ملامح من حياة الفقيه الصالح والعدل النزيه السيد محمد بن الحسن الخليع الأنجري ( 1382هـ / 1962م)
الخميس 31 مارس 2016 – 18:25:38
بيت الخليع :
يُعد بيت الخليع من البُيــوتات الأندلسية التي نـزحَ كثير من أفرادها إلى قبيلة أنجرة، إثر سقوط حواضر الأندلس تترى في يد النصارى، وكان آخر تلك الحواضر مدينة غرناطة التي كان لسقوطها الأثر السيء على الوجود العربي في تلك البلاد، وألمت بتلك الديار فترات عصيبة ونكسات عظمى، استحالت معهما على الأفراد والجماعات الإقامة والعيش بطمأنينة وأمان في تلك الديار، بعد أن سعت السلطات الكاثوليكية بكل ما أوتيت من قوة إلى تنصير سكانها، وعملت على محو كل أثر يدل على انتمائهم الحضاري المميز.
وبنو الخليع كانوا يشكلون أحد العناصر الأساسية التي أثثت المجتمع الأندلسي الذي ضم بين عناصره إثنيات مختلفة، وترتد أصول بني الخليع في غالبيتهم إلى البربر القادمين مع جموع الفاتحين من عدوة المغرب، ونَسَبَتْ بعض كتب التراجم أفرادا من هذا البيت إلى العرب الأنصاريين.
وقد اضطلع هذا البيت بدور حاسم في توطيد حكم عبدالرحمن الداخل وترسيخ كيان إمارة بني أمية في الأندلس. وجدير بالتنويه أن هذا البيت سبق لابن حزم أن نبه إلى أصله البربري في كتابه (جمهرة أنساب العرب)، ولم يغفل الإشارة إليه كذلك صاحب كتاب (مفاخر البربر).
إن هذا البيت سجل حضورا ملحوظا في فترات مختلفة من التاريخ السياسي في بلاد الأندلس، وتناقلت كتب التاريخ صولات بني الخليع وجولاتهم في ثورات البربر المتكررة في تاكُرُنَّا بشرق الأندلس. وتحتفظ لنا كتب التراجم الأندلسية العديدة بجملة وافرة من المعلومات عن أعلام هذا البيت الكريم، كما قدمت لنا جوانب من سيرهم، وأبرزت لنا عطاءات من نبغ منهم في تدريس العلوم، ونشر الكتب والمصنفات المختلفة بالنسخ، كما رصدت أحوال بعضهم في مراقي الزهد والصلاح، وعددت أدوار ساسة منهم انخرطوا في ثورات البربر بتاكرنا. ومن ألمع أسماء بني الخليع بالأندلس نذكر منهم:
1. عوسجة بن الخليع التاكُرُّني: وهو من القادة الذين واجهوا ثورة المُتَنَصِّر عمر بن حفصون، وناصر شرعية الأمير عبدالله بن محمد سنة 286هـ. وإليه يعود الفضل في بناء حصن قنبط.(البيان المغرب. 2/139).
2. هارون بن الخليع: معدود من العباد الصالحين، وصاحب مقامات سنية في الزهد، وهو من أهل تَاكُرُّنَا، هاجر موطنه واستقر بالمنستير، ويذكر عنه أنه كان يحج راجلا، ويشترط على أصحابه خدمتهم. (التكملة لكتاب الصلة.4/140).
3. عبدالملك بن محمد بن وليد المعروف بابن الخليع: يعد من وجوه العلماء، روى عن أبي القاسم خلف بن عبدالله بن مدير القرطبي (ت 495هـ) (تلميذ الحافظ ابن عبدالبر)، وكتب عنه فوائد غزيرة سنة 476هـ. (التكملة لكتاب الصلة.3/71ـ نفح الطيب.4/327).
4. أحمد بن عبدالعزيز بن الفضيل بن الخليع الأنصاري (ت 572هـ): أديب شاعر، أتقن الوراقة وأبدع فيها. أصله من أهل شريون وانتقل للسكنى ببلنسية. لازم جملة من العلماء وأتقن على أيديهم العربية والآداب ومن أشهر شيوخه: أبوعبد الله بن خلصة، وأبو محمد البطليوسي. تجول في بلاد الأندلس والعدوة.( الذيل والتكملة، للمراكشي. 1/423).
وبعد انتقال هذا البيت إلى المغرب، طاب لأفراده المقام والعيش الكريم في جوار جماعات تشاطروهم القيم الحضارية والعادات والتقاليد، ونزلت جماعات من آل الخليع في أول الأمر في قرية اشتهرت باسمهم: اخْلِيعِيش، ثم انطلقت جماعات منهم في فترات تاريخية متباعدة نحو قرى قبيلة أنجرة، ونلفي تجمعات من هذا البيت مستقرة في مداشر عدة منها: القلعة، تافوغالت، دار طويليش، بوزاكي، لوازلة، الرمان.
ولأفراد هذا البيت الكريم مكانة متميزة في كل قرية أو بلدة نزلوا بها، كما نالوا احترام وتقدير الجميع لهم، وأقبل بعض العلماء على مصاهرتهم، فهذا العلامة أحمد بن أحمد بن عجيبة (ت1275هـ/ 1859م) اختار ابنة السيد عبدالكريم بن سليمان الخليع لتكون شريكة حياته وأم أولاده، وقد تم قرانه بالسيدة فاطمة بنت عبدالكريم الخليع في سنة 1259هـ/ 1843م.
وقد اشتهر من هذا البيت نخبة من العلماء والفقهاء باشروا مهام الخطابة والإمامة وتعليم القرآن وتلقين قواعد رسمه في قبيلة أنجرة وفي بعض حواضر الشمال، كما اعتنى أحدهم بالوراقة وإجادة نسخ الكتب العلمية، واحتفظت لنا بعض الخزانات العامة والخاصة بذخائر التراث العربي في فن التوقيت وعلوم القرآن التي خطها بيمينه، ومن أبرز أعلام بيت الخليع في العصور المتأخرة بشمال المغرب:
• الفقيه عبد السلام بن محمد الخليع (كان حيا سنة 1277هـ).
• الفقيه محمد بن أحمد الخليع (كان حيا 1298هـ).
• الفقير الصوفي محمد الخليع الدرقاوي من قرية القلعة (توفي بتطوان في حدود 1340هـ).
• العلامة الفقيه عبدالسلام بن محمد بن عبدالسلام الخليع (كان حيا سنة 1350هـ).
• الفقيه أحمد بن محمد بن عبدالسلام الخليع(كان حيا سنة 1350هـ)..
اسم المترجم له ومولده :
هو الفقيه الصالح، العدل النزيه، المـدرر البــركة السيـّد محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد الخليــع الرماني الأنجري.
طلع صباح ميلاده وسطع نور وجوده في مطلع القرن الرابع عشر، وذلك في سنة 1307هـ/ 1889م بقرية الرمان من فرقة البحرويين من قبيلة أنجرة.
ويعد جد المترجم السيد أحمد هو أول من حلَّ من آل الخليع بقرية الرمان، قادما إليها من مدشر لوازلة، وعاش جده هذا في رغد من العيش الكريم بين أبناء تلك القرية ، وأنشأ بها أسرته التي تناسلت منها ذرية طيبة كانت محط تقدير من سكانها.
نشأته ودراسته الأولية :
ترعرع مترجمنا في كنف أبوين كريمين اللذين قرت أعينهما بوجوده بينهما، ورغبا في أن يكون نجلهما هذا من حملة الكتاب العزيز، ومن نبهاء العلماء الذين ينتفعون الناس بمعارفه.
ولما أدرك من العمر خمس سنوات فقد السند العاطفي وحنان الوالد، فنهضت والدته السيدة فاطمة بنت أحمد العاقل بتربيته والاعتناء بشؤونه وحرصت كل الحرص على تنشئته على الفضيلة والشيم النبيلة، وسعت جاهدة إلى غرس قيم الخير في نفسه، ومحبة العلماء وأهل الفضل والصلاح. ولما انطلق لسانه وصلحت أجهزته للتهجي والتلقي واستقامت خطاه، ألحقته والدته بكتاب المدشر لتعلم القراءة والكتابة، فلازم رحابه بضع سنوات حتى استبصر في القرآن الكريم بعناية وتوجيه ثلة من المدررين الذين تعاقبوا على التدرير بكتاب القرية، ومن أبرزهم الفقيه المدرر السيد أحمد الحناط الضرير.
وبعد أن فرغ من حفظ القرآن في مسقط رأسه، أرسلته والدته إلى قرية عين حراث من قبيلة أنجرة، حيث قصد كتاب القرية واختلف هناك إلى حلقته القرآنية، وكان يتصدر التدريس فيها يومذاك خاله الفقيه السيد عبدالسلام العاقل، وبين يديه عكف على تصحيح لوحه، وتكرار حفظ أجزاء القرآن كلها، وانكب على التعمق في معرفة رسمه، وعلى إتقان رواية ورش بتفصيل، مشتغلا في الآن نفسه بحفظ الأنصاص الكثيرة ذات الصلة بالرسم القرآني، ومعتنيا أيضا باستظهار المتون الأساسية في: النحو، والفقه، والتوحيد التي مهدت له طريق الالتحاق بمجالس العلماء وولوج حلقات الدرس. وقد تم له في يسر، تحصيل ما رام بلوغه في هذا الطور الدراسي.
انتقاله إلى الدراسة في البوادي الشمالية :
ولما نال المبتغى من إتقان استظهار الذكر الحكيم، وأدرك المتمنى من حفظ المنظومات العلمية الأساسية، طار به الشوق إلى مجالس الدرس، وتاقت نفسه الطامحة إلى الورود من حياض العلم الشريف، سالكا طريق من سبقه من طلبة قريته، فأعد عدّته وعبّأ مطيته واتجه نحو قرية الزميج، حيث مدرسة العلامة الفقيه سيدي عبدالسلام بن الشيخ المربي الحاج عبدالقادر بن عجيبة (ت1353هـ/ 1934م)، وهو أحد كبار المدرسين الأعلام في قبيلة أنجرة، وحلقاته العلمية كانت تشد إليها الرحال من كافة البوادي والحواضر الشمالية على السواء. وقد وجد الفقيه محمد الخليع عند شيخه ابن عجيبة ما كان يطمح في الوصول إليه، ولازم حلقاته بانتظام ولم يكن يفارق مجالسه الخاصة والعامة، وانتفع أيما انتفاع بالعلوم التي كان يبثها بين طلابه من فقه ونحو وفرائض منطق وبلاغة وتفسير.
ولما آنس منه شيخه المهارة والتمكن من العلوم التي تلقاها عنه، واستوعب مجموع المصنفات التي درسها عليه، أوعز إليه بتجنيد طاقته وتعبئة همته لدراسة المعارف الأخرى بقرية الصخرة من قبيلة بني كرفط، حيث حلقة العلامة المدرس الشهير السيد عبدالسلام بن الحاج الصروخ الكرفطي (ت 1330هـ/1912م).
وفي تلك المدرسة تلقى عن شيخه معارف لم يسبق له أن أخذها في قبيلته، وغشي مجالسه بشوق شديد تحدوه الرغبة في التزود بالفنون المختلفة التي دأب الشيخ على عقد مجالسها، وهي التي كان لها الصدى الطيب في نفوس المتعلمين، وكان يقصدها الطلبة من أنحاء بعيدة، ونالت الشهرة الكبيرة في ربوع البوادي الشمالية.
رحلته الدراسية إلى منطقة غمارة :
وبعد أن تلقى العلوم المختلفة ونهل من حياض المعارف العديدة في قريتي الزميج والصخرة، أبدى الفقيه محمد الخليع الرغبة في الاتصال بالحلقات العلمية الأخرى، فشد متاعه وكرَّس أدواته، وهيَّأ مركوبه للاغتراب، وقصد منطقة غمارة التي كانت الحلقات العلمية في تلك الفترة مازالت متواصلة هناك، ولم يفتر بها نشاط العلماء المدرسين الذين نهضوا بدور كبير في تلقين مختلف العلوم الشرعية، وقد صحبه في هذه الرحلة العلمية رفيقه في الطلب وابن قبيلته: وهو الفقيه محمد بن علي اللماغي (ت 1360هـ/1941م)، الذي تولى في زمن لاحق منصب قائد قبيلة أنجرة.
لقد قضى الفقيه محمد الخليع في مغتربه العلمي سنة وبضعة أشهر استكمل خلالها ما فاته تحصيله، واغترف علما غزيراً من خلال المصنفات العلمية العديدة التي تسنى له دراستها وختمها هناك. ومع الأسف الشديد، تغيب عنّا أسماء الشيوخ الذين جلس إليهم، وأخذ عنهم وتبرك بمجالسهم أو انتفع بمذاكراتهم، كما أننا لم نهتد إلى المصنفات التي ختمها بين يدي مدرسيه.
أوبته إلى مسقط رأسه ونهوضه بالتدريس والإمامة والخطابة والتوثيق الشرعي:
لما أفرغ الفقيه محمد الخليع جهده في تحصيل العلوم، وأشبع نهمه المعرفي من خلال الحلقات التي شهدها في هذه المدرسة أو تلك، آب إلى أهله بقرية الرمان حوالي 1332هـ/1914م، مزوداً بمعارف كثيرة. وقد احتفى الجميع بمقدمه وسرّوا بأن يكون الفقيه الشاب بينهم، فاختاروه لعلمه وكريم خصاله وصلاح أحواله، واستقامة سلوكه بأن يكون إمام وخطيب مسجدهم، كما ندبوه ليقوم بتدريس أبنائهم، فباشر مهمته على أكمل وجه، وحمدت سيرته في هذا الجانب، وأظهر نشاطا كبيرا في تعليم أبناء قريته، وأبدى حزما في مباشرة عمله التعليمي، وأخلص جهده كله في هذا المضمار.
وقد تواصل عطاؤه مع امتداد السنين والأعوام، وأتت حلقات التحفيظ التي كان يشرف عليها، أكلها سنة بعد الأخرى، وتسنى لأفراد عديدين من ختم القرآن على يديه، وتلمذ له خلال سنين طويلة العدد الكبير من أبناء القرية، وغيرهم من المداشر المجاورة.
وقد اضطلع الفقيه محمد الخليع أيضا بدور كبير في التوجيه والإرشاد من خلال الخطب والمواعظ التي كان يبثها بين سكان قريته، أيام الجمع والعيدين والمواسم الدينية، وإليه كان الجميع يلجأ لمعرفة الأحكام الشرعية، ويقصدونه في حل ما كان ينزل بهم من قضايا تمس معيشهم اليومي، وقد أوتي رحمة الله عليه طبعا لينا وأسلوبا حكيما في فض النزاعات والخصومات بين الأفراد والجماعات، واستطاع بحكمته وحسن وساطته أن يلم شمل أسر كادت المشكلات تعصف بكيانها، وصدرت عنه في هذا الجانب مواقف مشرفة تمكن من خلالها رأب صدع الخلافات بين الفرقاء، وتأليف قلوب المتخاصمين، لذلك اعتاد أهل قريته على الاحتكام إليه والعمل بمشورته.
ونظراً لحكمته وبالغ تأثيره في محيطه كانت السلطة المركزية في تطوان، إبان عهد الحماية الإسبانية، تعتمد عليه في مباشرة بعض الأعمال في قبيلة أنجرة، منها الإشراف على إصلاح مساجد القبيلة المذكورة، الذي وردت إليه في شأن هذا الموضوع رسالة من ناظر أحباس المنطقة، وهي تشعر بدوره البارز في تلك الأعمال وتيسير تنفيذها، كما أفادت وثائق أخرى بما كان يسهم به من جهد في تذليل مهام ناظر أحباس قبيلته، من خلال تيسير عملية السمسرة في السوق الأسبوعي (اثنين ملوسة).
وكان شيخه في التربية والسلوك العلامة سيدي عبدالسلام بن الحاج عبدالقادر بن عجيبة (ت 1353هـ)، دائم الاتصال به لقضاء بعض حاجته، ويرغب في أن يكون صاحبه في السفر، كما كان يعهد إليه دائما، عندما تعرض عليه بعض الخصومات، بأن يكون تلميذه الفقيه محمد الخليع هو من يفصل بين المتخاصمين، وكان يحثه على إعمال نظره السديد في جبر خواطر المتنافرين.
وبعد عودة الفقيه محمد الخليع من رحلة الطلب باشر أيضا مهمة التوثيق الشرعي في قبيلته وكان في عمله هذا مثال النزاهة والاستقامة، متحليا برداء الورع والتقوى، متورعا عن سلوك طريق الشبهات وركوب متاهاتها، لذلك كان الناس يعمدون إلى توثيق عقودهم المختلفة عنده، من بيع وشراء وزواج وغيرها.
وبعد تفعيل العمل بالظهير المنظم لخطة العدالة بالمنطقة الخليفية الصادر سنة 1354هـ/ 1935م، أصدر الصدر الأعظم بتطوان قراره سنة 1357هـ/1938م، يمنح بموجبه للفقيه الخليع الإذن في ممارسة تلك الخطة.
ومما يجدر التنبيه إليه أن خطة التوثيق الشرعي كان يضطلع بمهامها الفقيه محمد الخليع منذ رجوعه من رحلة الطلب، واستمر يزاولها إلى آخر عمره.
انتقاله إلى مدينة طنجة واستقراره بها فترة من الزمن :
مع اشتداد هجوم الاحتلال الإسباني على قرى قبيلة أنجرة بالراجمات الحربية، وانصرام حبل الأمن في ربوع منطقة الشمال عامة، اختار الفقيه محمد الخليع الملاذ الآمن في مدينة طنجة التي كانت يومئذ ملجأ العديد من العلماء القادمين من فاس ومن بعض القبائل الشمالية. وقد حل المترجم بها مع أسرته الصغيرة سنة 1338هـ/ 1919م، واستقر بأحد المنازل الواقعة في حي أمراح، حيث جاور فيه أحد أبناء عمومته: وهو الفقيه عبدالسلام بن محمد الخليع، الناسخ وصاحب المكتبة الشهيرة بسوق الداخل، وخلال هذه الفترة امتدت أواصر التلمذة بينه وبين شيخه في الطريق العلامة محمد بن الصديق الغماري (ت 1354هـ).
ومما يحسن التذكير في هذا السياق أن الفقيه محمد الخليع سبق له أن أخذ الورد الدرقاوي وسلك الطريق الصوفي بواسطة شيخه العلامة سيدي عبدالسلام بن عجيبة. ولكن في هذه الفترة انتسب إلى الطريقة الصديقية الدرقاوية، وانتظم في زمرة المخلصين الأوفياء لمبادئها، وسعى بحاله ومقاله إلى التبشير بها ونشر قيمها الروحية. وقد لازم زاوية شيخه أيام الجمع والمواسم، وحرص على الاتصال بكبار مريدي هذه الزاوية، والاجتماع بهم للإفادة من مذاكرتهم، واجتهد في تعمير مجالس الذكر والمذاكرة، وأضحى يومذاك من خاصة الشيخ ومن أشد المقربين إليه.
وقد ندبه شيخه في تلك المرحلة إلى الإشراف على عملية (سلك) ألواح مريديه الذي تجردوا على كبر سنهم لحفظ كتاب الله العزيز بالزاوية المذكورة، فكان يبادر كل صباح باكر إلى هذه المهمة الشريفة، فيعتني بالألواح ويصححها، مبدياً ملاحظته على الأخطاء الواقعة فيها، وذلك قبل أن يتوجه إلى دكانه الكائن بالجوطية، وكان يقع ملاصقا لمحراب مسجد سيدي بوعبيد.
وفي ذاك الدكان أقام نشاطا تجاريا، فكان يبيع في جانب منه الأغطية المختلفة، وفي جانب آخر اتخذه مكتبة تجارية، كما واصل فيه تحرير الرسوم الشرعية باعتباره عدلا موثقا، وكتابة العقود المختلفة لأصحابها الوافدين من القرى المجاورة إلى السوق الأسبوعي.
وأثناء نشوب الحرب الأهلية في إسبانيا سنة 1355هـ/1936م، ومع خشية الإسبان من ظهور تداعياتها في المنطقة الخليفية، وازدياد معارضة الرافضين لسياسة فرانكو في ربوع حواضر وبوادي شمال المغرب، أصدرت الحماية الإسبانية قرارها بمنع سكان القرى الخاضعين لنفوذها، من التوجه إلى المنطقة الدولية بطنجة، فخُيِّر الفقيه الخليع بين الاستقرار النهائي بطنجة أو الالتحاق بمسقط رأسه، فاختار العودة مع كافة أفراد أسرته إلى قريته واستأنف هناك نشاطه التعليمي والدعوي، كما تابع بها سالف مهنته الشرعية المتمثلة في خطة العدالة.