آليات تصريف الكلام في الخطاب الشعريّ.
(شعر لسان الدين ابن الخطيب أنموذجاً)
د. يوسف الرايس
توطئـــــــــــــــــــــــــــــــــة:
إنّ لكلّ لغة من اللغات قواعدَها النحويّة وسَنَنَها المعياريّة التي لا تحيد عنها، وإلاّ عُدّ الأمر خطأً وخروجا عن الصواب، وانحرافا عن الجادة اللغويّة. إلاّ أنّ الخطاب الشعريّ يشكّل استثناءً، ويتجاوز هذه المسلّمات والبديهيّات، ويقوم بخرق المعايير النحويّة، وخلخلة بنيتها التركيبيّة، حيث تبدو اللغة الشعريّة في أحايين كثيرة وكأنّها إخلالٌ منهجيٌّ منظّمٌ بالأعراف اللغويّة المتعارَف عليها، ومن هنا يكتسب الخطاب الشعريّ تميّزه الفنّيّ وتفرّده الإبداعيّ، بل هويّته الشعريّة، التي لا تتحقّق «إلا بقدر تأمّل اللغة وإعادة خلق اللغة مع كل خطوة، وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للّغة، وقواعد النحو، وقوانين الخطاب»
[1]. فينشئ الشعر قواعده النحويّة الخاصّة، أو ما سمّاه (كوهن) ب (النحو الـمُشَعْرن). ويقول (ياكبسون) ((R.jakobson في هذا الصدد: «نادرا ما تعرّف النقاد على المنابع الشعريّة المستترة في البنية الصرفيّة والتركيبيّة للّغة، أو باختصار على شعر النحو ومنتوجه الأدبيّ، أي نحو الشعر. كما أنّ علماء اللغة كادوا يهملونها نهائيّا، أمّا الكتّاب المبدعون، فعلى العكس من ذلك تمكّنوا في الغالب من أن يستخلصوا منها فوائد جمّة»[2].
وهذا ليس جديدا على مدوّنات تراثنا النقديّ والأدبيّ، وصحائف إبداعنا الشعريّ، التي أعطت للشاعر العربيّ مساحة واسعة من الحرّية التعبيريّة لم تعط لمبدع غيره. وعدّت الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاؤوا[3].
وجوّزت في النظم مالا يجوز في غيره من فنون الكلام، يقول (سيبويه): «اعلم أنّه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام»[4]. ويقول (الخليل بن أحمد): «ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومدّ المقصور، وقصر الممدود، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون البعيد ويبعدون القريب، ويحتجّ بهم ولا يحتجّ عليهم…»[5].
وما تلك الرخص الفنّيّة والضرورات الشعريّة إلاّ مظهرا من مظاهر هذه الحرّية في الإبداع الشعريّ، وليس في الأمر-كما قد يُفهَم زَيفاً- تبريرٌ للجهل باللغة وعلومها، وتشجيعٌ على اللحن في قواعدها ومبادئها، «وإنّما الحرص على تحقيق المبدع لأصالته الخاصّة، عن طريق معرفة أسرار اللغة من ناحية، وتطويعها لمنحنيات الإبداع، حتّى لو اضطرّ إلى كسر رقبتها –كما يقال- من ناحية أخرى، أي أنّ الأمرَ تبريرُ العمق الذي يتميّز به كبار المبدعين، والذي يواكب -عندهم- الخروج على اللغة لا لمجرّد الضرورة، وإنّما لصياغة إدراكٍ متميّزٍ، كما نجد عند المتنبّي مثلاً[6]»، وأقرانه من الشعراء المبدعين عبر مساحات الزمان والمكان، ومسافات التاريخ والجغرافيا؛ تاريخ الشعر العربيّ الممتدّ، وجغرافيّته المترامية، كابن الخطيب وغيره.
إنّها لغة الشعر القلِقة، والغامضة دوماً دون أن تُفقد الخطاب سمته التواصليّة – الإفهاميّة.
ومن بين تجلّيات هذا (النحو المشعرن) وتمظهراته الأسلوبيّة، أو هذه الضرورات الشعريّة: التقديم والتأخير، والحذف، والاعتراض التي سنتناولها في هذه المقالة بالدراسة والتحليل لتبيان خصائص التراكيب الخطيبيّة من خلال تمثيل جزئيّ لها يجري في نماذج وعيّنات من شعره ويؤشّر على انتظام كلّيّ في مساحات نصوصه الشعريّة.
*بنية التقـــــــــــــــــــــــديم والتأخير.
يعدّ التقديم والتأخير من الآليات الإجرائيّة الأسلوبيّة، والمسالك اللغويّة التي تدلّ على مهارة المبدع، وقدرته على التفنّن في استخدام المفردات والتراكيب، لأنّ فيه انزياحٌ عن المألوف، وخرق للمعتاد، وفيه تنشيط لذهن المتلقّي، وتحفيز لحواسه للبحث عن الحركات اللغويةّ الطارئة، والمخالِفة للسياق العامّ.
وكلّما أحدثت هذه البنية الأسلوبيّة خلخلة في التركيب اللغويّ المألوف لنصّ من النصوص، كان ذلك أدعى للنجاح في الوصول بالمتلقّي إلى محيط دائرة التأثير المقصودة، ودفعه للإمساك بجماليّة فنّ اللغة، والإحساس بالمتعة الجماليّة التي يقدّمها الخطاب الشعريّ.
فمن الواضح أنّ الجملة العربيّة تلتزم بنظام تنسيق معيّن، وتخضع لنسق ترتيبّي محدّد، ففي الاسميّة يتقدم المبتدأ، وفي الجملة الفعليّة يأتي الفعل ثمّ الفاعل وهكذا، لكن ذلك لا يعني الجمود في آلية التعامل مع ألفاظ وعبارات اللغة، بحيث لا يمكن تجاوز ترتيبها وتنسيقها، لأنّ هذه الأنظمة والأنساق ليست حتميّة التقديس لا يجوز المساس بها، ففي أحايين كثيرة يختلّ هذا الترتيب النمطيّ والنسقيّ للجملة العربيّة، وتطرأ عليه تغييرات بحيث يقدّم عنصر أو يؤخّر آخر، ويكون هذا لأهدافٍ فنّيّةٍ ودوافعَ بلاغيّةٍ، يقول (عبد القاهر الجرجانيّ) عن التقديم: «هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية، لا يزال يَفْتَرُّ لك عن بديعة، ويُفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمَعُهُ، ويلطُف لديك موقعُهُ، ثمّ تنظر فتجد سببَ أنْ راقَك ولطُف عندك، أن قُدِّم فيه شيء، وحُوّل اللفظ عن مكان إلى مكان»[7].
ويقول (الزركشيّ): «هو أحد أسباب البلاغة، فإنّهم أَتوْا به دلالة على تمكّنهم في الفصاحة، وملَكتهم في الكلام وانقياده لهم، وله في القلوب أحسنُ موقع، وأعذب مذاق[8]».
وقسّم (عبد القاهر الجرجانيّ) التقديم إلى قسمين:
1- تقديم يقال إنّه على نيّة التأخير، ويعني به كلّ ما يتقدّم على حكمه الذي عليه، كما في الخبر إذا قدّم على المبتدأ، والمفعول عندما يتقدّم على الفاعل.
2- تقديم يراد به نقْل الشيء عن حكم إلى حكم وجعْله في باب غير بابه، فإذا قلب التركيب (ضربتَ زيدا) إلى (زيدٌ ضربتَه) صار (زيد) مرفوعا بالابتداء بعد أن كان مفعولا به[9].
وهكذا نستنتج أنّ التقديم والتأخير في الجملة العربيّة من المباحث المهمّة التي حظيت بعناية كبيرة من قبل النحاة والبلاغييّن، وإن غلب الذوق الجماليّ القائم على التحليل اللغويّ وعلى التحليل البلاغيّ لها.
وبالعودة إلى ديوان ابن الخطيب، يبدو لنا أنّ التقديم والتأخير من الظواهر الأسلوبيّة الواضحة البارزة عند شاعرنا، فهو استخدم هذه الآلية الأسلوبيّة بوفرة مستغلاًّ ما تتيحه اللغة من إمكانات فنّيّة وبلاغيّة ودلاليّة.
ومن أشكاله وصوره التي يتمّ التطرّق إليها في هذه المقالة: -التقديم والتأخير في عناصر الجملة الشرطيّة، وتقديم الخبر، وتقديم المفعول به، وتقديم الجارّ والمجرور.
1)- التقديم والتأخير في أسلوب الشرط:
فإذا كان ترتيب التركيب الشرطيّ في اللغة العربيّة يبدأ بأداة الشرط ففعل الشرط فجوابه، فإنّ الشاعر خالف هذا النظام الترتيبيّ المعهود، والنسَق النمطيّ المألوف في مواضعَ كثيرةٍ، مقدّما جوابَ الشرط على أداته وفعله. كقوله[10]:
حَيَاتُكَ للْإسْلاَمِ شَرْطُ حَيَاتِهِ | وَلا َيُوجَدُ الـمشْرُوطُ إِنْ عُدِمَ الشَّرْطُ[11] |
ففي البيت خرقٌ لرتبة الجملة الشرطيّة، التي هي في الأصل: (أداة الشرط + فعل الشرط + جوابه)، لتغدوَ الصورة المتّبعة في النصّ: (جواب الشرط + أداة الشرط + فعله).
وقــولــه[12]:
وَلَكَ الْوَقَارُ إِذَا تَزَلْزَلَتِ الرُّبَا | وَهَفَتْ مِنَ الرَّوْعِ الْهِضَابُ الْمُثَّلُ |
فالشاعر قام بخلخلة تركيبيّة في هذه البنية الشرطيّة بهدف التخصيص والقصر، بحيث قصَر الوقار والهيبة ورباطة الجأش عند اشتداد الأهوال وتأزّم الأحوال على الممدوح.
وقــولــه[13]:
لاَ جَادَكَ الْغَيْثُ إِذَا مَا سَقَى | غَيْثُ بِلاَدَ اللهِ يَا (بُلُذُّوذْ)[14] |
فابن الخطيب مزج بين أسلوبَي النفي والشرط مزجا رائعا أثار انتباه المتلقّي، وقام بخلخلة تركيبيّة طالت كلّ مفاصلِ البيت صدرا وعجُزا، وعاث فسادا في لغة الخطاب العادي تقديما وتأخيرا، ومزّق الترتيب الكَلِميّ تمزيقا، وهو في الأصل: (إذا ما سقى غيثٌ بلادَ اللهِ لا جادَك الغيثُ يا بلذوذ).
وهذه الخلخلة التركيبيّة في البيت قد خرقت نمطيّة الاقتران بين التراكيب، وكسّرت معياريّة اللغة وأعراف الاستخدام وقواعد التأليف، بما يؤدّي إلى تعاُلق دلاليّ في المستوى التركيبيّ، وجماليّة فنّيّة تزيد البيت بهاءً وثراءً.
ومثله قوله[15]:
وَرَكِبْتَ فِيهَا كُلَّ صَعْبٍ لَمْ يَكُنْ | لَوْلاَ الْإِلَاهُ وَعِزُّ نَصْرِكَ يَسْهُلُ |
ففي هذا البيت امتدّت الخلخلة التركيبيّة إلى كلّ أجزائه ومفاصله، بحيث نجد أنّ الشاعر قد مزّق ترتيب وحداته تمزيقا، وانتهك معياره النسقيّ انتهاكا. وشوّش على نمَطيّة تأليف تراكيبه اللغويّة تشويشا من خلال خرق القاعدة المعياريّة التي هي في الأصل: (لَوْلاَ الْإِلاَهُ وَعِزُّ نَصْرِكَ لم يكن كلّ صعبٍ ركبتَ فيها يسهل). إذ عمد الشاعر إلى إحداث خرْق في النظام القاعديّ عبر تحريك التركيب النحويّ وخلخلة رواكده من خلال جملة من التحوّلات، كتقديم جواب الشرط على أداة الشرط وفعله، وتقديم اسم الناسخ الفعليّ (كان) المنفيّ ب (لم) على الناسخ، والفصل بين مكوّنات الجملة الاسمّية المنسوخة المكوِّنة لجواب الشرط… وهذه الخلخلة التركيبيّة اقتضتها مقتضيات دلاليّة وإيقاعيّة.
ويقول أيضا[16]:
وَأَيُّ فُؤَادٍ مِنْهُمُ غَيْرُ خَافِقٍ | إِذَا خَفَقَتْ في الْحَرْبِ أَعْلاَمُكَ الْحُمْرُ |
وقـولـه[17]:
لَكَ اللهُ مَا أَمْضَى سُيُوفَكَ في الْعِدَى | إِذَا ما أُسُودُ الْحَرْبِ خَامَرَهَا الذُّعْرُ |
والنماذج كثيرة في الديوان، ومن خلال المتابعة التحليليّة لما سبق نستنتج أهمّية هذه التراكيب المنزاحة في تشكيل الناتج الدلاليّ، والإثراء الإيقاعيّ. وهذا يؤكّد -ما قلناه سابقا- أنّ هذه الآلية الأسلوبيّة والتقنية اللغويّة لا تأتي في متن الكلام عبثا، بل لأهداف ودوافع فنّيّة وبلاغيّة.
2)- تقديم الخبر على المبتدأ:
يمكن تقديم الخبر على المبتدأ نحويّا وجوبا وجوازا بشروط خاصّة[18]، لكن الأسلوبيّة الحديثة تنظر إلى هذه الآلية اللغويّة والتقنية الأسلوبيّة من ناحية الأهداف الدلاليّة التي يتوخّاها الشاعر لمواضع التقديم المختلفة.
وعند إجراء مسحٍ شموليٍّ لتقديم الخبر على المبتدأ في الشعر الخطيبيّ نلحظ شيوع وروده بصورة بارزة وواضحة في الجملة الاسميّة التي خبرها شبه جملة (جارّ ومجرور). كما في قوله في إحدى مدائحه للوزير (أبي بكر بن الحكيم):[19]
فيِ سَبِيلِ الْإِلاَهِ مَجْدٌ تَوَارَثْ فيِ سَبِيلِ الْإِلاَهِ أَخْلاَقُكَ اللاَّ فيِ سَبِيلِ الْإِلاَهِ عِلْمٌ تُرَوِّي فيِ سَبِيلِ الْإِلاَهِ مِنْكَ خِلاَلٌ لِي ثَنَاءٌ كَمَا عَلِمْتَ هُو َ الْوَشْ |
ت َ كريمَ الإصْدار والإيرادِ تِي هِيَ العَذْبُ في احْتِدَامِ الْجُوادِ[20] ــــــــــــــــــــــهِ وَنَقْلٌ مُصَحَّحُ الْإِسْنَادِ تَذَرُ الشَّهْبَ في حَضِيضِ الْوِهَادِ ـــــــيُ وَ(صَنْعَاءُ)[21] في فَمِي وَفُؤَادِي |
فابن الخطيب في هذه المتوالية التَّكراريّة لجأ إلى تقديم الخبر، وهو شبه جملة على المبتدأ، وهذا التقديم جاء ليرفع من شأن الممدوح الذي وهب حياته كلّها في سبيل الله، وهذا ما يؤكّده تقديم قوله: (في سبيل الإلاه). وهو بهذا قد قصَر الصفة على الموصوف، فالمجد والأخلاق والعلم، كلّها مناقب وفضائل تعلّقت بشخصيّة الممدوح وتآلفت معها وفيما بينها لتصل إلى تحقيق هذا الهدف.
وفي نهاية الكلام يعود الشاعر للتأكيد على ثنائه على الممدوح وخصاله المدحيّة متّبعا النهج الأسلوبيّ نفسه (تقديم الخبر-ش.ج – على المبتدأ).
ويقول في إحدى مدائحه السلطانيّة:[22]
وَلَكَ الْكَتَائِبُ كَالْخَمَائِلِ أَطْلَعَتْ | زَهْرَ الْأَسِنَّةِ فَوْقَ كُلِّ قَضِيبِ |
فالشاعر قدّم الخبر على المبتدأ من أجل تخصيص المسند بالمسند إليه. فالكتائب الحربيّة والجيوش العسكريّة الجرّارة التي لا تلين لها قناة، وتتدفّق كالسيول الجارفة، وتتمايل مزهوّة بسيوفها الحادّة القاطعة، ومتبخترة برماحها الماضية اللامعة في نظام وانتظام، تمايُلَ الأغصان المزهوّة بأزهارها وورودها الفوّاحة مع النسيم العليل. وهي صورة تشبيهيّة فنّيّة جميلة لا تخلو من إبداع وطرافة. وهذه الكتائب الجرّارة التي تهتزّ لها القلوب رعبا ورهبا لا يمكن أن تكون إلاّ من كتائب السلطان النصريّ الممدوح.
ويقول في خاتمة إحدى مراثيه للحاجب المرينيّ (ابن أبي عمرو):[23]
عَلَيْكَ سَلاَم ُ الله مَا لاَحَ بَارِقٌ | وَمَا سَجَعَتْ وُرْقُ[24] الْحَمَامِ النَّوَادِبِ |
وتقديم الخبر على المبتدأ هنا أفاد التخصيص؛ بحيث خصّ المرثيّ وحده بسلام الله الدائم المستمرّ دون انقطاع.
ولا يقتصر تقديم الخبر على المبتدأ في تقديم الجارّ والمجرور فقط، بل يتقدّم الظرف أيضا ولكن بصورة أقلّ من الجارّ والمجرور. كقوله:[25]
وَعِنْدَهُ مَالٌ وَمِنْ خَلْفِهِ | أَيْدٍ تَعَلَّقْنَ بِأَهْدَابِهِ |
حيث قدّم هنا الظرف (عنده) على المبتدأ المفرد (مال)، للدّلالة على ثراء الممدوح وكرمه وجوده.
3)- تقديم المفــــــــــــــــــــــــــــــعول به:
جاء تقديم المفعول به في أسلوب ابن الخطيب على نمطين:
*أ): تقديم المفعول به على الفاعل:
حيث يأتي المفعول به مقدّما على الفاعل، كما في قوله[26]:
تَأْتِي عَلَى قَدَرٍ فَيَخْلُفُ بَعْضُهَا | بَعْضًا كَمَا خَلَفَ السَّحَابَ سَحَابُ |
فالمفعول به في هذا المركّب الفعليّ قدّم على الفاعل، لأنّه أشمل وأعمّ من الفاعل، فالفاعل (سحاب) جزء من المفعول (السحاب)، أي أنّ المفعول (كلّ) والفاعل (جزء).
وقوله[27]:
تَبْكِي عَلَيْكَ مَصَانِعٌ شَيَّدْتَهَا | بِيضٌ كَمَا تَبْكِي الْهَدِيلَ حَمَامُ |
فالمفعول به (الهديل) قدّم على الفاعل (حمام) للتخصيص، و«هو لازم للتقديم غالبا بشهادة الاستقراء وحكم الذوق»[28].
وقوله[29]:
وَهَذَا سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ ابْتَزَّهُ[30] | الْكُرْسِيَّ بَعْضُ الْجِنِّ فيما يُنْقَلُ |
فالمفعول به (الكرسيّ) تقدّم على الفاعل (بعض الجنّ)، لأنّه أعظم شأنا من الفاعل، فأهمّية أمر أو شخوص أو شعور انفعاليّ تلعب الدور الرئيس في التقديم. وهذه الأهمّية مرتبطة بالسياق الدلاليّ العامّ. وإنّ تقدّم المفعول به هنا يحدّد نقطة الاهتمام التي سوف يتمّ التركيز وتسليط الأضواء الكاشفة عليها.
*ب): تقديم المفعول به على الفعل والفاعل:
كما في قوله:[31]
الْغَمَامُ الْأَرْضَ يَسْقِي | وَأَنَا أَسْقِي الْغَمَامَا |
ففي صدر البيت خلخلة تركيبيّة وانزياح عن الترتيب النمطيّ المعياريّ لرتبة الجملة الفعليّة. عبر تقديم المفعول به (الأرض) على الفعل المضارع وفاعله، والجملة الفعليّة في محلّ رفع خبر المبتدأ (الغمام) بُغية إبراز دلالة الكرم والعطاء للممدوح، بوصفها الغاية التي يسعى الشاعر بلوغها.
ومثله قوله في موعظة:[32]
وَعاَقِبَةَ الْفَانِي اشْرَحُوا، وَتَلَطَّفُوا | بِأَخْلاَقِهَا الـمَرْضَى تَلَطُّفَ إِشْفَاقِ |
ففي صدر البيت انزياحٌ عن الترتيب المعياريّ المعهود في الجملة العربيّة التي تبتدئ حسب النحاة بالفعل يليه الفاعل ثمّ المفعول به، وتشويشٌ على نسَقها الموقعيّ، بحيث قدّم الشاعر هنا المفعول به على الفعل والفاعل لإبراز أهمّية (الوعظ والإرشاد)، بشرح مآلات الخلق المتّصفين بأخصّ الصفات الجوهريّة للحوادث؛ وهي الفناء، وتبيان مصائرهم الحتميّة، وبأنّهم مجرّد عابري سبيلٍ في هذ الدنيا الفانية، وتذكيرهم بالحياة الأخرويّة الباقية.
إنّ هذا التقديم والتأخير في رتبة الجملة قد أضفى جماليّة خاصّة على التركيب أو النظم بمفهوم (صاحب دلائل الإعجاز). فالتقديم والتأخير وتغيير المواقع والرتب من صميم شعريّة ابن الخطيب، بل من صميم الشعريّة العربيّة، حيث يقع التركيز على عناصرَ دون أخرى من الجملة، وحيث يتغيّر التبئير[33] تبعا لذلك، وتبعا كذلك للدافع النفسيّ والتجربة.
ويقول ابن الخطيب أيضا:[34]
أَيَّ عَيْشٍ فيه قَطَعْنَا، وَأُنْسٍ | سَاقَ شَمْلَ السُّرُورِ أَيَّ مَسَاقِ |
وتقديم المفعول به (أيّ) وهو اسم موصول جاء على هيئة استفهام توبيخيّ، يأتي بهدف المبالغة في وصف العيش.
4)- تقديم الجارّ والمجـــــــــــــــــــــــــــــــرور:
أتاح ابن الخطيب لنفسه مساحة واسعة في بناء تراكيبه اللغويّة المختلفة من خلال تقديم الجارّ والمجرور على عناصر الجملة اللغويّة الأخرى، كما يتّضح فيما يلي:
*أ): تقديم الجارّ والمجرور على الفاعل:
كما في قوله[35]:
فَاهْتَزّ لِلْحَرْبِ الْكَمِيُّ بَسَالَةً | واهْتَزَّ في مِحْرَابِهِ الْمُتَبَتِّلُ |
الجارّ والمجرور في صدر البيت وعجزه تقدَّم على الفاعل، وخلق تشويشا على ترتيب الجملة فيها.
وقوله في وصف (مِكْناسة)[36]:
سَحَّتْ عَلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ | لِلْمُزْنِ هَامِيَةِ الْغَمَامِ هَتُونِ |
تقدّم الجارّ والمجرور في صدر البيت على الفاعل، وفَصَلَ بين الفعل وفاعله، وأثار ذلك خلخلة تركيبيّة أفادت التركيز والاهتمام وإظهار البعد المكانيّ للحدث، فالعيون الثرّة سحّت على مكناسة ذاتها وليست على غيرها من المواضع.
*ب): تقديم الجارّ والمجرور على المفعول به:
كما في قوله راثياً زوجه في لاميّة صادقة مؤثّرة:[37]
حَفَرْتُ في دَارِيَ الضَّرِيحَ لَهَا | تَعَلُّلاً بِالْمُحَالِ في الْحَالِ |
احتضن صدر البيت خرقا لرتبة الجملة تمثّل في عمليّة تقديم الجارّ والمجرور (في داري) على المفعول به (الضريح)، وثمّة مقتضى دلاليّ استدعى هذا الإجرائيّ التركيبيّ المتمثّل في تقديم (في داري) والذي أفاد خصيصة أسلوبيّة؛ وهي سطوة الألم والحزن على حسّ الشاعر، بفقدانه لزوجه وأمّ عياله في بلد الغربة وفي أجواء النكبة، ممّا هزّ كيانه، وهيّج مشاعره، وأفقده اتّزانه النفسيّ. وكما تدلّ هذه الخصيصة الأسلوبيّة على شدّة تعلُّق الشاعر بمحبوبه وقرّة عينه إلى درجة مُواراته لجثمانها في ثرى داره لتؤنس -في غيابها الجسديّ- وحدته، وتبدّد وحشته، وممّا يؤكّد هذا التعلّق الوجدانيّ بفقيدته قوله في نفس القصيدة[38]:
فانتظِريني، فالشوْقُ يُقْلِقُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني ويقْضي سرعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتي وإعْـــــــــــــــــــــــــــــــــــجالِي
وَمَهِّدي لِي لَدَيْكِ مُضْطَجَعاً | فَعَنْ قَرِيبٍ يَكونُ تَرْحَالِي |
والشاعر هنا –البيت الثاني- وظّف نفس الإجراء التركيبيّ المتمثّل في تقديم الجارّ والمجرور (لي) والظرف (لدى) على المفعول به، لتسليط الضوء على شدّة حزنه، وعِظَم تعلّقه بفقيدته، حتّى تمّنى في قرارة نفسه الالتحاق السريع بها، فلا حياة تصفو له، ولا عيش يحلو له بعد الغياب الجسديّ الأبديّ لأمّ عياله وقرّة عينه.
*ج): تقديم الجارّ والمجرور على الخبر:
كما في قوله[39]:
فَالصَّرْحُ مِنْهُ مُمَرَّدٌ، والصَّفْــــــــــــــــــــحُ مِنْـ ـــهُ مُوَرَّدٌ، والشَّطُ مِنْهُ مُهَــــــــــــــــــــــــدَّلُ
فالشاعر هنا قدّم الجارّ والمجرور على الخبر، وفصَل به بين المبتدأ والخبر في ثلاثة مواضع للتأكيد والتحديد.
ومما سبق نجد أنّ اهتمام ابن الخطيب بهذه الآلية التركيبيّة الأسلوبيّة في شعره نابعٌ من أهمّية المادّة المراد إبرازها للمخاطَب من جهة، وسرعة إيصال المقصود به من جهة أخرى، فكان يقدّم فكرته المقصودة إلى المخاطَب بسرعة، ثمّ يترك المجال بحرّية أوسع لباقي الكلام الذي يأتي في مرتبة تالية من حيث الأهميةُ. وهذا علاوة على الأثر الجماليّ الناجم عن انزياح الجملة عن نسقها المعياريّ النحويّ الذي يخلق بؤرة التوتّر الشعريّ من خلال بنية التقديم والتأخير.
وهذا كلّه ينمّ عن مهارة ابن الخطيب الإبداعيّة، وتفنّنه في استخدام الآليات التركيبيّة- البلاغيّة، وامتلاكه للناصية اللغويّة.
الهوامش:
[1] – بنية اللغة الشعريّة، جان كوهن، ترجمة: محمّد الولي ومحمّد العُمَري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط.2، 2015، ص: 176.
[2] – نفسه، ص: 175. وقد خصّص (رومان ياكبسون) فصلين كاملين من كتابه: (قضايا الشعريّة)؛ وهما الثالث والرابع، للحديث عن هذه القواعد النحويّة الخاصّة بالشعر، أو ما يسمّى ب(النحو المشعرن)، ووَسَمَهما بعنوان: -شعر النّحو ونحو الشّعر. انظر: -قضايا الشعريّة، ص:63-75، 77-101.
[3] – منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجنيّ، تقديم وتحقيق: د/محمّد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، ط.4، 2007، ص: 143.
[4] – الكتاب، (كتاب سيبَوَيْه)، أبو بِشْر عمرو بن عثمان بن قَنبر (سيبَوَيْه)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط.3، 1988، 1/26 وما بعدها.
[5] – منهاج البلغاء، ص: 143-144.
[6] – مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقديّ، د/ جابر عصفور، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، ط.5، 1995، ص: 358.
[7] – دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجانيّ، قرأه وعلّق عليه: محمود محمّد شاكر، مطبعة المدني، المؤسّسة السعوديّة بمصر، القاهرة، ودار المدني، جدّة، المملكة العربيّة السعوديّة، 1992، ط.3، 1992، ص: 106.
[8] – البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين الزركشيّ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصريّة، صيدا، بيروت، (د.ط)،2012، 3/149.
[9] – دلائل الإعجاز، ص: 106-107.
[10] – ديوان لسان الدين ابن الخطيب السلمانيّ، صنعه وحقّقه وقدّم له: د/محمّد مفتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط.2، 2007، 2/462.
[11] – أصله من قول الأصوليّين: (إنْ عُدِمَ الشرط عدم المشروط).
[12] – الديوان، 2/496.
[13] – نفسه، 1/365.
[14] – بلذوذ: من أعمال غرناطة.
[15] – الديوان، 2/499.
[16] – نفسه، 1/401.
[17] – نفسه، الصفحة نفسها.
[18]– انظر-على سبيل المثال لا الحصر-: -شرح ابن عَقيل على ألفيّة ابن مالك، ومعه كتاب: منحة الجليل، بتحقيق شرح ابن عقيل، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار التراث، مصر، ط. 20، 1980، 1/227-243، -وشرح المفصَّل للزمخشريّ، تأليف: موفّق الدين يعيش بن عليّ بن يعيش، قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه: د/ إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط.1، 2001، 1/234-238، -والقواعد الأساسيّة للغة العربيّة، أحمد الهاشميّ، تحقيق: د/محمّد أحمد قاسم، المكتبة العصريّة، صيدا-بيروت، لبنان، (د.ط)، 2002، ص: 129-130.
[19] – الديوان، 1/296.
[20] – الجُواد: بالضمّ، جَهد العطش. انظر: -لسان العرب أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم (ابن منظور)، دار صادر، بيروت، ط.7(طبعة محقّقة)، 2011، مادة: جود، 3/235 وما بعدها.
[21] – صنعاء: موضع باليمن، وهي العاصمة حاليا.
[22] – الديوان، 1/132.
[23] – نفسه، 1/128.
[24] – الوُرْق: ج. وُرْقة، وهي سواد في غُبْرة، والمقصود هنا الحمامة التي لونها بين السواد والغبرة. انظر: -لسان العرب، مادة: ورق، 15/196.
[25] – الديوان، 1/134.
[26] – نفسه، 1/105.
[27] – نفسه، 2/557.
[28] – علوم البلاغة، أجمد مصطفى المراغي، دار القلم، بيروت، ط.1، 1980، ص: 99.
[29] – الديوان، 2/503.
[30] – بزّ وابتزّ: غلبه وسلبه وانتزعه، وفي الـمَثَل: (من عزّ بزّ)؛ أي من غَلَبَ سَلَبَ. انظر: -لسان العرب، مادة: بزز، 2/79.
[31] – الديوان، 2/563.
[32] – نفسه، 2/704.
[33] – هناك فرق بين «البؤرة النحويّة والبؤرة الخطابيّة، فإذا كانت البؤرة النحويّة تتحدّد بموقعها، فالبؤرة الخطابيّة ليست كذلك. فالمتكلّمون والكتّاب هم الذين يمتلكون البؤرة وليست النصوص». انظر: -تحليل الخطاب الشعريّ: استراتيجيّة التناصّ، د/ محمّد مفتاح، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء-بيروت، ط.4، 2005، ص: 70.
[34] – الديوان، 2/714.
[35] – نفسه، 2/500.
[36] – نفسه، 2/597.
[37] – نفسه، 2/505.
[38] – نفسه، 2/506.
[39] – نفسه، 2/501.