 42 سنة مر فيها بمراحل ازدهار، وخاصة على مستوى الكم إذ انطلقت عملية التعليم في الحواضر والبوادي وعقدت عدة مؤتمرات وطنية للنظر في إصلاح التعليم، كان أبرزها سنة 1985 لما وضع المهتمون يدهم على نقاط الضعف والقوة وتكونت لجان مختصة في مختلف المجالات للسهر على تطبيق الإصلاح الذي لو قدر له أن يرى النور لكان تعليمنا يساير التعليم في الدول المتقدمة، ولكن “سياسة” بعض الوزراء المتعاقبين على هذا الحقل حالت دون تحقيق المبتغى، وهكذا تعددت النظريات والأفكار ما بين تعريب المواد العلمية وفرنستها، وما بين التقويم المستمر والامتحانات التقليدية…
نعم كل المؤشرات تؤكد أن هناك طفرة في الكم، ولكن على حساب الجودة والرقي بمستوى التعليم؛ والجودة لا يمكن أن تتحقق إلا بإيلاء العنصر البشري اهتماما خاصا، وذلك بخلق حوافز لتشجيع المجدين وفسح المجال أمامهم للارتقاء في سلم الوظيفة العمومية، إضافة إلى إيجاد بدائل تعتمد في تقويم أعمال رجال التعليم ونسائه بموضوعية وشفافية، وإشراكهم في جميع العمليات التعليمية على مستوى المؤسسة، والمديرية الإقليمية، والأكاديمية الجهوية، والوزارة.
وآمل أن يكون ميثاق التربية والتكوين المطبق حاليا مناسبة لتدارك السلبيات التي يعرفها نظامنا التعليمي، واستدراك الفرص الضائعة.
ـ ما نصيحتكم للمقبلين على هذا الحقل وللعاملين فيه؟
ـ النصيحة الأولى أن يعتبر رجل التعليم نفسه مجندا لخدمة وطنه دون انتظار جزاء على عمله من أحد، وأن يستشعر أنه يكون رجال الغد الذين سيمسكون بزمام مستقبل البلاد، وأن يكون قدوة في سلوكه وفي تصرفاته، وأن يستحضر الرسالة الملقاة على عاتقه والتي هي رسالة الأنبياء والرسل والمصلحين، وصدق من قال: كاد المعلم أن يكون رسولا.
ـ بم تشعرون بعد انتهائكم من أداء رسالتكم التربوية؟
ـ أشعر بسعادة غامرة بعد هذه المسيرة الطويلة في مضمار التعليم بمختلف مراحله ومستوياته ومهامه، خاصة وأن الجيل الذي جاء بعدي حمل الراية بحماس منقطع النظير وبكفاءة عالية للعمل بإخلاص وتفان، سيجني المغرب منه إن شاء الله كل خير وازدهار.
ـ كلمة ختامية.
ـ إنني أتفاءل خيرا لمستقبل التعليم بالمغرب إذا ما أسندت الأمور إلى أهلها ومستحقيها، وإلى من يتحلون بوازع مهني وأخلاقي؛ الذين يُحاسِبون أنفسهم قبل أن يُحاسَبوا.
د. محمد محمد المعلمي