[1]
ارتبط المغاربة بمكّة المكرمة ارتباطا وثيقا إلى حد العشق، وقديما كان الإمام الفاضل تقي الدين ابن دقيق العيد يثنى على أهل المغرب جملة، ويقول: (أنا أحب المغاربة، وأعتني بهم، وأُسميهم عُشّاق مَكّة). فمكّة هي ملتقى المسلمين طوال العصور، وكان أهل مكة يرتاحون إلى المغاربة، وكان المغاربة يلقون من أهل مكة المعاملة الحسنة خلال موسم الحج والعمرة. وفي أهل مكة نسبة معتبرة أصولهم مغربية قديمة. كما يوجد إلى اليوم نسبة من المغاربة أصولهم مكية ومدنية. أحب أن أبدأ الكلام عن آل الحريري بواقعة عائلية، فمنذ صغري اعتدت في منزلنا بطنجة على رؤية صورة مُؤَطَّرَة تحتل مكانا في حائط مجلس الدار، ولم تكن في بيتنا صورة غيرها، فكنت أظن أنها صورة لبعض أفراد العائلة إلى أن أخبرتني الوالدة أطال الله في عمرها، وقد صرتُ يافعا، أن تلك الصورة هي للمطوف مصطفى الحريري وزوجته وبنته. ثم ترادفت الأسئلة مني عليها حول ما معنى المطوف، وما طبيعة العلاقة التي كانت تجمع الوالد رحمه الله بالمطوف المذكور، فأفاضت في الشرح والتفصيل. ولمّا شاء الله لنا أن نختار حرفة التاريخ أدركت ما لعائلة آل الحريري من وثيق العلاقة بالمغاربة بصفة عامة وأهل طنجة بصفة خاصة، ووقفت في العديد من النصوص على أخبار تنطق بما كان لتلك العائلة المكية الشريفة من فضل على المغاربة وما لهم من طيب الذكر عندنا بالمغرب.
[2]
يُعد آل الحريري من أصلاء عائلات مكّة المكرمة، وكانت دارهم بها مشهورة في حارة المسفلة من الأحياء المجاورة للحرم المكي الشريف. كما كان لهم بيت آخر في حارة الفلق بالشارع الذي يفضي إلى جبل قرن، بجوار بيت المطوف محمد حسن كاظم الذي توارثه ولده وأحفاده، ويحكي أحدهم قائلا: (أتذكر أننا كنا جيران لبيت الحريري). وكانت لبعض آل الحريري أوقاف بالحرم المكي، منهم المكرم السيد عمر بن السيد عبدو الحريري المطوف، بحسب ما دُوِّنَ في صك (رقم 14 صحيفة 9) في الدفاتر السلطانية العثمانية مؤرخ بـ 21/11/1343هـ. وقد نبغ في هذه العائلة بعض الأعلام، منهم مُحَدِّث الحرمين الشريفين: الشيخ إسماعيل بن حسين بن عبد الرحيم جمال الحريري المكي. ومنهم: صالح جمال الحريري الشاعر الأديب الذي سكن مصر ردحا من الزمن. لقد توارث آل الحريري مهنة الطوافة، وأنشأوا فيما بعد بمكة المكرمة مكتب (المطوف الحريري وولده)، وهو المكتب الذى خدم حجاج الداخل الحجازي والخارج العربي والإسلامي على مدى أكثر من مائة سنة. ومن أشهر آل الحريري المطوفون: عبد القادر الحريري، وحسن الحريري، وعلي حسن الحريري، وعبد الرحمن بن محمد الحريري، ومصطفى الحريري، وغيرهم كثير. وإلى عهد قريب كان أمين المطوفين بمكة المكرمة ينتمي إلى بيت الحريري. وقد ارتبط المغاربة بآل الحريري المطوفون، إذ كانوا يعتمدونهم في تطويف الحجاج وفي غير ذلك من أمور مناسك الحج، وسأعرض بعض النصوص الشاهدة على متانة العلاقة التي جمعت بين المغاربة وآل الحريري المطوفون.
[3]
أبو العلاء إدريس بن عبد الهادي العلوي الشاكري المتوفى بالمدينة المنورة سنة 1331هـ/1913م، كتب في رحلته إلى بيت الله الحرام، عام 1288هـ/1871م، ما نصه: (ثم تبركنا بمسجد الخيف، ثم بالمحل الذي نزلت فيه (المرسلات)، وبعض ذلك بحضور الأجلّ السيد الحيي الفقيه النزيه سيدي عبد الرحمان الحريري تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته. ثم تبركنا بمقام الخليل وطفنا طواف الوداع وصلينا وسافرنا ليلة الأحد السادس عشر من حجة الحرام سالمين غانمين فائزين ولله الحمد).
[4]
محمد بن عبد الحق المريني، الذي حجّ عام 1368هـ/1947م، كتب في رحلته: (ومازلنا نسير حتى أشرفنا على حدود مكة حيث يوجد بئر طوى الذي يستحب للحاج السالك أن يقف به ويغتسل بمائه قبل دخوله مكة. وقد نزلنا بالقرب منه وجعلنا هذا المندوب وكم كنا في حاجة إلى هذا الاستحمام الذي يستحليه الإنسان وينعش أعضاءه. وبعد العشاء دخلنا إلى مكة فوجدنا ببابها مندوب مطوفنا الشيخ أحمد جمال الحريري فصحبنا إلى الحي الذي يسكنه المطوف وعند نزولنا قابلنا هذا الأخير ببشر ومجاملة وهنّأنا بسلامة القدوم ورافقنا إلى المسجد الحرام فدخلنا إليه من باب السلام). ونقرأ في موضع آخر من هذه الرحلة: (وقد جعلت الحكومة الحاج حرا يختار من يشاء من المطوفين الذين يستقبلونه عند وصوله إلى مكة ببشر وإيناس، لاسيما إذا كانوا من آل الحريري المشهورين بدماثة الأخلاق وعلو الهمة والتنازل إلى أقصى حد لخدمة الحاج المغربي. وقد وجدنا هذه الأوصاف متوفرة في مطوفنا الشيخ أحمد جمال الحريري وإخوانه). ثم ختم المريني بهذه الشهادة في حق آل الحريري، فقال: (ولقد كان الحريريون في طليعة المطوفين الذين يترددون على المغرب، بين الفينة والفينة وقبل الحرب الأخيرة، فينزلون عند أحبابهم على الرحب والسعة ويلقون ضيافة وتكريما من لدن كل من اتصل بهم. وإنهم لينتظرون بفارغ الصبر عودة المواصلات إلى نصابها لاستئناف رحلاتهم إلى المغرب فهم دعاة هدي وفلاح ورسل مصدقون فيما ينشرونه ويذيعونه عن رقي البلدان وحضارتها وعمرانها وازدهارها وحركة العلم والإصلاح بربوعها في هذا العهد المحمدي الزاهر الذي يسير فيه المغرب مسرعا إلى العلى ويشق طريقه نحو حياة ديمقراطية قارة قد أخذت تبدو بوادرها الناجحة بفضل السياسة التي تسلكها حكومة الحماية بكامل الاتفاق مع صاحب الجلالة والمهابة أميرنا وعاهلنا المحبوب سيدي محمد نصره الله).
[5]
شيخ علماء شفشاون المرحوم الفقيه العلامة الشيخ محمد أصبان الحسني كانت له علاقات وطيدة وصداقة حميمة مع بعض علماء المشرق وشيوخه الأجلة، يجتمع بهم ويجالسهم في منزل آل الحريري كلما حل في رحاب مكة لأداء مناسك الحج، يحكي ولده في سيرته: (أما الشخصيات العلمية التي اتصل بها وباتت له بها علاقة، فإنني أذكر منها الدكتور السيد أحمد حسن الباقوري، والدكتور عبد الحليم محمود، وهما من علماء الأزهر، والدكتور خير الدين الزركلي من السعودية، واتصل اتصالا وثيقا مباشرا بعلامة الهند الداعية الكبير أبو الأعلى المودودي، وخلفه العلامة أبو الحسن الندوي، كان يجتمع بهم في منزل صديقه المطوف المرحوم السيد عبد القادر الحريري بمكة المكرمة).
[6]
نشرت جريدة (الأسبوع الصحفي) في عددها الصادر بالرباط يوم 14 يناير 2014م صورة من أرشيف المؤرخ عبد الهادي التازي، تؤرخ لزيارة المطوف [عبد القادر] الحريري إلى المغرب، وفيها يظهر احتفاء عدد من الأسر الرباطية بالمطوف المذكور، وجاء في التعليق عليها النص الآتي: (صورة أخذت في بيت الحاج عبد اللطيف بن عبد السلام التازي أثناء مأدبة غذاء تكريما للمطوف المشهور الشيخ الحريري عند زيارته للمغرب أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، يظهر فيها من اليسار إلى اليمين: العلامة المحدث المدني بن الحسني، يليه الشاعر الكبير محمد اليمني الناصري، يليه الشيخ بوبكر بناني يليه الحاد عبد اللطيف التازي ثم الفقيه عبد الحفيظ ملين، وخلفه رفاق المطوف الحريري يتوسطهم الأستاذ المؤرخ عبد الكريم بن الشيخ المدني الحسني، ثم الحاج الطاهر سليطن).
[7]
أحمد بن محمد الصبيحي السلاوي يذكر في (الرحلة المغربية المكية) أنه لما وصل ركب الحاج المغربي إلى جدة عام 1335هـ/1916م: (ألفينا بالمرسى وكلاء المطوفين على العادة في انتظار الحجاج، ورئيسهم ينادي على الحجاج قائلا لكل واحد: (من مطوفك؟) فيقول: (فلان ..) فيلاقيه به. وبعد جمع كل وكيل إلى نظر من وكّله، يأخذ بيدهم في التأشير على أوراق الجوازات. ثم يذهب بهم، أو يُرسل معهم من يصحبهم إلى المحل الذي هيأه لهم. وقد وجدنا – نحن معشر السلاويين- وكذا غيرنا، ناس المغاربة، السيد حُسين بن عبد الله الطرابلسي وكيل السادة الحريريين مطوفي المغاربة في انتظارنا. فأخذ بيدنا في جميع ما أشرنا إليه سابقا، وبرّ جزاه الله خيرا).
وفي موضع آخر من مدونة رحلته، يقول: (ثم حيث كان الوقت وقت الغروب، فقد قصدنا إذ ذاك دار مطوفنا الفاضل المحترم، السيد محمد السعيد بن عبد المعطي الحريري، وتعشينا عنده. ثم قصدنا بيت الله الحرام، ودخلنا من باب السلام، وطفنا طواف القدوم).
وفي موضع آخر من الرحلة، بعد أن سرد جملة من الأماكن التي تمت زيارتها من قبل الوفد المغربي، قال: (وكل زياراتنا المذكورة وغيرها كانت بإرشاد ابن أخ مطوفنا السابق الذكر، الفاضل اللبيب السيد حسين بن عبد الرحيم الحريري).
د. رشيد العفاقي