كتابات في تاريخ منطقة الشمال : مسرحية “بيتزا.. همبوركر.. سوشي”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( مسرحية “بيتزا.. همبوركر.. سوشي”)
عرفناه مثقفا منصتا لهواجس فردانياته المتداخلة، فانبهرنا بقدرته الهائلة على التقاط تفاصيل اليومي من حوله وجزئيات التحول في أنساق التفكير الجماعية وفي نظم حياة المحيط الذي يعيش داخله ويتفاعل مع إبدالاته. إنه المبدع الطيب الوزاني، الكاتب الهادئ والمثقف العميق الذي استطاع أن يخلق مسارات فكرية وثقافية موازية لمساره المهني كأستاذ جامعي بكلية العلوم بتطوان. وقد ترجم ذلك في سلسلة من الإصدارات ذات الصبغة الإبداعية، وخاصة في مجال القصة القصيرة جدا، وعلى رأسها مجموعة “ثورة الياسمين” (2012) ومجموعة “حمائم وأشواك” (2014) ومجموعة “أوراق قزحية” (2016) ومجموعة “تفاحة الغواية” (2016). وبفضل هذه الحيوية المسترسلة في العطاء داخل الجنس الأدبي الذي افتتن به، تحول الدكتور الطيب الوزاني إلى أحد رواد فن القصة القصيرة جدا على الصعيد الوطني، ولربما على الصعيد العربي، لاعتبارات ولقيم جمالية وإنسانية متعددة، لا شك وأنها أثارت اهتمام النقاد والمتتبعين، حسب ما عكسته مجموع المداخلات التي احتواها الكتاب النقدي الاحتفائي الجماعي لتجربة الطيب الوزاني القصصية الذي رأى النور سنة 2016، تحت عنوان “مقاربات نقدية في القصة القصيرة جدا عند الطيب الوزاني”.
وإذا كان هذا النبوغ في مجال السرد القصصي قد غطى على ما سواه من اهتمامات مبدعنا الكبير، فإن الأمور قد عادت إلى نصابها عند مطلع سنة 2017، عندما أصدر الطيب الوزاني نصه المسرحي الأول، تحت عنوان “بيتزا.. همبوركر.. سوشي”، وذلك في ما مجموعه 83 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. لا يتعلق الأمر بتطاول غير محسوب العواقب على مجال الكتابة عند عتبات “أب الفنون”، ولا مجرد نزوات نرجسية عابرة، أو استيهامات عاطفية مرتبطة بلحظة معينة وبظروف مخصوصة، بقدر ما أنها تجسيد لاستمرارية ثقافية وسمت شخصية الطيب الوزاني منذ فترة زمنية طويلة، حسب ما بلوره رصيد منجزه الثقافي الغني والممتد. ولعل هذا ما أدركه الناقد رضوان احدادو بالكثير من الدقة والعمق، عندما قال في كلمته التقديمية: “واليوم، وهو يطرق باب الكتابة الدرامية يكون فيها، بأصالة أصيلة، رجل المسرح بامتياز، وأحد فرسانه، وصانعي توهجاته المتوارين زهدا في الوهج والتوهج.
ارتبط به والعود لازال غضا طريا، والأحلام عناقيد ندى وردية حريرية، لم يغادر أسره… فمهما اعتقد أنه شفي منه وحاول الارتماء في أحضان إغراءات وغوايات إبداعية أخرى، فهو حتما عائد. هكذا تعلمنا من المسرح. وفي المسرح، لم يكن يوما ولا لحظة عليه متطفلا، ولا فيه مدعيا، فقد جاءه من الباب الواسع. تمرس أول الأمر بالخشبة، تمرغ في غبارها، وأودعها نصيبا من عرقه، وقد بلغ ما بلغ من خلال أعمال متوهجة كممثل ومؤطر وتقني في عدة مسرحيات، لتسلمه مع الزمن مفاتيح أسرارها ومنغلقاتها وشفرات خرائطها وألغازها…” (ص ص. 7-8).
ونظرا لهذه السمة الريادية غير المتنازع حولها، أضحت الكتابة حول منجز الأستاذ الوزاني، احتفاءا بعطاء نخب مدينة تطوان المعاصرة، وتوثيقا لعطاء تاريخ الذهنيات المحلية ولتحولات تاريخها الثقافي والرمزي. وفي هذا الجانب بالذات، تبدو مساءلة مضامين المسرحية مدخلا لتفكيك الأسئلة المقلقة للحاضر الضاغط على صانعي معالم البهاء الثقافي المحلي والوطني. وإذا كنت، في هذا المقام، لا أنوي الخوض في العناصر التقنية والجمالية الناظمة لنص المسرحية، مما لا يدخل في مجال اهتمامنا، فالمؤكد أن المتن ينفتح على أسئلة وجودية لا شك وأنها تساهم في التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابات التقريرية المباشرة أو الوصفية الانطباعية أو العلمية التخصصية. فكتابة الطيب الوزاني متورطة في التقاط عناصر “اليومي” وتفجيرها داخل بؤرة ملكة الإبداع.
هي كتابة تسمو عن الواقع لتضفي على معالم التحولات قيمها الإنسانية النبيلة، بعيدا عن أوجه التعاطي الاستهلاكي السريع المعلب داخل وجبات “الفاست فود” أو التناول الانطباعي المنفعل. هي أسئلة الوجود وتناقضاته من خلال قضايا زماننا الراهن، وعلى رأسها زحف تكنولوجية الاتصال الحديثة وتخريبها لقيم التميز لدى الإنسان، والتهيب من المستقبل بما يحمله من إحساس عنيف بالخوف من المصير القادم، وتدمير الحياة المنذر بالخراب الشامل تحت وقع زحف تسونامي العولمة الجارف، وتعميم لوثة الخراب المدمر واليأس الشامل في الموقف وفي الوجود وفي السلوك. ومع كل ذلك، وعلى الرغم من عنف هذه الصورة التي تشتغل عليها المسرحية، فقد أصر الطيب الوزاني على ترك بارقة الأمل مشرعة وأبواب الخلاص مفتوحة. إنه الأمل في الغد، بنفس احتفالي أعطى للنص قيمة جمالية وفرجوية أكيدة، وقدرة استثنائية على نسج الخيوط الناظمة لمعالم السمو بالوعي الجماعي بتغيرات المحيط وبشروط النهضة. وتلك قيمة، لا شك وأنها تثير الكثير من عناصر الإثارة لدى كل المشتغلين بإبدالات التاريخ الثقافي وبميسمه المميز داخل شروط الفعل والإبداع على المستويات المحلية والوطنية والدولية.
وللاقتراب من سقف الكتابة لدى المبدع الطيب الوزاني، نقترح الاستدلال بقضايا موضوعاتية انفجرت من بين متن المسرحية، مبرزة السمات الوظيفية في الكتابة، حسب ما حددنا معالمه أعلاه. ففي سياق منزعه التشخيصي لمآسي الوطن، يقول في الصفحة رقم 24: “الوطن لا يترك يا سادة. حقيقة، هم عاثوا فيه فسادا، زرعوا فيه جحيما لا يطاق. لكنه “وطن”. وطني أنا. وطنكم أنتم، نبع دمائي أنا، دماءكم أنتم. فلا مفر، لا مفر من الوطن…”.
وفي سياق رسم الحدود القائمة بين تمثلات الواقع وسقف الحلم، يقول الكاتب: ” الحلم وجه آخر للحقيقة.
الحلم، بوح داخلي لما لا يقال في الواقع. الحلم فضاء لا يحده مكان ولا زمان، لقول الممكن واللاممكن، حسب سياق يخضع للمنطق أو اللامعقول. الحلم يا كرام، صراع حاد بين الظاهر والباطن، في عوالم الطبيعة والسريالية. في الحلم يا سادة، نواجه، ذواتنا المعلنة والأخرى المكبوحة، الراضية والرافضة، الخنوعة والمتمردة. الحلم… هو جوهر الحقيقة. لكن هناك حقيقة أخرى، حقيقة اليقظة، حقيقة الواقع والزمن الذي نحيا فيه، هي حقيقة العصر…” (ص ص. 29-30).
وفي لحظة يأس عام، نقرأ: “بئس اليوم الذي جئت فيه إلى هذه الدنيا. بئس الأيام الي أبت إلا أن تذيقني كل أشكال الهوان، الفقر، البطالة، اللامبالاة… ما ذنبي إن كنت قد جئت إلى هذا العالم خطأ؟ ما ذنبي إن صرت أكره نفسي؟ أكره من حولي؟…” (ص. 39). ويضيف في نفس السياق: “كلنا ضحايا. نحن ضحايا ذواتنا. ضحايا واقع شرس يفترسنا… هل تعتقدون أن هناك من يكترث لوجودنا…” (ص. 47).
ومع ذلك، فأبواب الأمل تظل مشرعة، وقد عبر المؤلف عنها بانسيابية مثيرة، عندما قال: “هؤلاء هم الحاضر وهم المستقبل. أنا وأنتم، نحن أيضا الحاضر، ونحن المستقبل. سنصير تاريخا. فلنكتب تاريخا مشرقا سويا. نحن الآن نصنع التاريخ. جلستنا هذه صفحة من التاريخ الذي يكتب ولن نكون وصمة عار في سجل الأزمان…” (ص. 80).
هي رسالة إنسانية بعمق إبداعي، تشكل صيحة في وجه اندحار المرحلة، أحسن المبدع الطيب الوزاني التقاط منغلقاتها، ضد زحف الظلام وضد سطوة السقوط، ومن أجل العودة والنهوض، نهوضنا الجماعي المنشود..