محمد مشبال أستاذ البلاغة والنقد الأدبي ومنسق فرقة البلاغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، أصدر حتى الآن اثني عشر كتابا في حقل البلاغة: (مقولات بلاغية في تحليل الشعر1993. بلاغة النادرة 1997.أسرار النقد الأدبي2002. البلاغة والأصول: دراسة في أسس التفكير البلاغي عند العرب-نموذج ابن جني 2007.الهوى المصري في خيال المغاربة 2007 و2014. البلاغة والسرد:جدل الحجاج والتصوير في أخبار الجاحظ 2010. البلاغة والأدب: من صور اللغة إلى صور الخطاب2010. خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ: مقاربة بلاغية حجاجية2015. في بلاغة الحجاج، نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات،2017. البلاغة والرواية: نحو مقاربة بلاغية موسعة للرواية العربية، منشورات كتارا 2019. عن بدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث، نحو بلاغة موسعة 2020. محاضرات في البلاغة الجديدة، 2021.) وأصدر أربع ترجمات: (الصورة في الرواية ترجمة بالاشتراك1995. صورة الآخر في الخيال الأدبي 2009. الحجاج في التواصل، بالاشتراك 2013. موسوعة البلاغة، بالاشتراك 2014.) وأشرف على الكتب الجماعية الآتية:(النقد والإبداع والواقع: نموذج سيد البحراوي، 2010. بلاغة النص التراثي: مقاربات بلاغية حجاجية، 2013 .البلاغة والخطاب: 2014.بلاغة الخطاب الديني 2015. بلاغة الخطاب السياسي: 2016. البلاغة وأنواع الخطاب،2017. بلاغة السيرة الذاتية: 2018. بلاغة الخطاب التاريخي،2018. بلاغة الصورة: محمد أنقار ناقد السمات ومبدع السرد، 2019. في بلاغة الأشكال الوجيزة، بالاشتراك مع علي البوجديدي 2020.)
حاز على جائزة الشيخ زايد فرع الدراسات النقدية دورة 12 سنة 2018. وجائزة كتارا فرع الدراسات النقدية الدورة الرابعة 2018. وجائزة الملك فيصل في الدورة الثالثة والأربعين 2021.
س: الشمال
سعيت منذ كتابك الأول “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” إلى تطوير ما تسميه ب”البلاغة الموسعة”. فما المقصود بهذا الوصف؟
ج: محمد مشبال
ارتبطت البلاغة في الأذهان، لفترة طويلة من الزمن، بالأسلوب، ثم بالحجاج الذي هو مدار البلاغة أيضا. إذن رحابة البلاغة في جزء منها تعود إلى اتساع المساحة الخِطابية التي تسهم في صناعة التأثير الحجاجي، ويعود الجزء الآخر إلى الوعي بأن مباحث البلاغة أوسع وأرحب من رصد وتحليل تقنيات التأثير المقننة في مصنفات البلاغة؛ فانفتاح هذا الحقل الإنساني على أنماط وأنواع خطابية شتى، من شأنه أن يغني دائرة التقنيات التي راكمها حتى الآن. باختصار ، إن ما أعنيه ب”البلاغة الرحبة (أو الموسعة)”؛ هو ضرورة إخراج البلاغة من نسقها الكلّي المجرد، إلى حيّز النصوص والأنواع والأنماط والسجلات الخطابية. فمطابقة الباحثين بين الأسلوبية والبلاغة العربية القديمة، بقدر ما كان لها آثار إيجابية على قراءاتنا الحديثة لموروثنا البلاغي لا يمكن إنكارها، لكنها من جهة أخرى حجبت عنا صلتها القوية بالحجاج. فمساواة الأسلوبية للبلاغة مفارقة تاريخية غير جائزة، البلاغة في تصوري حقل أو معرفة موضوعها رصد وتحليل تقنيات الخطابات اللفظية التي تتوخى إحداث التأثير في المتلقي، سواء أكان هذا التأثير جماليا أم حجاجيا، وبذلك فهي شاملة لأي خطاب مؤثّر بهذين المدلولين سواء أكانا في حالتي انفصال أم اتصال. هي بلاغة واحدة ولكنّ روافدها المتعددة تجعلها قابلة لأن تتنوع حسب أنماط القول وأنواعه. فمن إشكالات البلاغة الموسعة سؤال علاقة البلاغة بالجنس الأدبي؛ فالثابت لدى الباحثين كما أسلفت أن البلاغة العربية علم صاغ مقولاته خارج مبدأ مراعاة قواعد الجنس الأدبي؛ فمقولاته شاملة لكل أنواع الخطاب اللفظي، إنها تجري على القول البليغ سواء أكان شعرا أم نثرا؛ فالاستعارة مقولة مجردة تحضر في كل أنواع الخطاب، ولا يمكن الادعاء بأنها خاصة بنوع خِطابي دون آخر، فقد توجد في الخطبة وفي النادرة وفي المقامة وفي الرواية؛ وقس عليها معظم الوجوه البلاغية التي صنفت في أبواب وقوائم البلاغيين. يبدو هذا القول صحيحا إلى حدٍّ كبير، بيد أنه قد نشكّك في صحته المطلقة من منظور أنه لا يمكن تصور علم يقوم بتجريد مقولاته وصياغة أدواته من دون مرجع خطابي مهيمن يوجهه أو جنس من أجناس الخطاب يملي عليه تلك المقولات والأدوات..
وفي سياق هذا التصور القائم على فكرة وجود بلاغات نوعية متفرعة عن بلاغة ذات منحى أدبي عام، كان عملي المشترك مع الأستاذ محمد أنقار الذي دشناه بترجمة مشتركة لمقال ستيفن أولمان:”الصورة الأدبية بعض الأسئلة المنهجية”، ثم انفرد كل واحد منهما بأعماله يبلور فيها هذا الإشكال؛ فأصدر أنقار كتبا قيمة من قبيل :”بلاغة النص المسرحي”(1995) و”بناء الصورة في الرواية الاستعمارية”(1995) و”صورة عطيل” و”ظمأ الروح أو بلاغة السمات في رواية الحب في المنفى لبهاء طاهر”، وترجمت بالاشتراك مع رضوان العيادي كتاب ستيفن أولمان “الصورة في الرواية” وأصدرت “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” و”بلاغة النادرة” و”البلاغة والأصول دراسة في أسس التفكير البلاغي عند ابن جني” و”أسرار النقد” و”البلاغة والأدب من صور اللغة إلى صور الخطاب”، قبل أن أنفتح في الكتابات اللاحقة على البلاغة ذات المنحى الحجاجي.
س: الشمال
ترددت في العناوين الفرعية لبعض كتاباتك عبارة “نحو مقاربة بلاغية حجاجية” أو “نحو مقاربة بلاغية موسعة”؟
ج: محمد مشبال
لقد كان ظهور مشروع تحليل بلاغي حجاجي للخطابات في بداياته الأولى ظهورا على استحياء؛ فقد حصره كبيدي فارغا في النصوص الأدبية الكلاسيكية، وفي الخطابة السياسية، لكنه مع ذلك ظل يأمل أن يشمل هذا التحليل النصوص الأدبية الحديثة، بناء على فكرة أن الخطابة شكلت أحد أهم مصادر الأدب، وأن الحديث عن استقلال الوظيفة الجمالية في النصوص الأدبية ضرب من الوهم؛ إذ تظل البلاغة بمفهومها الدال على التواصل، قيمة ثابتة في الآداب الإنسانية بشكل عام. هذا الأمل الذي راود كبيدي فارغا، سرعان ما وجد طريقه للتحقق في قراءات بلاغية لاحقة وجدت حلاّ لمعضلة الفجوة الواسعة بين النصوص التداولية ذات الغرض العملي، والنصوص الأدبية ذات الغرض الجمالي؛ سواء من خلال تبني تصور لا يفصل بين الأدب والحجاج؛ فالأدب يشكل قوام الإجراءات الحجاجية، مثلما أن الحجاج يشكل قوام الوسائل الأدبية. أو من خلال تبني تصور للحجاج لا يحصره في الخطابات الإقناعية الصريحة، بل يعممه على كل خطاب قائم على لغة طبيعية ومرتبط بسياق؛ وهو ما سمح بالتمييز بين نصوص حجاجية صريحة، ونصوص ذات حجاج مضمر .
لا شك أن ردم الهوة السحيقة بين الأدبية والخَطابية في الوعي النظري لمجموعة من الباحثين، وتراجع المناهج النقدية ذات المنزع الشكلاني والبنيوي، وانفجار وسائل التواصل الحديثة التي أتاحت ظهورا متزايدا لأنواع متعددة من الخطابات غير المعهودة مثل خطابات الحياة اليومية وخطابات الصالونات والشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، عوامل أسهمت في إيجاد المناخ الملائم للحديث عن تحليل بلاغي حجاجي للنصوص؛ تحليل يستفيد من مفهومات البلاغتين القديمة والجديدة،وينفتح على تحليل الخطاب. بمناهجه المختلفة المنغرسة في التحليل اللساني للنصوص؛ فقد كان لانفتاح البلاغة على أنواع خطابية جديدة خارج حدود الخطابات العمومية التقليدية، أثر في تطوير تقنياتها وطرقها.
س: الشمال
وماذا عن مقاربة النصوص التخييلية مقاربة بلاغية؟
ج: محمد مشبال
لقد شغلني هذا السؤال في فترة مبكرة: لماذا لا نحوّل البلاغة إلى مقاربة للنصوص التخييلية؟ ماالمانع من استثمار مقولاتها وعتادها في أفق تحليل النصوص الشعرية والسردية في كليتها؟ بل ما المانع من تطويرها ومدّها بمفهومات ومبادئ تخرجها من دائرة البيت الشعري إلى القصيدة والخبر والنادرة والرواية في كليتها النصية؟ أليس من شأن مواجهة النصوص الفعلية أن يغني النظريةَ البلاغيةَ نفسَها ويمدّها خارج حدودها الضيقة؟ لماذا لا يجتهد البلاغيون في تطوير وصياغة مقاربة بلاغية للنصوص، مثلما يجتهدون في فهم وإعادة بناء موروثهم البلاغي؟ أليس الأجدر بالبلاغي وسط هذا الركام من المناهج النقدية الوافدة علينا، أن يعكف على البلاغة بالدرس والتطوير باعتبارها جزءا من هويتنا الثقافية؟
إن أصداء مثل هذه الأسئلة تردّدت منذ كتاب “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” (1993) قبل أن تتبلور في أعمال لاحقة. ومنها كتاب” الرواية والبلاغة”؛ ققد حاولت في هذا الكتاب تطوير البلاغة لدراسة النص السردي الروائي العربي بمراجعة افتراضين ومناقشتهما: قام الافتراض الأول على اختزال البلاغة في دراسة المكونات الأسلوبية الصغرى، وكل ما عداها من أشكال أسلوبية لا يجوز إضافتها إلى قوائم البلاغيين، إما بحجة أنها قوائم مقفلة، أو بحجة أن هذه الأشكال نحتت في نظريات أخرى بعيدا عن النظرية البلاغية. وقام الافتراض الثاني على اختزال البلاغة في دراسة مجموعة من التقنيات الحجاجية التي يروم بها الخطيب توصيل دعواه للمستمع في مقام معين، وعدم تقدير تصورات حجاجية أخرى ترى أن الحجاجية جزء من اللغة والخطاب؛ فالرواية باعتبارها خطابا لغويا لا تنفك عن الحجاج الذي لا يروم بالضرورة الإقناع بدعوى –وإن لم تخل الرواية من هذا الضرب من الحجاج- بقدر ما يروم التأثير في وجهة نظر المتلقي وإثارة تساؤلاته وحمله على التفكير.
كما قام هذا الافتراض على اختزال مجالات البلاغة بإسقاط أحد مكوناتها المتمثل في البناء الذي يضم السّرد .
تراعي المقاربة البلاغية لصور الأسلوب في الرواية -على نحو ما طبقتها- كلية النص؛ فالمعيار الوظيفي الدينامي للمكون اللغوي في الرواية يقتضي التخلص من المفهومات الجمالية التي سادت النظرية الأدبية المعاصرة -والحقل الأسلوبي بشكل خاص- في تفضيله للغة الشعر على أنماط التعبير الأخرى من خلال مفهومات “الانزياح” و”الغرابة” و”الإبراز”، وغيرها من المفهومات التي تفضي إلى حصر تحليل لغة الرواية في ما يسمّى بالوجوه الأسلوبية ومنها الصور.
يفرض هذا التصور الوظيفي الدينامي للغة في الرواية على المحلّل توسيع نظرته لتستوعب البنية اللغوية على أساس وظيفي نصي؛ سواء أتشكّلت هذه البنية اللغوية في صور ووجوه أسلوبية منزاحة عن المألوف، أم كانت صورا مألوفة أم استخداما عاديا للغة. فلعلّ حصر التحليل البلاغي للمكون اللغوي الروائي في الصور (بمعناها المجازي المقنن) أن يفوِّت على المحلّل الانتباه لعديد من التفاصيل اللغوية العادية التي تنطوي على أبعاد جمالية وإيديولوجية، وتسهم في صياغة السرد. فالأساس الذي يقوم عليه التصور البلاغي للخطاب الأدبي يكمن في الاختيار الذي يقتضيه سياق التخييل.
بالإضافة إلى ما تقتضيه وظيفية المكون اللغوي في الرواية من عناية المحلل، فإن تبعية الحجاج للتخييل في الأجناس الأدبية والرواية بشكل خاص، يقتضي تحليل البنية الحجاجية في النص الروائي باعتبارها إحدى سماتها التي تحضر فيها بدرجات متفاوتة، ولكنها في جميع الأحوال تشكل جزءا من بلاغته التي ينبغي مراعاتها في أي تحليل بلاغي موسّع.
لقد قدمت مقاربة بلاغية موسعة لبعض نصوص الرواية العربية؛ كان الهدف مزدوجا: من جهة أولى إظهار هذه المقاربة البلاغية الموسعة إجرائيا، ومن جهة ثانية إثبات أن المقاربة البلاغية ليست تطبيقا آليا للمفاهيم على شواهد مقتطعة من نص روائي، بقدر ما هي تفاعل بلاغي رحب مع نصوص حية.
س: الشمال
ما هي آفاق تطوير الدرس البلاغي في الجامعة؟
ج: محمد مشبال
تعد البلاغة في المقررات التعليمية في جامعاتنا أحد علوم اللغة والأدب التي ينبغي أن يتزوّد بها الطالب إلى جانب النحو والصرف والعروض. وفي تقديري الخاص ينبغي إعادة النظر في طرق تدريسنا للبلاغة؛ فاختزال موضوع هذا العلم في صور التعبير، هو اختزال غير مقبول لمعرفة قامت في الأصل على الخطاب وليس على أحد أجزائه. كما أن تقديم البلاغة بوصفها معرفة مستقلة بذاتها؛ أي مجموعة من القواعد التي تلقن للطالب لتعرّف تقنية تعبيرية من تقنياتها، أمرٌ غير كاف لتقديم هذا الحقل المعرفي الغني بالأسئلة والإشكالات المرتبطة بالخطابين التخييلي والإقناعي. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن الجاحظ أو عبد القاهر الجرجاني لم يكونا معنيين بالقواعد بقدر عنايتهما بإشكالات الخطاب الكبرى، ولم تنفصل رؤيتهما للخطاب عن منشئه ومتلقيه. وبناء على هذا القول، يصبح هذا الحقل المعرفي أوسع وأغنى مما تقدمه البلاغة التعليمية؛ لأجل ذلك يجب أن نفكر في تقديم البلاغة للطلاب غير مفصولة عن الخطابات؛ يمكنك أن تلقن للطالب القاعدة التي تميز الاستعارة عن بقية صور التعبير، ولكن ينبغي أن ترشده أيضا إلى أن يفكر في علاقة هذه الصورة (أو التقنية) بأنماط وأنواع الخطابات المختلفة: ألا توجد هناك فروق بين الاستعارة في رواية و الاستعارة في قصيدة مثلا؟. باختصار، لا ينبغي أن نحصر الدرس البلاغي في تلقين معجم من التقنيات المجردة: ألم تكن البلاغة في بداياتها الأولى (في الثقافتين الغربية والعربية معا) تفكيرا في الخطاب؟ لأجل ذلك حرصت منذ كتابي الأول “مقولات بلاغية في تحليل الشعر” على ربط التقنيات البلاغية بالتفكير في الأدب .
س: الشمال
حدثنا عن حصولك مؤخرا على جائزة الملك فيصل في مجال البلاغة. ماذايعني لك هذا الفوز؟
ج: محمد مشبال
يعني لي هذا الفوز عدة أمور مجتمعة؛ أولا، هو فوز للاجتهاد والإبداع بدل التقليد والاجترار؛ فأن تحظى مؤلفات في الحقل البلاغي بجائزة عالمية؛ فهذا يعني تثمين العمل العلمي الذي يتسم بالأصالة والاجتهاد. ثانيا، هو فوز ليس لشخصي فقط، ولكنه للجامعة التي أنتمي إليها؛ فقد بذل أساتذتها طوال ثلاث عقود من الزمن مجهودات علمية كبيرة لتطوير البحث العلمي بها؛ إن نجاح مشروعي هو نجاح لهذه الجهود العلمية التي يبذلها زملائي في حقول علمية مختلفة. ثالثا، هو فوز للاعتبار؛ فالعمل الجماعي الجاد والممتد في الزمن هو السبيل الذي ينبغي أن يؤمن به الباحثون الشباب للارتقاء العلمي.