مشبال لسان حال المستضعفين
. جريدة الشمال – عبد المجيد الإدريسي ( مشبال )
وقد نحج الفريق الإذاعي على غرار الإذاعات الغربية التي تتمتع بحرية و استقلال المنهج السمعي البصري . أفلح في استقطاب آراء و فكر أولي النهى من فلاسفة و مبدعين و سياسيين و كتاب و اقتصاديين و شعراء من قامات ” ليوبولد سيدا سنغور ” و “دولور” كما لم ينس استضافة الطبقة الشعبية مع بعض ” المثقفين ” المغاربة . حينئذ اعتلت إذاعة طنجة إلى الذروة و الأوج فقاربت ثمانية مليون من المستمعين . منتوج عمل دؤوب آناء الليل و أطراف النهار . للفريق كان على رأسه خبير في مجال اختصاصه ، لامتلاكه كفاءة عالية ، لعلمه بأسرار مهنة الإعلام ، مواجها و ” متحديا ” به ضبابية نمطية ” المخزن” أيامئذ . و مما زاد الطين بلة خلافات ” الداخلية” عند استحواذها على الإعلام و هي أمُّ الوزارات كما كانت تنعث . لعلَّ نمودج استقلالية السلطة الرابعة كان سابقا لأوانه . وجهات النظر على طرفيْ النقيض ، لأنّ تقييمها لا يخضع للمنطق بل هو المعني بالتواصل بمفهومه السياسي ، و ليست ” أم الوزارات ” من أهل المنطق بالحقيقة و الموضوعية . إنَّ الرجل لم يتقاعد رغم إجباره على ذلك ، فسرعان ما فتحتْ جريدة الاتحاد الاشتراكي صفحاتها لقلم الإعلامي و المبدع ، لينشر مقالات تحت عنوان ” يذهب جحا و تبقى مساميره ” . اتسمتْ بموقف شجاع من خلال نقد لاذع لمؤسسة الأثير من تلفزة و إذاعة . على ضوء ذلك تمَّ له ، بمباركة بعض الشخصيات ، تأسيس وكالة شراع خدمات الإعلام و الاتصال بمعية المحامي عبد الإله كنون الذي تكفل بالجانب القانوني . لإضاءة التجليات العلمية أنتج الأستاذ كتاب الجيب الشهري ( ليفر دُ بوش ) ، و ذلك من أجل مجتمع قارئ .و قد سعى الأستاذ إلى غرس بذرة على أرض بور لانتقالها من البنية الفارغة إلى الممتلئة عند ارتوائها بقراءة مزمنة بالعلم و المعرفة .
ما عظم رجل إلا وراءه امرأة ، و بجانبه و عضده الأيمن قلبا و قالبا ، على حدِّ قوله : إنها رفيقتي و زوجتي و أمي .. وكل شيء في حياتي . صدق هذا المبدع الذي لم يفقد ظله . و حين قال عنها الأستاذ و المربي عبد الحميد بو زيد : أنا أفترش جلباب أمينة سجاداً لأصلي عليها . ومن عيون الشعر لأبي الطيب المتنبي : أبلِّغُ عزيزاَ في ثنايا القلب منزِلَهُ ~ أنّي و إنْ كنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ و إنّ طرْفي موصولٌ برؤيته ~ و إنْ تباعدَ عنْ سُكنايَ سُكناهُ إنْ غاب عني فالروحُ مَسْكنهُ ~ مَنْ يسكن الروح َ كيفَ القلبُ ينساهُ.
و للأستاذ الفنان التشكيلي ، يوسف التونسي العزواني ، كلمة في حق الأستاذ خالد مشبال رحمه الله جلَّ في عُلاه :ما من مرَّةٍ جاء فيها ذكر خالد مشبال إلا و استحضر الجميع عموده الصحافي الشهير حالة شرود .
هذا العمود يذكرني شخصيا بالوعي الجمالي الفذ لراحلنا الكبير خالد مشبال
عبر هذا العمود كثيرا كتب خالد مشبال عن الفن التشكيلي وأبرز اهميته في حياة المجتمع
كتب عن محمد شبعة،ومحمد الدريسي،وأحمد بن يسف،مما يؤكد تشبع هذا الإعلامي بثقافة بصرية تدرك أسرار الجمال وقيمه السامية :
حين أهداني الكاتب المتميز والمتألق صديقي حسن بيريش كتابه الرائع
خالد مشبال الإعلامي الذي لم يفقد ظله :
أول ما لفت انتباهي غلاف الكتاب الذي يتضمن لوحة بورتري للراحل بفرشاة التشكيلي بن يسف :
بورتري تجسدت فيه الخصال الثلاثة للخالد في قلوبنا خالد مشبال،وهي :
– أولا
الإصرار على مجابهة التحديات مهما كانت عصية او ليست في المتناول
– ثانيا
خصلة الهدوء التي تميز بها الراحل الكبير،والتي كانت سلاحه في كل المعارك التي خاضها،وفي كل المحن التي تعرض لها في مشواره الحافل والطويل
– ثالثا
العنفوان المتدفق الذي جعل من هذا التطواني البارز مؤسسة قائمة الذات،وحوله إلى عطاء بلا حدود
إن هذه الخصال الثلاثة تتجسد بعمق جميل ومدهش في لوحة البورتري،التي استخدم فيها بن يسف تقنيات متعددة ومركبة ليصل إلى عمق خالد مشبال
إن خالد مشبال،الذي نستحضره الآن عبر احتفالية متميزة وباذخة صنعها أديبنا الكبير حسن بيريش،شكل دوما قيمة مضافة للفن التشكيلي المغربي
وأنتم جميعا تعرفون أن ما من كتاب من سلسلة كتب شراع إلا وكان يحمل غلافه لوحة تشكيلية لأحد التشكيليين المغاربة
وهذا احتفاء لم يقم به سوى راحلنا العظيم خالد مشبال.وقام به في صمت رائع سجله التاريخ
شكرا للصحافي الكبير حسن بيريش الذي منحني فرصة التواجد في هذه الأمسية الرائعة
وألف رحمة ونور على روح فقيد الصحافة الشجاعة خالد مشبال .
كما جاءتْ كلمة الأستاذ الأديب ، مصطفى اجديعة ، عرفانا للأستاذ المرحوم خالد مشبال على النحو التالي : حضرات السيدات و السادة . أيها الحضور الكريم .. شرفٌ لي كبير أنْ أحضر هذا اللقاء .. و أنْ أكون في حضرة فاضلات و أفاضل من محبي الرجلين : الراحل خالد مشبال ، تغمده الله برحمته الواسعة و الرجل الودود الطيب ، سي حسن بيريش أطال الله عمره.. إنه بحق لقاء الوفاء للانحناء بإكبار و إجلال للذين أعطوا الكثير و ما أخذوا.. سوى احترام الآخرين و محبة الناس لهم ..
أيها الحضور الكرام.. في مثل هذه اللحظة المؤثرة.. لا تستطيع الكلمات أنْ تترجم ما يموج به الإحساس .. فشكرًا لصديقي و زميلي سي حسن الذي شرفني بدعوته الكريمة .. ونحن نحتفل بتوقيع كتابه . و في نفس الوقت نستحضر هرَماً كبيراً عزيزاً على قلوبنا جميعاً .. إنَّ الحديث عن الراحل خالد مشبال يظلُّ عصياً على القبض .. إنه الماء الذي يغمرك و لا يغرقك .. إنه النهر الذي يسير فتجده وقد تفرّع إلى أنهر و أودية .. لم أجد من منفذ للدخول إلى عالم الرجل وقد عشتُ معه عن قرْب رفقة سي حسن قرابة عقد من الزمن .. سوى ما قاله الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي في أمثاله و هم قليلون .. وإذا كانت النفوس كباراً ~ تعبتْ في مرادها الأجسام و كذا تطلعُ البدور علينا ~ و كذا تقلقُ البحور العظام كل عيش مالم تطبه حمام ~ كلُّ شمس مالم تكنها ظلام .
ذاك هو خالد مشبال .. عزة نفس و شموخ .. متحمل و مكابد للجرح في صمت .. قلق متسائل .. لا ينصت سوى لصوت الضمير .. وفيٌ لمبادئه و قناعاته .. عرك الحياة .. قذفتْ به في مجاهلها .. و أذاقتهُ ألواناً من مرارتها .. فلم يزده ذلك إلا صموداً و إصراراً ..حياة رغم قساوتها أودعته سرّها .. منها تعلم .. و منها كان العبور . خالد مشبال صاحب مشروع فكري .. إعلامي متمرِّس .. اشتغل بمهنية و بحس إنساني طموح .. أرسل عدَة إشارات بالواضح و المرموز .. لكن مع الأسف كل الحواس كانت معطلة . قاوم بإصرار و عناد : قال لي مرة : قدَري أنْ أتسلق الجبال دون حبال .. فقلت له ألا تخشى السقوط .. فردَّ باسماً ، أنا سلسلة من السقوط .. و الغريب أني لم أمت ..
عــاش مع قدره وفق مزاجه .. و صرامة ذاتية أتعبته كثيراً . غاضب و منفعل .. من الداخل يحترق .. حمم بركانه كانت تصليه لوجده .. و مع ذلك ظل متشبثاً بالأمل ، ممتطياً خيط الضوْء ، رغم امتداد النفق .. ُربّان ماهر ماسك بالشراع .. مشاءٌ .. عاشق للمسافات الطويلة .. في مسار حياته ما يثير الدهشة و الاستغراب .. يحبّ المغامرة و ركوب المخاطر ، وقد فعلها وهو حديث السن .. في رحلة مشياً على الأقدام من المغرب إلى مصر .. ظلَّ قيد حياته .. يركب الهوْل و لا يرهبه .. لا يهاب الموْج مهما علا .. لا يغادر السفينة مهما اشتدّ الخطب.. مع العلم أنَّ آخرين قفزوا و الطقس لم يهيء بعد للعاصفة ..
ذاك هو الرجل خالد مشبال .. إنَّ الأشجار تموت واقفة .. قال الشاعر الراحل ، محمود درويش : إذا سقطتُ و كفي رافع علمي .. سيكتب الناس على القبر لمْ يمت .
(انتهى)..