كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار “
الجمعة 23 شتنبر 2016 – 11:56:02
يعتبر الوزير لسان الدين بن الخطيب الغرناطي المتوفى بفاس عام 1374 م / 776 هـ من أبرَز الأدباء والكتاب الذين أنجَبتهم بلاد الأندلس خلال العصر الوسيط، وذلك بالنظر لأهمية الرصيد الأدبي والمعرفي الذي خلفته هذه الشخصية والذي غطى مجالات إبداعية مختلفة تداخلت فيها الاهتمامات الجغرافية مع النزوعات التاريخية في بعدها الجغرافي الواسع، ومع الشغف الأدبي بتعدد مجالاته الإبداعية، ثم مع الانشغالات السياسية والإدارية المركزية باعتباره رجل دولة ترك بصمات واضحة على قرارات مصيرية طبعت أحداث ما تبقى من بلاد الأندلس خلال زمنه.
ونظرا لهذا التنوع في الاهتمامات، فقد خلف ابن الخطيب تراثا غزيرا غطى كل المجالات المشار إليها أعلاه وجمع – في تناغم فريد من نوعه – بين مكتسبات وعطاءات شخصية ظلت تبدو متناقضة في مظاهرها وتجلياتها، لكنها –في جوهرها– عكست أصالة تكوين هذا الكاتب وانسجامه النموذجي في الجمع بين شخصيتي رجل الدولة من جهة أولى، والأديب والكاتب النابغ من جهة ثانية. وإذا كان من الصعب حصر إنتاجات ابن الخطيب الغزيرة ضمن خانة معرفية أحادية الأبعاد، فالمؤكد أن شخصية الأديب والمؤرخ ظلت تهيمن – بنسب كبيرة – على سواها من الاهتمامات الأخرى التي انشغل بها ابن الخطيب.
ولعل المتصفح لمؤلفات مثل “الإحاطة في أخبار غرناطة” و “رقم الحلل في نظم الدول” و “أعمال الأعمال في من بويع قبل الاحتلام” و “اللمحة البدرية في الدولة النصرية” …، سيقف – بكل وضوح – على عناصر الخاصية المذكورة التي جعلت هذه المؤلفات تحتل المراتب الأولى بين أهم مصادر التاريخ المغربي خلال عهد الدولة المرينية.
وإذا كان ابن الخطيب قد اهتم بالتأريخ لعموم بلاد المغرب وبلاد الأندلس، فإن منطقة شمال المغرب قد نالت نصيبا كبيرا من الاهتمام في مؤلف تاريخي / جغرافي / أدبي يعتبر من بين أهم ما خلفه ابن الخطيب على امتداد تجربته الطويلة في الكتابة، يتعلق الأمر بكتاب ” معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار ” الذي حظي باهتمام الباحثين المعاصرين – تحقيقا ودراسة – بالنظر لغناه الكبير، ولجدته المتميزة ولمساهمته في إلقاء الضوء على مراكز حضرية أندلسية ومغربية ظلت المعلومات حولها منعدمة أو نادرة أو مضطربة داخل مصنفات الأسطوغرافيات الكلاسيكية.
وكما سجّلَ المرحوم محمد المنوني في كتابه “المصادر العربية لتاريخ المغرب” ( ج. 1، ص. 107 )، فقد صاغ المؤلف كتابه اعتمادا على أسلوب المقامات الحوارية، ومن خلال ذلك قدم وصفا شاعريا لمدن مملكتي غرناطة والمغرب الأقصى وذلك في تعابير وجيزة تتضمن خصائص مركزة حول المدن المذكورة وحول ساكنتها. وقد صدر الكتاب للمرة الأولى في مطبعة أحمد يمني بفاس عام 1325 ه، ثم نشره – محققا – الدكتور أحمد مختار العبادي ضمن مجموعة ” مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس ” بالإسكندرية سنة 1958. كما نشرت طبعة أخرى بمقدمة موسعة للدكتور محمد كمال شبانة سنة 1977، مرفقة بدراسة وبترجمة إسبانية.
تتوزع مضامين كتاب ” معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار ” (طبعة 1977) بين ما مجموعه 164 صفحة من الحجم المتوسط، احتوت على قسمين، أحدهما عربي والثاني إسباني. ويحتوي القسم العربي على النص الأصلي الكامل للكتاب إلى جانب التعاليق والحواشي والتوضيحات التي أدرجها الدكتور شبانة. أما النص الإسباني، فإنه يحتوي على الترجمة الإسبانية الكاملة للنص العربي، إلى جانب فصول خاصة بسيرة ابن الخطيب وبقيمة أعماله الأدبية وبأهمية كتاب “معيار الاختيار” داخل الأدب الأندلسي الوسيط، إضافة إلى جملة من الشروحات والتعاليق المرفقة بالترجمة الإسبانية للمتن الأصلي. وعموما، يمكن القول إن المترجم / المحقق قد نجح في تقديم النص العربي للقارئ الإسباني من دون الإخلال بضوابط فعل الترجمة باعتبارها أداة تواصل حضاري بين الأمم والشعوب، وباعتبارها نافذة يمكن –عبرها– تقديم تراثنا وإبداعاتنا الإنسانية “للآخر” المتقوقع حول مرجعياته الذاتية وحول أحكامه الجاهزة فيما يتعلق بالتراكمات الحضارية للشعوب غير الأوربية.
وبالنسبة للقيمة المعرفية للكتاب، فالمؤكد أنها تساهم في التعريف بحواضر الأندلس والمغرب وفي توطين الجهات والأقاليم بشكل مفصل يقوم على أساس معرفة دقيقة بالمناطق المذكورة. ولا غرابة في ذلك، مادام ابن الخطيب قد ظل دائم التنقل بين بلاد الأندلس وحواضر المغرب الأقصى وخاصة منها تلك الواقعة بالمنطقة الشمالية من البلاد. لذلك، فقد نالت هذه المنطقة مكانة لافتة داخل الكتاب، حيث أفاض المؤلف في وصف مدنها وأدوارها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية وامتداداتها العربية / الإسلامية و الإفريقية / المتوسطية. في هذا الإطار، تم التركيز – إلى جانب المدن الأندلسية والمغربية الأخرى – على وصف خصوصيات كل من بادس، وسبتة، وطنجة، وقصر كتامة ( أي القصر الكبير حاليا )، وأصيلا، وغساسة. ولإعطاء الدليل على الطريقة الشاعرية التي كان يصف بها ابن الخطيب هذه المدن وكذا على الأسلوب المقاماتي / الحواري البليغ المعتمد عليه في السرد وفي الوصف، يمكن الاستشهاد بما كتبه المؤلف بهذا الخصوص حول مدن أصيلا وسبتة وطنجة والقصر الكبير.
فبالنسبة لمدينة أصيلا، نقرأ في الصفحة رقم 74 ما يلي : ” قلت : فأصيلا ؟ قال : كثيرة المرافق، رافعة في الخصب اللواء الخافق، العصير الأثير، والحوت الكثير، والإدام الذي يرمى به من حكم عليه بالتعزيز، والسفن المترددة. وفيها الملف والأبازير. إلا أن حصنها من المنعة برى، وساكنتها بربرى، وجارها – من غمارة – جرى “. وبالنسبة لمدينة سبتة، فقد قدم ابن الخطيب حولها أوصافا عمرانية وجغرافية وتاريخية جاء فيها :
” قلت : فمدينة سبتة ؟ قال : عروس المجلى، وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقيلة، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقلية، واختص ميزان حسناتها الثقيلة، وإذا قامت بيض أسوارها، مقام سوارها، وكان جبل بنيونش شمامة أزهارها، والمنارة منارة شوارها. كيف لا ترغب النفوس في جوارها، وتخيم الخواطر بين أنجادها وأغوارها ؟ إلى المينا الفلكية، والمراسي الفلكية، والركية الزكية، غير المنزورة ولا البكية … والأسطول المرهوب، المحذور الألهوب، والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب، كرسي الأمراء والأشراف، والوسيطة لخامس أقاليم البسيطة، فلا حظ لها في الانحراف … محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان … ووجود المساكن النبيهة بأرخص الأثمان، والمدفن المرحوم غير المزحوم، وخزانة كنز العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة العلوم، إلا أنها … عرضة للرياح ذات الهبوب، عديمة الحرث فقيرة الحبوب … فأحوال أهلها رقيقة، وتكلفهم ظاهر مهما عرضت وليمة أو عقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة .. وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم، بالبشير الهاجم، وراعي الجديب بالمطر الساجم، فلا يفضلون عن مدينتهم مدينة، الشك – عندي – في مكة والمدينة ” ( ص ص. 71 – 72 ). وبالنسبة لمدينة طنجة، فمما كتبه ابن الخطيب، نذكر ما يلي :
” قلت : فطنجة ؟ قال : المدينة العادية، والبقعة التي ليست بالخبيثة ولا بالردية، إليها بالأندلس كانت نسبة المغاربة، والكتائب المحاربة، والرفق السائحة في الأرض الضاربة، سورها ليس بمثلوم، وساكنها غير ملوم، وفضلها معلوم، ودارها ليست بدار لوم، ميدان أفراس كبير، ومعدن هند وذكير.
مثلت بين المنار والقالة … هذي سماء بروج، وهذي أزهار مروج، وكلاهما مركب سرور وسروج، ومتمتع فروج، ومطعم قديد ومروج. ديارها نبيهة، وأحوالها بأحوال جارتها شبيهة. لكن رملها يحشو العين بالذرور عند المرور … ورياحها لا تسكن إلا في الندور، وظلمة جوها متسببة عما وراءها من مغرب الشموس والبدور، وعين برقانها أعذب عيونها مشهور بتوليد الهوج، قران عند الناس غير ذي عوج، ويذكر أن سليمان اختصها بسجن مردة الجن، فيعثر بها على أوان ملئت ريحا، ويسندون لذلك إفكا صريحا ” ( ص ص. 72 – 73 ).
وبخصوص مدينة القصر الكبير، نقرأ في الصفحة رقم 73 ما يلي : ” قلت : فقصر كتامة ؟ قال : مغرد عندليب، وعنصر بر وحليب، ومرعى سائمة، ومسرح بهيمة في الجميم هائمة، ومسقط مزنة عادية وديمة دائمة، وبه التفاح النفاح، ترتاح إلى شميمة الأرواح، والفواكه قد ثقلت بها الأدواح، يقذف بها السماء والصباح، ويتفنن فيه الحرام المباح … وطريقه مسلك القافلة، وببابه السوق الحافلة، ينسل إليها من غمارة قرود وفهود، وأمة صالح وهود … جثم الهواء الخبيث في بطيحته وربض، وانبسط وما انقبض، وجهز ليله عسكر البعوض الهاجم، دربة بمص المحاجم، وأما وحله فلا يعبر ولا يسبر، وإن أسهبت العبارة فالأمر أكبر “.
هذه نماذج منتقاة عن طريقة سرد لسان الدين ابن الخطيب لمعلوماته، وهي كافية لاستخلاص الملامح العامة لتقنيات الكتابة لدى هذا الأديب والمؤرخ، تقنيات تحرص على اختزال كم واسع من المعلومات والمعطيات الطبيعية والبشرية والاقتصادية في إطار كتابة إبداعية راقية تراعي قواعد السجع والأوزان والمحسنات اللغوية والبلاغية التي تميز متون المقامات الحوارية الكلاسيكية. ويبدو أن المؤلف قد ظل وفيا لآسس مضامين هذه القواعد، خاصة فيما بتعلق بالتركيز على بعض المظاهر والعادات السيئة التي كانت تنتشر بهذه المدينة أو تلك. وفي هذه النقطة بالذات، تكمن أهمية كتاب ” معيار الاختيار ” خاصة على مستوى استكمال أبعاد الصورة العامة لماضي مدننا ومراكزنا الحضارية، فالكتابات الكلاسيكية الرسمية ظلت تركز – باستمرار – على الجوانب الإيجابية والمشرقة في ماضينا، في حين أنها لم تقف عند الوجه الآخر للصورة إلا لماما وفي سياقات عابرة واختزالية إلى حد كبير.
واعتبارًا لكل هذه الخصوصيات، أمكن القول إن كتاب ” معيار الاختيار ” قد تحول إلى مصدر توثيقي بقيمة علمية مزدوجة، فمن جهة هناك البعد الجغرافي والتاريخي الخاص بحواضر الأندلس والمغرب، ومن جهة ثانية هناك البعد الأدبي الذي يمكن تلمس – من خلاله – ملامح تطور الأدب العربي الأندلسي خلال مرحلة نهاية عهد الدولة المرينية، وذلك على مستوى المضامين وعلى مستوى تطور صنعة الكتابة..