كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “مقاربات نقدية في القصة القصيرة جدا عند الطيب الوزاني”
الثلاثاء 06 دجنبر 2016 – 19:06:49
هل يمكن التوثيق لتحولات التاريخ الثقافي المحلي بدون ترسيخ تقليد المواكبة “اليومية” لعطاء النخب الفاعلة؟ وهل يمكن رصد تقاطعات عناصر الثبات والتغير داخل نظيمة الخلق والإبداع بدون تمهيد الأرضية لهذه المواكبة المفتوحة على “الجديد”؟ وهل يمكن استنباط عناصر التحول في بنية التجديد الثقافي بدون تلقيح هذه المواكبة بالقراءة النقدية التفكيكية اللازمة لتعزيز مسار العطاء الإبداعي في نظمه الجمالية المتداخلة وفي آفاقه الإنسانية الواسعة؟ وقبل ذلك؟ كيف يمكن الانتقال للاحتفاء بالتراكم النوعي بدون تحويل طقس المواكبة “اليومية” إلى صفة لازمة للاحتفاء “بالجديد”، كل “الجديد”، بغض النظر عن قيمة أفقه الإبداعي وعن مستوى تجديداته في عوالم الخلق والإبداع؟ وأخيرا، ألم يحن الوقت لبلورة منطلقات منهجية تأصيلية لإواليات الاشتغال على عطاء تاريخ الذهنيات المنتجة للأفكار وللقيم الرمزية وللأبعاد الإنسانية التي تضفي على فعل الإبداع ميسم الخلود وصفة البقاء؟
أسئلة متناسلة، تفرضها قراءة العمل الجماعي الذي صدر خلال الأسابيع القليلة الماضية من السنة الجارية (2016)، تحت عنوان “مقاربات نقدية في القصة القصيرة جدا عند الطيب الوزاني”، في ما مجموعه 145 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل، إضافة مجددة لجهود عقلنة مجال تلقي عطاء الإبداع الذي تنتجه نخب الزمن الثقافي المغربي الراهن، في سعيها لتعزيز معالم الفعل والمبادرة في مختلف أصناف الكتابة الأدبية ومجمل التعبيرات الفنية والجمالية المرتبطة بها، مثل الشعر والقصة والقصة القصيرة والمسرح والسينما والموسيقى والتشكيل… ومن جهة أخرى، فالعمل، تخصيب لأفق اشتغال جماعي طبع الكتابة السردية الوطنية المعاصرة المجددة التي اختارت العمل تحت يافطة “القصة القصيرة جدا”، مع ما لذلك من أوجه المغامرة غير المحسوبة العواقب على مستوى التأسيس لضرورات التجنيس والتصنيف وتأطير بنية المتن الحكواتي، وفق رؤى ترفع من مستوى كثافة النص ومنغلقاته ورموزه الدلالية.
ويمكن القول، إن الأستاذ الطيب الوزاني قد استطاع نحت بصمات ناصعة على هذا المجال، من موقعه كممارس مباشر لهذا الملمح السردي المثير، ومن خلال تجربته مع عوالم النشر المتخصصة ومع ظلاله الرحبة والوارفة. فمنذ صدور مجموعته القصصية الأولى سنة 2012 تحت عنوان “ثورة الياسمين”، ومرورا بمجموعته الثانية الصادرة سنة 2014 تحت عنوان “حمائم وأشواك”، ثم مجموعته “أوراق قزحية” الصادرة سنة 2016، وأخيرا مجموعته “تفاحة الغواية” الصادرة في نفس السنة، ظل المبدع الوزاني مصرا على نحت شلال الإبداع داخل فضاءات العوالم العجيبة للقصة القصيرة جدا، مما مكنه من بلورة مسارات على مسارات، ونصوص على نصوص، ومبادرات على مبادرات، جعلت منه أحد أقطاب هذا النمط التجديدي السردي الرائع الذي تواضع رواده وفرسانه على وسمه “بالقصة القصيرة جدا”.
لذلك، أمكن القول إنه لا يمكن التأريخ لمنعرجات هذه التجربة السردية الواعدة بمشهدنا الثقافي المعاصر، بدون العودة المتجددة لتفكيك رصيد منجز الطيب الوزاني، إنتاجا للمتون وافتتانا باللغة وتطويعا للاستعارات. ولعل هذا ما انتبه له المساهمون في إنجاز مجمل القراءات النقدية التي شكلت مضامين الكتاب، وهي القراءات التي ساهم بها كل من الأساتذة نجيب العوفي، وخالد مشبال، وعبد اللطيف شهبون، ومحمد الحافظ الروسي، ومحمد أنقار، وأسامة الزكاري، وسعاد الناصر، ومحمد الفهري، والبشير الأزمي، وخالد البقالي القاسمي، وجميل حمداوي، ومحمد سعيد البقالي، ومحمد بن عياد. ولقد نجح الناقد نجيب العوفي في اختزال أبعاد القيمة الفكرية والأدبية الرفيعة للكتاب، عندما قال في كلمته التصديرية: “في هذا الكتاب، تعقد ثلة-جلة من الباحثين والنقاد لمة أدبية-نقدية رائعة حول القصة القصيرة جدا، وفي الآن ذاته تعقد مائدة أدبية تكريمية لأحد رموز ومبدعي هذا الفن الجديد-الوليد، وهو الدكتور الطيب الوزاني، الذي اقتنصته القصة القصيرة جدا من دائرة العلوم، كما اقتنصت القصة القصيرة، ذات يوم، أنطون تشيكوف من دائرة الطب…
وهكذا يقدم لنا الكتاب ثلاثة محافل أدبية في محفل واحد، محفل القصة القصيرة جدا، كظاهرة سردية جديدة، محفل التجربة القصصية للطيب الوزاني كنموذج لهذه الظاهرة، ومحفل المقاربات النقدية والأدبية لصفوة الباحثين والنقاد، وهو متن الكتاب وصلبه… والكتاب بمقارباته المتنوعة يبدو لي كشجرة نقدية-أدبية وارفة، متنوعة الأغصان والأفنان، دانية القطاف والثمار، مختلفة الطعوم والمشارب. شجرة نقدية، مختلفة في رؤاها ولغاتها وطرائق تحليلها ومقاربتها.. لكنها مؤتلفة في جدتها وجديتها، في فائدتها ومتعتها…”.
لا يتعلق الأمر بأعمال تعريفية تقنية، ولا باختزالات صحفية سريعة، بقدر ما أنها مقاربات عميقة تستجيب لمطلب البحث الجماعي عن سبل رسم معالم الهوية الإبداعية لفن القصة القصيرة جدا. هي هوية تشتغل بالعين وبالأذن، وتثير عمق الإحساس البشري وفق نمط تأملي فاحص لتحولات الذات والمحيط، استنادا إلى عين ثالثة لا يمتلكها إلا المبدع صاحب النظر الثاقب والإحساس المرهف الذي يرتفع به عن المكان وعن الزمن، ليبني عوالمه المخصوصة وفردانيته الحميمية وذاتياته التي تعتبر صفة لازمة لكل كتابة إبداعية تجديدية.
لقد نجح المبدع الطيب الوزاني في اختراق دوائر التجريب، بعد أن تجاوز عتبة تمارين المغامرة، وبعد أن نجح في تأثيث صرح بنائه بالكثير من عناصر الصبر والجرأة والتأمل والتشريح، بحثا عن التفاصيل التي لا تلتفت إليها عين المتلقي العادي، وسعيا نحو الاحتفاء بقيم الجمال والإبداع في أنساقه التوليفية، واستثمارا لعمق مجمل مكونات نظيمة الاستعارات البلاغية “التي نحيا بها”، كتمثلات رمزية لواقع متحرك، وكتعبيرات سلوكية ومواقفية ترسم سقف المخيال الجماعي والمشترك الذي ينتجه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى.
وبالنسبة لمدينة تطوان، فالمؤكد أن عطاء المبدع الطيب الوزاني يشكل إحدى أبرز معالم الوجه الحضاري الذي تصنعه نخبها الفاعلة. هي معالم تضفي صفة البهاء الثقافي على وجودنا، وتلحق ميسم الجمال بعطائنا، وتكتب لصانعيها صفة الخلود والبقاء. فالتراث الحضاري يظل عنوانا لوجودنا، وداخله يصبح الإبداع الأدبي، في تعبيراته المتعددة، العنصر اللاحم الذي به نعيش وبه نرتقي بأذواقنا، وبه نعطي للحياة معناها الحقيقي للانخراط في العصر ولتمثل قيم الخلق والجمال والسمو المادي والروحي.