نزهة إلى الجبل الكبير لـ أحمد بن الخياط السحتة
الجمعة 21 أكتوبر 2016 – 17:37:28
يشهد المجال الثقافي لمدينة طنجة حاليا حركية حثيثة ودؤوبة لإنعاش وتنشيط ودوران الثقافة، ومنها كان البدء. فطنجة كانت منارة للإشعاع الثقافي قبل أن يحيطها مسخ الرداءة من كل جانب، وقبل أن تصبح ملاذ الشواذ والمخنثين والمثليين من كل درب ينسلون.
شهدت طنجة حاليا عملية رصد تشمل رائدات في مختلف المجالات، بدءا بالصحافة، مرورا بشوامخ الفكر والتاريخ والفن، وصولا إلى توثيق لأهم معالم طنجة المعمارية والبيئية والتاريخية الخالدة، والتي لازالت آثارها توشي بعظمة ما كان ومن مر عبر تراب هذه المدينة مخلفا ذكراه وبصماته في الأطلال والبقايا وفي منابع الماء الزلال التي مازالت والتي اختفت وجفت ونضب معينها..
لن أتحدث عن مؤلفات لازالت قيد الطبع ومنها مؤلف الدكتورة العصامية زبيدة الورياغلي، وهو مؤلف قيم لغة وعرضا وسردا أتركه لمناسبة صدوره قريبا بحول الله. وأخيرا لا آخرا كتابا توثيقيا آخر صدرت طبعته الأولى في يونيو 2015 لمؤلفه الأستاذ أحمد بن الخياط السحتة، وهو محامي بهيئة طنجة، والكتاب يقع في 113 صفحة من الحجم المتوسط بعنوان: «الجبل الكبير»، وهو كما يقول كاتبه، «نزهة إلى الجبل الكبير عبر تضاريسه الجغرافية، والاطلاع على فترة من عهوده التاريخية، من حكايات وأساطير، ومشاهدات فنية، ونظرات جمالية، ومخلوقات من البشر والحيوان والنبات»، الكتاب يبدأ بمقدمة طويلة حول المسار التعليمي للمؤلف مع الوسط الاجتماعي والأسري الذي ترعرع فيه وكان الكتاب كما هو الشائع في مجتمعنا القديم هو اللبنة الأولى في التعلم والتهجي ثم القراءة. وانطلاقا من الصفحة الثانية التي تبدأ بالجامع الكبير بالسوق الداخلي، أقدم مساجد المدينة الذي كان في الأصل كنيسة، وهو مصنف في عداد الآثار تطبيقا للظهير الشريف رقم 80/341 .1 الصادر بتاريخ 25 دجنبر 1980 والمتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والكتابات المنقوشة، والتحف الفنية والعاديات، ومقابل المسجد توجد بناية مدرسة الجامع الكبير التي كان يشرف على إدارتها الفقيه المربي الراحل عبد القادر العلمي حسون، وهو من رجالات التعليم المعدودين كما تقلد في الأخير مهمة محتسب المدينة، المهنة القديمة التي لم يعد لها أثر بعد غياب دورها وزوال الغاية من إحداثها، أما وجود الأقسام الاقتصادية والمصالح الأخرى المختصة بالمراقبة والتتبع للشأن الاقتصادي. في باب «المدينة» يؤكد المؤلف على خصائص المدينة وليثمن الدور الذي قامت به جمعية «رسالة الطالب» لمؤسسها مصطفى بنمسعود في استقطاب مجموعة من رجال الفكر والسياسة من داخل المغرب وخارجه إلى مدينة طنجة محاضرين ومشاركين في ندوات وبحوث أمثال : الزعيم علال الفاسي، والمكي الناصري، والمهدي المنجرة، والمهدي بنعبود، والأخضر غزال، ومحمد الميموني، وعبد الله إبراهيم، وعمر بنجلون، والأستاذ الصائل، والفقيه الساحلي، والفقيه محمد الزمزمي. والدكتور عبد الرحيم عد البر من مصر، والدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، والدكتور صبحي الصالح من لبنان.
ويرصد لنا الكتاب تاريخ شخصيات أجنبية اختارت طنجة كمستقر وملاذ منذ فترة الاستعمار وظلوا بها بعد الاستقلال حتى اختفوا وانتهوا واختاروا فيلات وإقامات فخمة بدءا من مسجد منطقة جامع المقراع حيث سكن الإنجليزي المسمى (باورين)، وهو الذي كان مكلفا بطبع العملة الإنجليزية (الليبرا).
وعن كثب منها دارا أخرى للمسمى كولونيل «أليس»، ثم دار المسمى «جيكي»، ثم دار الحاج الركاينة عبر ممر منحدر، وهو من أصل تطواني، وكانت داره هذه مقرا لالتقاء قادة وطنيين ومنهم عبد الخالق الطريس، وعن كثب منها فيلا فاخرة كانت في ملكية الفرنسي المسمى «ديبوا»، وكان يقيم بالدار البيضاء ويدير المشروع التجاري الكبير «قهوة ديبوا» التي لازالت إلى الآن ذات شهرة كبيرة، وكان ديبوا هذا رجلا قصير القامة، مكتنزا يسوق سيارة خضراء فخمة تسمى «ستروين دييس» وكان ثريا ومتزوجا، إلا أنه لم يرزق بأولاد، ثم استوطن هذه الدار سفراء أمريكا وفرنسا، منهم المسمى «صامبلانكا» والمسمى «برونديل»، وكانت للسيد «ديبوا» حميمية مع المسمى «بورط» صاحب أحسن وأجود متجر للحلويات في المدينة المعروف بـ «مدام بورط» نسبة إلى زوجته وابنته.
وكانت للسيد «ديبوا» غرسة اعتنى بها وبنى بها صهريجا ضخما يملأ بماء عذب زلال يستخرج من بئر عميق بواسطة محرك فرنسي الصنع مثبت في أسفل البئر الذي يزيد عمقه على 70 مترا ويضخ الماء في هذا الصهريج الذي هو مسبح جميل خصصه لعائلة بورط المذكور، وخاصة ابنته الوحيدة. وفي نفس الوقت خزان للمياه يسقى منه الشجر والزهور المختلفة الألوان والأشكال، وأشجار الفواكه المعروفة والنادرة، هذا الرياض امتاز بتقسيم بديع أغراسه في تناسق وانسجام يتم الإشراف عليه من الجانب العلوي وهو في شكل مدرج منحني يراه الناظر من الأعلى وكأنه مسرح تتراقص فيه مخلوقات شتى من النبات والأشجار والورود، نذكر منها : الفن، القرنفل، الورد، السوسان، الخيلي، كلايو، الداليا، بوتونسيا، ديزينيا، كاميليا بوتونسيا، بوشكار نوبيو، الأزرق، الغونباز، فم السبع، مركريطا، بوسكوس، مونا فجيج، النواقس، بليامون، لانطانا، العطرشة، الراديو… وكانت مزودا رئيسيا لبائعي الزهور بالمدينة.
وقد نظمت بهذا الرياض، الذي كان يعتني به السيد «المختار السحتة» -والد المؤلف- حفلات كثيرة ومنها أمسية غنائية في أوائل الخمسينيات، حضرها المطرب المصري المعروف كريم محمود. كما حضر جلسة موسيقية هناك الأستاذ عبد الله إبراهيم رئيس الحكومة في أوائل الاستقلال، وكان يرافقه الأستاذ التهامي العمراني المحامي بطنجة رحمهما الله. وإذا ذهبنا صعودا على جانب السور الذي يحيط بقصر المولى عبد الحفيظ، وقد أقام به بن عرفة الذي كان يخرج بين الحين والآخر إلى الطريق مرفوقا ببعض الخدم، يقف قرب الباب، يتأمل الشارع العام ثم يعود إلى الداخل، ولم يلبث في هذه الإقامة إلا مدة قصيرة ثم رحل.
ثم نصل إلى القصر الملكي، وكان يسمى «بلاص» أي القصر، ولقد احتضن في داخله بما اشتمل عليه من الغابة حيوانات كالغزال والزرافة، فكانت تطل برأسها أحيانا من وراء السور إلى الخارج، وكان جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني يقضي به أوقاتا في فصول الصيف خاصة، وتوالت زياراته في عطلة كل صيف إلى طنجة والإقامة بالقصر الواقع بالجبل الكبير، وألف السكان مقدم الملك في هذا الموسم، وقد عبر عن هذه المشاعر المرحوم الأستاذ أبو بكر اللمتوني في قصيدة هيأها لاستقبال الملك في إحدى العطل وجاء فيها : ادخل فقد كنت اللواء الداخـــلا وانزل بأهلها فديتــك نـــــازلا فهم قد اشتاقوك ملء قلوبهم وهم قد انتظـروك عاما كامــلا وتعـــودوا إلا يروك بعينهــــم إلا رأوا خـــيــــرا عــاجـــــــــلا ويقابل القصر الملكي الروضة المعروفة بمقبرة سيدي عمار، وهي مخصصة لدفن أموات أهالي المنطقة، إلا أنها اليوم، وقد فرض فيها أشخاص رسوما للدفن فقد بدأت تستوعب كل الأموات من أية جهة جاؤوا وتحيط بها من الجهة السفلية صخور ومطلات طبيعية ترى منها نحو المدينة، أما قرب مكان الضريح، فهناك آثار مسكن أو معبد قديم بقي منه جدار متين مبني من الحجارة وخليط من الجير، وعرف عن هذه المقبرة بأنها بقعة اختيرت لدفن الكنوز، فقد استخرج منها العديد، وشوهدت عدة مرات حفرا تم حفرها ليلا وبجانبها أكوام من الأتربة قرب الضريح وبجواره وداخله. إن الذهب واللويز كانا يحفظان في قلات أو قلل من الطين مدفونة تحت الأرض، وهذا ما يؤكده العارفون بهذه الأشياء.
بعد هذا مباشرة توجد الدار التي عرفت بدار «ويدو» وكان مالكها أميرا إيطاليا يسمى «بروندوليني» وهو اسم لعلامة تجارية عالمية قديمة مشهورة بجودة منتوجاتها في الألبسة بصفة خاصة، وتعرف هذه الدار بدار الحجرة، لأنها بنيت فوق صخرة كبيرة وتجاورها صخرة ضخمة بيضاء، نقشت عليها أدراج الصعود إلى أعلاها، وعند سطحها نقش تاريخ حفر هذه الأدراج وتسمى «حجرة جمجم» وقد عاين هذه الصخرة معمر قديم من المنطقة، قال بأنها تكبر وتصغر مع الزمان… وقال آخر بأنه كان يعرفها وهي أصغر مما عليه الآن، أفلا يكون بها سر مكنون؟!.. ومرورا بعدة مناطق وبيوت وأجانب مما يطول عرضه نصل إلى حجرة الغراب مروررا وسط غابة ميموزا. وعند الحجرة يمتد البصر فيها إلى جبل موسى وحتى الحدود البرية الإسبانية والبرتغالية، ويُرى الشاطئ واضحا بارزا بخلجانه ومنعرجاته، ينطلق النظر في هذا المد الفسيح فيتمتع ويستريح.
ويأتي الكتاب على ذكر «المريسة» فيعرّفها بأنها عبارة عن خليج صغير بين مرتفعين تقل أن تنعدم فيها التيارات المائية وينتهي بحجارة صغيرة صماء مثل بيض الدجاج، وبعد استعراض مغامرات شتى لأشخاص بحارة كالحسن دالبحار نصل إلى «الحافة» وهي في تعريف الكتاب منحدر صخري ينتهي ببحر عميق، وهي خطيرة المسالك، ثم السريجة المكورة، حجرة الطيور، رأس بوصابون، المدردبة، الحجرة الكحلة، البحاير، المخفية، تربلا ولسياخ، الريشة، أسردون، عكرومة، الطوري، الفنار، حجال بوهندية، الحلياق، الشبينة، الشاطئ الرملي باقاسم، أشقار، مغارة هرقل، ثم رأس سبارطيل وهو امتداد في البحر ينبئ القادمين من المحيط الأطلسي بالاقتراب من مدخل حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنارته الشهيرة ذات التاريخ مخصصة لهداية السفن، وبالقرب منها «صور» للنفخ يشبه خرطوم فيل ملتو مثبت على سفح الصخور، يخرج من فتحتيه صوت قوي في حالة وجود الضباب يثير الفزع تسمعه البواخر فتبتعد حتى لا تصطدم بصخور هذا البحر، وقد سجلت منذ القديم أحداث ارتطام بواخر كبيرة بالصخور في هذه الأمكنة، وآخرها جنوح إحداها بحجرة بوهندية، وأخرى بالصخرة المسماة «المخفية» وقبلها سفينة عملاقة توغلت بالموقع الذي أصبح يحمل اسم «البابور» ولازالت بقايا هذه البواخر هناك ومنها ما هو بارز فوق سطح البحر إلى الآن..
ثم نجد غابة السلوقية حيث توجد محطة الإذاعة مطلة على مديونة، وفي نقطة هي الأعلى قمة في الجبل الكبير، هناك مساكن متلاشية لأبنية تدل آثارها على أنها كانت محصنة، في هذا المرتفع المغطى بالغابة المتشابكة بعيدا عن المدينة والسكان، وأطلق على هذا المكان قديما اسم «سيدي ما عطا الله» قيل إنه اسم لولي أو عابد دفن فيه، وقيل إنه اسم رمزي له معنى مشفر يفيد بوجود كنوز مدفونة. ويبدأ الانسداد نحو منطقة الرميلات وهي ملتقى الطريق الآتية من الجهة المسماة «بوبانة»، ثم نعرج نحو اليمين إلى منتزه يسمى الميرادور وهو يطل على البساتين المعروفة «أكلا»، وهي غرسات اشتهرت بفاكهة الإجاص وخاصة البنوع المعروف بالحرشي.
ووسط غابة على مسافة أكثر من كلمترين توصل إلى مسبح كبير ومسبح للأطفال غابوي خال من الأبنية ومزود بمطعم ومشرب ومجهز بمرافقه الخاصة، يملأ بماء البحر النقي وكان يزخر بالزوار والفرنسيين وأجانب آخرين، وقد توقف نشاطه في أوائل سنة 1960 ولازال بناءه موجودا، والبيت الخاص يحفظ المحرك لضخ الماء إليه على صخور الشاطئ قائما، وقنواته الحديدية شاهدة عليه إلى اليوم وقد غزاه الخراب، وغطت أرضيته الحشائش والأعشاب، وتراكمت حوله الأعواد اليابسة وأوراق الأشجار، ويوجد بالقرب منه جدول ماء يقل ماؤه ويجف في آخر كل صيف ويسمى خندق «النيكرو» أي الخندق الأسود، ذلك أن لون الأحجار التي تمر عليها المياه فيه يميل إلى السواد.
وفي سهل داخل الغابة منخفض كانت هناك غرسة شيقة تسمى «غرسة تشوخية» بها أشجار البرتقال والليمون والمندرين، وهي متميزة إذ أن بها أشواك قوية تجعل قطف ثمارها صعبا، وهي لذيذة، وبها أيضا أشجار البرقوق والموز وأخرى غير مثمرة وجميلة، وهي أشجار الآس من مصدر أندلسي، وكانت تغرس بها زهور الداليا ذات اللونين الأبيض والأسود، وبها عين من الماء ومسبحان كبيران مبنيان من الإسمنت، ولكل منهما ينبوع خاص به، وهذه الينابيع كانت من أهم مصادر الوادي المسمى خندق «وادراس»، الذي يصب في بحر المريسة وينتهي بشلال يغتسل منه المستحمون في هذا البحر، وقريب من مدخل هذه الغرسة هناك بيت كبير كله من الزجاج متين البناء تربى فيه شتائل أشجار الصنوبر(التيدا) لتغرس هناك بإشراف السويسري المعروف باسم «هاندري»، وكان يسكن بمرشان طبيب إنجليزي مشهور، علما أن حي مرشان كانت توجد به أهم المراكز الاستشفائية كمستشفى القرطبي ومعهد باستور، هذا الطبيب كان يصعد من حين لآخر إلى الجبل الكبير ويجمع عدة أنواع من أوراق الشجر والأعشاب ليصنع منها أدوية في مقر عيادته بطهيها وتقطيرها ويسلمها للمرضى بأثمنة بسيطة، وكان يطلب منهم أن يأتوا مصحوبين بقوارير فارغة لملئها بطبيخ هذه الأعشاب بنسب ومقادير يحددها، وقد تعافى كثير من المرضى إذ ذاك، فهو لم يكن عشابا، بل كان طبيبا متمكنا حقيقيا وقد أسدى خدمات طبية لا ينساها له أهالي طنجة المعاصرون له، وكان سعر الزيارة عنده في عيادته درهمين في الصباح وثمانية دراهم في المساء.
أما العشاب الذي أصبحت له اليوم مكانة واهتماما، فهو أقرب إلى الشعوذة، فكانت هناك محلات تباع فيها للعموم بضاعة هي خليط من الأعشاب ومواد أخرى، إذ على بعد خطوات من مستشفى بوعراقية للأمراض الصدرية كان يوجد دكان معروف بعرض للعموم مبيعات معلنة ومكشوفة تتكون من جيف مجففة لحيوان الذئب والقنافذ والغزال، وطيور البومة والهدهد والوالوال، وجلود الضفادع وأغشية الأفاعي وأصداف السلاحف ولسان البحر، وأعشاب ضارة، ومساحيق غريبة للبخور، ولم يكن يسأل عن هذه البضاعة وهذه الموبقات المؤذية والمميتة وما هي إلا خبائث ورد تحريمها قطعا، إلا فسقة ولاشك أن ضررها أصاب من أصاب، وأهلك من أهلك. لا يمككنا في هذا العرض الإحاطة بكل عجائب ومشاهدات كتاب «الجبل الكبير»، ولكننا نكتفي بالأهم..
والكتاب، بحق، يُغني عن الزيارة الميدانية ولو أن هذه الأخيرة في الحقيقة يمكن أن تكون تكملة للقراءة فليس الخبر كالعيان.. وأجزم أن كثيرا من سكان طنجة، سيما شبابها وفتياتها، لا يعرفون خبايا مناطق مدينتهم، فاعل هذا العرض يكون حافزا للشباب وللباحثين في كنوز المدينة الأسطورية طنجيس أو طنجة للبحث والتقصي والكشف.