في وثيقة تنشر لأول مرة: العلامة عبد الله كنون يحكي قصة انتقال أسرته من فاس واستقرارها بطنجة : سي محمد أملح / تطوان
الخميس 04 غشت 2016 – 15:15:15
اهتّم كثيرٌ من المغاربة والمشارقة بشخصية العلامة سيدي عبد الله كنون الحسني لريادته على أصعدة علمية وفكرية متعددة.
وقد أجريت معه عدة لقاءات وحوارات عبّر من خلالها عن نظرته إلى مجموعة من القضايا الإسلامية والأدبية والعلمية، المغربية منها والعربية.كما ضمت هذه الحوارات، في أرجاء منها، جوانب من السيرة الشخصية لهذه المعلمة المغربية الشامخة. ولعل أبرز هاته الحوارات وأوسعها، التي سأجمعها في كتاب واحد سيرى النور قريباً، تلك التي نشرت في جريدة العلم ومجلة الكرمل ومجلة الفيصل. وأسعد اليوم بتقديم قطعة من حوار جديد لا أشك في أن المتخصصين بدراسة هذه الشخصية قد غفلوا عنه وعن محتواه؛ فقد وقعت في يدي هذه القطعة على شريط فيديو، حيث يحكي من خلالها العلامة كنون قصة انتقال أسرته من فاس، واستقرارها بمدينة طنجة، وما رافق ذلك من المشقات التي لحقتهم وهم يغادرون فاساً، ويقولون لها وداعاً يا أرض الآباء والأجداد، فراراً بدينهم، وعزوفاً عن الخضوع لحكم الأجنبي المعتدي بالمكر والقوة على هذا الوطن العزيز.
لذلك، عزمت على تخريج النص من الشريط، منسقاً إياه بما يحتاج من أدوات الربط، عسى أن يجد فيه المهتمون بهذه الشخصية إشارات أو معلومات أو تفاصيل جديدة لم يسبق ذكرها فيما كتب عن سيدي عبد الله أو فيما قاله عن نفسه في مذكراته أو في مناسبات حوارية مختلفة.
نص القصة :
«عند انتقالي من فاس إلى طنجة، وفاس هي العاصمة الروحية للمغرب، والعاصمة العلمية، كنت مكرهاً ولم يكن لي خيار في ذلك ، لأني انتقلت من فاس مع العائلة؛ مع والدي رحمه الله.كنت في طفولتي الأولى، وبالتدقيق في سن السادسة، والأسرة ستنتقل. والانتقال كان بقصد الهجرة إلى المدينة المنورة، التي كانت الأسرة تحدث نفسها بها منذ أن وطئ الأجنبي أرض الوطن في سنة سبعة (1907م) حين نزل بالدار البيضاء. فوالدي رحمه الله وعَمِّي بصفتهما من العلماء الملتزمين الذين لا يرضون أن يخضعوا لحكم الاستعمار والسيطرة الأجنبية، انزعجوا كثيراً.
وكان جدي الشيخ التهامي رحمه الله أيضاً من العلماء والمحدثين والفقهاء الكبار، وكان أيضاً قد انزعج من هذا الحدث. وكان في سن متقدمة، فلم يقبل هو أيضاً الخضوع للسيطرة الأجنبية والعيش تحت حكم غير إسلامي. ففكر هو أيضاً في الهجرة. ولكن، كان الأمل في أن الأجنبي سينسحب، وأن قواتنا الوطنية وجيشنا المغربي سيدحض هذا الدخيل. فبقي الأمر يتطور من عام سبعة (1907م) إلى عام اثني عشر (1912م)، حيث أُمضيت الحماية، ولم يبق فيها كلام حينئذ. ومن حُمْقِ المستعمرين، والفرنسيين بالخصوص، أنه في تلك الأيام التي دخلوا فيها التفتوا إلى جامعة القرويين، وإلى جمع علماء فاس كلهم في البطحاء1.
وكان لأحد مستشرقيهم2 لقاء مع علماء فاس3 بصدد أن يعرف القرويين، ما هي؟ وهذه الجامعة، ماذا تدرس؟ وما هي اتجاهات العلماء وأفكارهم؟ وكان ذلك في حالة طبيعية بالنسبة إليهم، ولكنها بالنسبة إلى العلماء غير مرضية إطلاقاً، ولا تتصور في ذلك الوقت، بل ربما كانت مستحيلة؛ عسكريون وأفراد موظفون يدخلون عليهم ويدخنون ويرمون أعقاب الدخينة… وهذا شيء ما كان يعرفه العلماء في فاس، وفي القرويين بالخصوص. فاستغرق الجمع نحو ساعتين أو أكثر، وتفرق في نحو الساعة الثانية بعد الظهر. فخرج العلماء، ومنهم الوالد والعم، ونزلوا إلى المدينة من طريق الطالع كما هو معروف. دخلوا لجامع “الشرابليين”4 بعدما صلت المساجد كلها الظهر، فتوضآ وصليا صلاة الظهر، وتعانقا هناك على أنه لا يمكن أن يتموا الشهر في المدينة.
وخرجا متعهدين على السفر. وفعلاً سافرا من فاس، وتركوا العائلة كلها وبعض الأصدقاء وبعض أفراد العائلة البعيدة تدبر أمر رحلة العائلة ( النساء، والأطفال، وأصهار مرتبطين لا يمكن أن ينفصلوا: زوج ابنة الوالد مثلاً، أخ زوجة الوالد وما إلى ذلك، أو السيدات العجائز كالحماة وما إلى ذلك)، ومن الأثاث والفراش… وهذه أشياء كثيرة جداً لا يمكن أن تتم في يوم أو ليلة. هذا مع أن الخروج كان مَظِنَّةً أنه يمكن أن يمنعوا.
لأنه لَمَّا يسمع أنهم سيهاجروا، وما من أهل العلم الذين لهم تأثير في الرأي العام… فبقي عمي والوالد هنا في طنجة ينتظران وصول العائلة.
وقد اقتنوا أوراق السفر وأدوا ثمنها؛ السفر في بعض البواخر التي كانت ستخرج من هنا، يتوجهون إلى بور سعيد أو إلى … في هذا الانتظار، كانت قد قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، فكان بقضاء الله أن تلك الباخرة التي سحبوا أوراق السفر فيها لتأخر الأسرة ضُربت بمدفعية العدو، فلم تتأت هذه الهجرة، وأقاما في طنجة منتظرين قدوم باخرة أخرى، أو انفراج الأزمة أو ما إلى ذلك. ثم إنه لا يمكن أن نتصور كيف كان ينظر العلماء إلى الهجرة، إنها عملية بمثابة عبادة أو بمثابة واجب لا يمكن أن يتراجعوا عنه. فأقاموا نهائياً لأنهم لا يمكن أن يرجعوا في هجرتهم، وإلا بطل ثوابهم كما كانوا يعتقدون، وكما هو مذهب كثير من العلماء… حتى بعد أن انتهت الحرب عام 18 (1918م)، لم يفكر الوالد في الهجرة، لأن الأحوال بقيت في الشرق أيضاً مضطربة جداً، حيث قامت الحرب، وكانت هناك معاهدة الصلح إلى سنة 20 (1920م) وما إلى ذلك.
في هذا الوقت، دخلت فرنسا إلى دمشق وإلى الشام، وإنجلترا إلى فلسطين والعراق، ولبنان أيضاً دخلته فرنسا واقتطعته من سوريا، وشرق الأردن اقتطعته إنجلترا وأنشأت فيه دولة صغيرة إلخ… فكان الشرق لا يمكن للإنسان أن يسافر إليه في ذلك الوقت. فبقينا هنا. توفي عمي، وترك عائلته تحت نظر الوالد. الوالد شق عليه الأمر وكبر، فلم يستطع أن يخرج، ولكنه لم يغادر طنجة لأنه ما زال على نية الهجرة. وكان بعد ذلك أن طنجة كما يعلم الناس الذين عاشوا فيها، وكما يعلم أيضاً المؤرخون، ولكن الشباب والكثير لا يعلمون أنها بقيت حرة مستقلة، حتى لما قامت الحماية عام 12 (1912م) إلى تقريباً سنة 23 (1923م)، بل إلى 25 (1925م)، حين استقر النظام الدولي الذي قدر لها وطبق. فكان الوالد يقول: الحمد لله، نحن هجرتنا صحيحة.
فجلس هنا، واشتغل بالعلم والتدريس في الجامع الكبير، وبالأعمال التي كان يعمل بها في فاس، ولم يفكر أبداً في أن يرجع.
س : في أيّ سنة جئتم إلى هذا البيت، وإلى القصبة من بعد؟
سبعة وستون عاماً ونحن هنا. تلك الدار كانت قطعاً بالكراء. وكان الوالد يريد داراً مثلها أو تقاربها، وجدنا في القصبة البيت متسعاً. هذا البيت أيضاً كان لرجال سلطة: أبناء عبد الصادق الذين كانوا ولاة وما إلى ذلك. والسبب ليس المقصود هو التعالي، بل المقصود هو الصحة». هنا انتهى الحديث فيما وجدناه من الشريط. وإذا كنا لا نعلم الجهة أو الشخص الذي أجرى معه هذا الحوار، فإن هذا الأخير يبقى على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة إلى سيرة الشخصية أولاً، وبالنسبة إلى تاريخ المرحلة ثانياً.
فإذا كان الهدف منه هو سرد أسباب انتقال الأسرة الكنونية من فاس إلى طنجة باعتبار هذه المدينة الأخيرة محطة للعبور والسفر إلى المدينة المنورة؛ فإن الحديث أيضاً تضمن إشارات تاريخية جد مهمة عما كان يقوم به المستعمر إبان فرض الحماية، وكيف كان يحاول السيطرة على المغرب على جميع الأصعدة بما فيها العلمية، على اعتبار أن جامعة القرويين كانت تعدّ النواة الرئيسة لكل انبعاث علمي، وكانت في أيام الاستعمار مهداً لإعداد الأبطال ومقراً لتعبئة الثوار والمحتجين ضد السياسة الاستعمارية الفرنسية البغيضة. لذلك، كان المستعمر الفرنسي يحسب للقرويين ألف حساب، وحاول أن يحكم قبضته عليها منذ أن وطئت قدمه أرض المغرب.
صفوة القول إنه مهما يكن من ورود هذه القصة برواية مشابهة نوعاً ما على لسان سيدي عبد الله في مذكراته غير الشخصية، فإن هذه القصة أو بالأحرى هذه الوثيقة تبقى لها أهميتها وتحتفظ بمكانتها ضمن أرشيف المرحوم سيدي عبد الله كنون، بل والأرشيف المغربي في مرحلة بارزة من تاريخه السياسي.
الهوامش:
2 – في أغلب الظن هو “لويس مارتن”. انظر مذكرات غير شخصية، لعبد الله كنون، ص 20.
3 – كان اللقاء برئاسة شيخ الجماعة السيد أحمد بن الخياط المتوفى سنة 1924م، وتولى الكتابة السيد محمد بن الحسن الحجوي المتوفى سنة 1956م. انظر مذكرات غير شخصية، لعبد الله كنون، ص 20.
4 – جامع الشرابليين: من الفروع الشهيرة لمسجد القرويين. كان يسمى في القديم مسجد الصفارين القدماء. أسسه السلطان أبو الحسن المريني، ووقع إصلاحه في عهد السلطان مولاي سليمان. انظر جامع القرويين، لعبد الهادي التازي، 3/684.