الطيب الصديقي في ذمة الله
جريدة الشمال – عزيز كنوني ( وفـاة الطيب الصديقي )
الخميس 11 فبراير 2016 – 16:59:58
ذلكم هو الفنان الكبير الطيب الصديقي الذي وافاه الأجل المحتوم، مساء الجمعة الماضية، عن سن يناهز 79 سنة، كرس جلها لخدمة المسرح والفن والثقافة بمعناها الواسع الشامل.
الطيب الصديقي هرم عظيم من أهرامات الحركة المسرحية المغربية والعربية والعالمية، حقق أمجادا غير مسبوقة في عالم أبي الفنون شهدت له قامات عالمية في هذا الفن، بنبوغه وذكائه وأصالة أعماله وقوته الخارقة على الإبداع في شتى مجالات العمل المسرحي حيث لم يترك مجالا من هذه المجالات إلا واقتحمه وبرع فيه وأثار الكثير من الإعجاب بإنتاجه كاتبا وممثلا ومخرجا وباحثا أصيلا متميزا .
إنه قامة من قامات المسرح المغربي والعربي والإنساني، نجح في أن يجمع حوله كوكبة من ألمع نجوم الحركة المسرحية المغربية ، نهاية الخمسينات، أمثال أحمد الطيب العلج، ومحمد سعيد عفيفي ، وعبد الصمد دينيا، وعزيز موهوب، وغيرهم ليضع معهم أولى لبنات المسرح المغربي الحديث، الذي وصل به إلى العالمية عبر انتاج العديد من المسرحيات انطلاقا من نصوص مغربية وأخرى مقتبسة ومترجمة عن نصوص من روائع الآدب العالمي، كما أنه وظف ، وبنجاح كبير، التراث المغربي والعربي في بعض أعماله المسرحية وكان له فضل السبق في تقريب المسرح الاحتفالي من مسرح الفرجة انطلاقا من فن البساط والحلقة.
كانت بدايته في الدار البيضاء التي انتقل إليها من الصويرة، مسقط رأسه، ليساهم، بالصدفة في تدريب مسرحي بغابة المعمورة، سنة 1954، نظمته الشبيبة والرياضة بإشراف المسرحي الفرنسي أندري فوازان. بهدف تأسيس فرقة مسرحية مغربية محترفة، فرقة التمثيل المغربي الذي انضم إليها الصديقي إلى جانب بعض المتفوقين في تلك التداريب ومهم أحمد الطيب العلج وأحمد العلوي وعقيقي وغيرهم، حيث شاركت فرقة التمثيل المغربي في مهرجان باريس لمسرح الأمم، سنة 1956، بمسرحية “عمايل جحا” التي اقتبسها الطيب الصديقي عن مسرحية Les fourberies de Scapin لموليير وكتب حوارها أحمد الطيب العلج الذي برع في نقل الكتابات الأجنبية إلى اللغة العربية الدارجة.
لقد قادته مشاركته في هذه المسرحية بباريس إلى النجومية والعالمية، حيث إنه لفت أنظار كبار المسرحيين الفرنسيين والأوروبيين إلى موهبته الخارقة في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج والإبداع المسرحي. الأمر الذي سهل عليه المشاركة في تدريب مسرحي بفرنسا بالمسرح الوطني الشعبي حيث تعرف على رئيس ثاني فرقة مسرحية فرنسية بعد “لا كومبدي فرانسيز” الفنان الفرنسي جان فيلار ليرتبط معه بصداقة متينة مكنته من الوصول إلى كبار المشتغلين بالفن المسرحي بفرنسا وأوروبا.
وعاد، سنة 1958 إلى “مسرح الأمم” بباريس، بمسرحية “مريض خاطره” التي أنتجها لفائدة “المسرح العمالي”.
وسوف يخوض الطيب الصديقي سنة 1957، تجربة جديدة مع فرقة “المسرح العمالي” التي أنشأها تلبية لرغبة الاتحاد المغربي للشغل الذي كان المركزية النقابية الوحيدة التي تنضوي تحت لوائها كل النقابات بالمغرب، حيث دشن عمل هذه الفرقة بتقديم مسرحية “الوارث” التي اقتبسها أحمد الطيب العلج، عن مسرحية «بين اليوم وليلة” لتوفيق الحكيم، ثم قدم في السنة الموالية، مسرحية “المفتش” ، وهي مقتبسة عن “غوغول” ومسرحية “الجنس اللطيف” من اقتباسه أيضا عن رواية “برلمان النساء” لـ “أريستوفان”، والظاهر أن لجوء الراحل الطيب الصديقي إلى الاقتباس من المسرح العالمي كان بسبب كون المسرح المغربي الحديث كان لا يزال في أطواره الأولى وكان يفتقد إلى كتاب مسرحيين يملكون أدوات الكتابة المسرحية، مع بعض الاستثناءات القليلة.
بعد إنهاء تجربته في المسرح العمالي التحق بالشبيبة والرياضة، حيث قدم مسرحية “فولبون” لـ “بن حونسون”، سنة 1960، قبل أن ينشئ فرقة المسرح البلدي، بالدار البيضاء،، حيث قدم خلال موسم 1960 – 61 مسرحية ” الحسناء ” التي اقتبسها عن مسرحية ليدي كوديفا ” لجان كانول ، ثم ” مولاة الفندق ” المقتبسة عن ” اللوكانديرة ” لكولدوني ، ومسرحية ” محجوبة ” المقتبسة عن ” مدرسة النساء ” لموليير . وتابع الطيب الصديقي بحثه في روائع المسرح العالمي فقدم مسرحية “في انتظار مبروك” المقتبسة بنجاح كبير عن رواية “في انتظار غودو” لـ “سمامويل بيكيت”
وفي سنة 1963 أنشأ الطيب الصديقي فرقة تحمل اسمه ، واتخذ من قاعة سينمائية بالدار البيضاء مقرا لنشاط فرقته، حيث أعد مسرحية مقتبسة عن ” لعبة الحب والمصادفة ” للكاتب الفرنسي بيار كارليط دو شامبلان دو ماريفو. وخلال السنة الموالية، قام بإعداد مسرحية “حميد وحماد” للكاتب المغربي عبد الله شقرون. ثم عرض في نهاية سنة 1964، مسرحية “مومو بوخرصة” المقتبسة عن رواية لـ “أوجين يونيسكو”. وعاد الطيب الصديقي إلى المسرح البلدي الذي أصبح مديرا عاما له، حيث قدم سلسلة أعمال ناجحة منها مسرحية مستلهمة من التراث المغربي الأصيل، “سلطان الطلبة” التي كتبها واحد من أعمدة المسرح المغربي الحديث، الراحل عبد الصمد الكنفاوي ومسرحية “في الطريق” من تأليف الصديقي ومسرحية ” مدينة النحاس ” من تأليف شقيقه محمد السعيد الصديقي. وشمل اهتمام الطيب الصديقي أحداثا اجتماعية وثقافية وفكرية طبعت فترات من التاريخ المغربي والعربي والإسلامي، حولها بعبقريته النادرة، إلى مسرحيات على مستوى عال من الفرجة المسرحية الشاملة، منها معركة “وادي المخازن” الشهيرة، كما قدم عملا مسرحيا عن المقاومة المغربية، ضد الاستعمار، وأخرى عن “المولى اسماعيل” وثالثة عن “مولاي ادريس” مؤسس الدولة المغربية.
وانطلاقا من سنة 1967، سيسعى الطيب الصديقي إلى توظيف التراث المغربي والعربي في أعماله المسرحية، فكانت رائعته “سيدي عبد الرحمن المجذوب”، وقدم فيما بعد، مسرحية “الحراز” المستوحاة من فن الملحون المغربي صاغها في قالب فرجوي بديع. وخلال سنة 1971 أبدع الطيب الصديقي في مسرحية “بديع الزمان الهمداني التي عرضت في مهرجان دمشق المسرحي الدولي سنة 1972 وحققت نجاحا كبيرا وكانت موضوع الكثير من الكتابات الصحافية تثني على المسرحية وواضعها والأسلوب الإبداعي التي صيغت فيه والتي شكلت حدثا قنيا كبيرا على مستوى العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
كما قدم أعمالا ناجحة أخرى في إطار اشتغاله على التراث، ومنها “الفيل والسراويل”، و “جنان الشيبة”، و”الشامات السبع”، و “قفطان الحب” و”خلقنا لنتفاهم” وغيرها.
وكان للطيب الصديقي اهتمام بفن السينما أيضا حيث حول مسرحيته “في الطريق” إلى فيلم سينمائي بعنوان “الزفت” كما شارك في أعمال سينمائية عالمية.
وهكذا يكون الراحل الطيب الصديقي واضع أسس المسرح المغربي الحديث وواحدا من كبار صناع الفرجة، إذ كان له الفضل الكبير في التعريف بالمسرح المغربي والثقافة المغربية عربيا وعالميا، وبالتالي فقد واكب الحركة المسرحية المغربية وعاشها يقلبه ووجدانه إلى آخر رمق من حياته، رحمه الله.
وكان جلالة الملك قد بعث ببرقية تعزية إلى أفراد أسرة المرحوم الفنان الطيب الصديقي، عبر فيها جلالة الملك، عن عميق التأثر وبالغ الأسى لوفاة الفنان المسرحي المرحوم الطيب الصديقي .كما أعرب لأفراد أسرته ولكافة أهله وذويه ولأسرة الفقيد المسرحية والفنية الكبيرة ، ولسائر أصدقائه ومحبيه، عن أحر التعازي وصادق المواساة في “فقدان أحد رواد الفن المسرحي بالمغرب، المشهود له بالتألق والابداع ، والجرأة في التجديد، وبالتعريف بالمسرح المغربي عربيا ودوليا”.
واستحضر جلالة الملك بكل تقدير، ما كان يتحلى به الراحل الكبير من حميد الخصال، ومن حس إبداعي رفيع ، جسده على مدى نصف قرن ، في أعمال مسرحية خالدة ، سواء ككاتب أو كمخرج أو كممثل ، حيث ظل رحمه الله، حريصا على استلهام مواضيع مسرحياته من عمق التراث الثقافي المغربي الأصيل، مما أكسبه إعجاب وتقدير جمهور واسع من عشاق فن المسرح في المغرب وفي الخارج
وقد تم بعد صلاة عصر يوم السبت بالدار البيضاء، تشييع جثمان رائد المسرح المغربي، الفنان الطيب الصديقي في موكب جنائزي مهيب تقدمه مستشارا جلالة الملك، السيدان ياسر الزناكي، وعبد اللطيف المانوني.
وبعد صلاتي العصر والجنازة بمسجد طه، نقل جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء حيث ووري الثرى بحضور أفراد أسرة الفقيد، ووالي جهة الدار البيضاء والعديد من الفنانين ورجال الإعلام لتطوى بوفاة المرحوم الطيب الصديقي صفحة مشرقة من تاريخ الفكر والثقافة والفن بالمغرب.
وبهذه المناسبة الأليمة ، تليت آيات بينات من الذكر الحكيم، كما رفعت أكف الضراعة إلى العلي القدير بأن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يشمله بعظيم مغفرته ورضوانه، وأن يجعل مثواه فسيح جنانه وأن يثيبه الجزاء الأوفى عما أسداه لوطنه وللمسرح والفن والثقافة بالمغرب.
رحم الله فقيدنا العزيز وأسكنه فسيح جناته وأثابه على ما قدم من خير لبلاده وأمتهوعزاؤنا لأهله وعائلته الصغيرة وإلى عائلة الفن المسرحي التي أصابها اليتم بفقدان رائد من رواد المسرح على المستوى العالمي. .
وإنا لله وإنا إليه راجعون