…وهو يُجْهِدُ قلمه غايةَ الجُهْد.
الخميس 10 نوفمبر 2016 – 16:47:38
…حظيَ الصالون الأدبي لنادي الاتحاد باستضافة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بودرع ، أستاذ لسانيات النص و تحليل الخطاب ، وهو عالِمٌ جليل وقد أتحفنا بعلمه الغزير ليَنْقلِبَ ثِقَلُ معاني لغة البيان إلى مباني الفكر الأكاديمي ، من مَعين العِرفان الذي يعتمِدُ العقل و الحداثة . إذ ليس العلم ما حُفِظ و إنما العلم ما نفع . وقد ألقى على مسامِع الحضور الوازن أفانين البديع التي توشي بأدب واسع الأفُق . وهو يغوص في علم اللسانيات في بحار لغة الضاد .
التجارب في الرحلة الحجازية ، موضوع المحاضرة ، وهي فنٌّ من فنون الكتابة في آداب الرحلة . إذ دأب بعض العلماء و الأدباء تدوين رحلاتهم إلى بيت الله الحرام . من بينهم مصطفى صادق الرافعي الذي قضى نحبه بمكة المكرّمة ، حيث جاء ذلك في كتابه ” السحاب الأحمر” في فصله الثامن وهو يذكرُ الصداقة المتينة التي جمعته بالشيخ أحمد الرافعي بْنُ عمِّه و صديق نشأته و شبابه و خال أولاده ، قائلا : الصداقة منزلتان ، الصبرُ على الصديق حين يَغلُبُه طبعُه فيسيء إليك ، ثمَّ صبرُك على هذا الصبر حين تُغالِبُ طبعك لكيْلا تسيء إليه . ألف أيضا في آداب الرحلة إلى الحجاز الفقيه العلامة محمد الأمين بوخبزة ، والمديني وأبوبكر القادري ، والدكتور عبد الرحمن بودرع و غيرهم كثر .
انتقل المحاضر بمعية الرَكب من البيضاء عبر الجوِّ إلى أنْ حَطتْ الطائرة بمطار قاهرة المعِزِّ لدين الله الفاطمي . دور بلاد الكنانة الرائد زمانئذ بالنسبة للحججيج القادمين من الأندلس و الغرب الإفريقي بقوافلهم. ثمَّ في اتجاه جدَّة و عند مرور الطائرة فوق الميقات أحرم الحجاج ، فإذا بالحاج يشعر بإحساس من اندماجه في عالم مجرَّد من الهوى و النفس الأمارة ، إلى المطمئنة و التذلل إلى الخالق . بوصف مهيب يعبِّرُ عما تسطع به أنوار مكة المكرَّمة و الكعبة المشرفة و مقامها من البيت المعْمور، عند رؤيتها . و عمّا يختلج صدر المعتمِر و الحاج من الإحساس بالأمن و الإيمان الصادق بين يدَي الله ، أقدم العبد على نسك العُمْرَة بأشواطها السبعة ، بدْءاً من الحجر الأسود فالملتَزَم إلى حجر إسماعيل ، ثمَّ الحجر الأسود على قدر الأشواط إلى نهايتها ، و لسانه رَطْبٌ بذكر الله . تأتي على الفور رُكْعَتيْ بمقام إبراهيم و الارتواء بماء زمزم وهو الطعام و لِما شُرِبَ له . أعقبتها شعيرة الصفا و المرْوَة و استحضار السيدة هاجر زوجة ابراهيم و أمُّ إسماعيل عليهما السلام . وقد أنعم الله عليها بماء زمزم (في واد غير ذي زرع عند بيتك المُحَرَّم) ، ثمَّ الحلق للمُعْتمِر مع المُقصِّرين . تلك هي حلاوة الإيمان بالواحد الأحد . لقول رسول الله –صلعم- إنَّكِ لأحبّ البقاع إلى الله و أحبّ منكِ إليَّ .
القيمة العلمية في المُجاورة و النزول إلى الجوار الشريف. عندما يترُك الإنسان المادة الفانِية في دُنيا الناس وراء ظهره ، يسمو بالرُّوح إلى ملكوت خالِقِه . ينتقي الكاتب لؤلؤ اللفظ لوصف شعور المؤمن أثناء الطواف وَيْكأنَّهُ كوكب يسبح حوْل الشمس. وَكأنِّي به أستحضر قول أحد علماء الغرب الإخصائيين في علم الأجنَّة ، وهو يشرح نتائج بحوثه المَعْمَلِيَة: إنَّ الحيوانات المَنَويَة عند اقترابها و اختراق إحداها لبُوَيْضَة الأنْثى من أجل الخُصوبة ، تبدأ دَوَرانها حوْلها يسارا كأشواط الحجّ و الاعتمار حول الكعبة .
لا يألو جهدا المحاضر عن وصف أمِّ القرى بأجمل حُلة لعظمة المكان و بدعاء سيدنا إبراهيم إذ يطغى على ذاكرته (فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم و ارزُقهم من الثمرات لعلهم يشكرون –صدق الله العظيم –الآية 37سورة إبراهيم ). و يذكر ما جاء به كتاب ” نفح الطيب”. إنَّ مكة ليس لها مثيل على وجه الأرض، تأوي كل أجناس الأرض من بني البشر من العرب و العجم ، بلغات و ثقافات متعدِّدَة . هي لا يَغمَضُ لها جفن ليل نهار.
و كيف أنَّ طبيعتها الصخرية اسْتنْبِتثتْ عليها زرابيُ خضراء من البساتين مساكنة آمنة للطيور. حتى يقِفَ العالِمُ إزاء كتاب ناذر مضى يُفتِّشُ عنه عدة سنين و يسجد لله ، تحسَبُه يسجد للكتاب .
كلّ من حجَّ البيت أو اعتمر يجتهد في التنقيب عن شهد الكلام في دواخِلِ وِجْدانِه للتعبير عن روائع جمال المقام ، وقد يَتتعْتعُ لسانه في حضرة البيت العتيق . إنْ هي إلا شعور جياشة تنهمِرُ العبرات عند المشاعر ، للآلآء التي حبا الله بها أمّ القرى . تقشعِرُّ الجلود و تخشع القلوب و الأصوات للرحمن ، عند مشعر عرفة و الاتجاه نحو جبل الرحمة في ازدحام شديد ، و الأصوات تناجي ربَّها بدُعاء سؤاله المغفرة و الرحمة . أداء صلاتَيْ الظهر و العصر جمع تقصير و تقديم بأذان واحد و إقامتين . خطبة عرفات و ما أدراكما خطبة الوداع لرسول لله –صلعم- ( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ) ، فلا أحد يستطيع و الدموع تذرف من عينيْه أنْ يتوقف عن ذكر الله جلَّ و علا . إلى غاية مغرب شمس التاسع من ذي الحجة و التوسل و التذلل إلى الخالق يزداد شوقا و إلحاحا ( إنَّ الله يُحِبَّ العبد الملحاح ) . مزدلفة بعدها تفتح ذراعيها للحجيج لأءداء صلاتيْ المغرب و العشاء جمع تقصير . هنا تُجْمَعُ الحصيات و المبيت بها على سنة المصطفى –صلعم- إذ لم يستطع المحاضر و الرَكب المبيت إلا على متن الحافلة .
بصُحْبة الدكتور محمد الحبيب الهيلة توجه المحاضر إلى رمْيِ العقبة و الغسل و التحلُّل الاصغر . فتوجها بعد ذلك إلى طواف الإفاضة في منتصف الليل لعلى الازحام يكون قد خفّ . مشيا على الأقدام ، يذكر المحاضر أنَّ رفيقه التونسي الحبيب الهيلة ، يروي للرَكب تاريخ و قصَّة المعالم التي اندثرتْ . متحديان الازدحام في الأنفاق إلى أنْ وصلا مع الركب الذي كان يرأسه الدكتور حسن الوراكلي ، إلى ركن طواف الإفاضة . مرَّت أشواط هذا الركن في يسر ، أعقبه رُكعتيْ مقام إبراهيم ثمَّ ماء زمزم فالصفا و المرْوَة من شعائر الله . عودة الركب بعدها إلى منى في أيام التشريق لرمي الجمرات . فعليكم عباد الله بالدعاء ، قالها الصادق المصدوق ، مالم يدْعُ بإثم أو بقطع رحِم . يشرح المحاضر الغاية الزمانية و المكانية الشرطية عند الانتهاء إلى المسجد الأقصى ، لا يتحقق إلا بالانطلاق من المسجد الحرام و المرور منه إلى الأقصى المُبارك .
يروي الكاتب حالة احتضار التراث المعماري الإسلامي من أجل توسعة الحرم المكي ، بطغيان المعمار الغربي ، كحصان ” طروادة ” أجهش على أماكن تاريخية ، فقام بهدم أهمِّ مآثر الصحابة ، منها مسكن أمُّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، و مساكن أصحاب رسول لله –صلعم- و يُتخوَّفُ على مقرِّ مولد النبي الذي تحوَّل إلى مكتبة بجوار البيت ، وهي ذاكرة الأمة الإسلامية . على حذِّ قول عبد الله بن عمرو : إذا رأيتَ قريشا قد هدَّموا البيت ثمَّ بنوْهُ فزوَّقوه ، فإنْ استطعتَ أنْ تموت ، فمُتْ . و يذكر كراهة رفع البناء على البيت و الكعبة لقول بن رُشد و الإمام مالك . مستدلا ببعض المصادر لأبي الحسن علي الحسن الندْوي في كتاب ” الأركان الأربعة ” ، و الطريق إلى الإسلام نقله محمد أسد إلى العربية . و يذكر صفة الإيثار عند تجار مكة و المدينة . مدينة رسول لله – صلعم – و زيارة مسجد المختار و نِعْم المختار و الصلاة به ثمَّ السلام عليه و على صاحبيْه .
و إنَّهُ لنافِعٌ لِمنْ يُقدِّرُ محمدا و ليس بنافع لمحمد أنْ يُقدِّروه . و ليس في المسلمين كابِرٌ ، فمنِ تواضعَ لله رَفعه ….