1.حديثنا عن القاضي عياض في هذه الحلقة سننطلق فيه من مدينة سبتة، المدينة المغربية السليبة، ودار العلم التي نشأ بها إمامنا القاضي، وهي المدينة التي ظلّت كما يقول المرحوم الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله “منذ عهد الأدارسة إلى بني مرّين همزة وصل، وبوتقة الانصهار، ومجمع التيّارات الفكرية بين الشرق العربي وإفريقيا والأندلس، وقد كان لرجالاتها في العصور دورٌ قياديٌّ في بلورة الفكـــــــــر المغربيّ”.
- كانت مدينة سبتة محجّ كثير من العلماء ومحطّ رحالهم، وسبيل عبور لعلماء الأندلس والمشرق، وكثير من شيوخ القاضي عياض التقى بهم وأخذ عنهم بهذه المدينة العالمة، وعلى رأسهم: الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري [ت. 543هـ]، الذي يقول عنه الضّبي في «بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس»: ” ابن العربي المعافري، الإشبيلي، القاضي، فقيهٌ، حافظٌ، عالمٌ، متفنّن، أصوليٌّ، محدّثٌ، مشهورٌ، أديبٌ، رائق الشعر، رئيس وقته”، ويقول عنه القاضي عياض في «الغنية»: “تأدّب ببلده وقرأ القراءات… ودرس الفقه والأصول عند أبي بكر الشاسي، وأبي بكر الطرطوشي، وقيّد الحديث، واتّسع في الرّواية، وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشّأن من هؤلاء وغيرهم… اجتاز ببلدنا فكتبتُ عنه فوائد من حديثه، وناولني كتاب المؤتلف والمختلف للدارقطني”.
- تحقّقَ القاضي عياض في سيرته ومسيرته، بالــمُثل العليا، والقيم الفضلى، وامتدت الخصال النبيلة في شخصيّته امتداد شهرته، فهذا ابنه القاضي محمد [ت.575هـ] يحدثنا عنه في هذا الجانب فيقول: ” نشأ على عفّة وصيانة، مرضيّ الخلال، محمود الأقوال والأفعال، حاضر الجواب، حادّ الذهن، متوقّد الذّكاء”.
- أمّا النبل الاجتماعي، والسّمو الأخلاقي، فقد بلغ فيه الذّروة، وتمثّل في ذلك بأخلاق النّبوة، ” فقد كان حسن المجلس، كثير الحكاية والخبر، مُمتع المحضر، عَذْب الكلام، مليح المنطق، نبيل النّادرة، حُلو الدّعابة، ليّن الجانب، صبوراً حليماً، مُوطّأ الأكناف، جميل العشرة، حسن الأخلاق، بسّاماً، يكره الإطراء والإفراط في التّصنع منه وله، لا يستسهل التّكليف للنّاس والتّحامل عليهم، يأخذ الأمور بالملاطفة والسّياسة ما أمكنه، ويحلُّ الأمور كذلك ما استطاع وإلا تقوّى، جواداً سمحاً، كثير الصّدقة، حمدت الناس سيرته عند توليته للقضاء”.
- الحديثُ عن القاضي عياض عالماً هو حديثٌ عن بحر لا تكدّره الدّلاء، وحديثنا عنه في هذا الجانب لا يعدو أن يكون غَرفة من بحر، أو رَشفة من قطر، فقد نشأ -برّد الله مضجعه- مهتبلاً بالعلم، معتنياً بتحصيله، “حريصاً عليه، مجتهداً فيه، مُعَظَّماً عند الأشياخ من أهلم العلم، كثير المجالسة لهم، والاختلاف إلى مجالسهم، إلى أن برع في زمانه، وساد جمله أقرانه”. ” كما كان كثير التحرير للنقول، كثير الاعتناء بالتّقييد والتّحصيل”.
- عن مكانته العلمية يقول ابن الأبار في «المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدّفي»: ” كان لا يُدرك شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث وتقييد الآثار، وخدمة العلم، مع حُسن التّفنّن فيه، والتّصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالآداب، وتحّققه بالنظم والنثر، ومهارته في الفقه، ومشاركته في اللغة العربية”.
- لفت ابنه القاضي محمد النظر في حديثه عن أبيه أنه كان مُعَظّماً عند الأشياخ، وبالغوص في شخصية القاضي عياض سنلمس مبرر هذا التعظيم والإكبار من لدن أهل العلم والسياسة في وقته، ومن هذا التعظيم ما نقرأه في قصّته مع شيخه الإمام القاضي الشّهير الشّهيد أبي علي الصّدفي المعروف بابن سُكّرة [ت.514هـ] والذي رحل إليه القاضي عياض إلى مرسية سنة:( 508هـ) للأخذ عنه فوجده مُتخفيّاً.
8.يقول المقرّي في «أزهار الرياض في أخبار عياض» عن سبب اختفائه: ” ولما قُلّد الشيّخ أبو عليّ قضاء مرسية، وعُزم عليه في توليّه، ولم يُوسعهُ عُذراً في استعفائه مُقدّماً لذلك وموليّه، خرج منها فارّاً إلى المريّة، فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسائة، وفي سنة ستّ قبل قضاءها على كُره، إلى أن استخفى سنة سبع”. وعنه يقول القاضي عياض: ” رحلتُ إليه غرّة سنة ثمان، فوجدته في اختفائه، ثمّ خرج فسمعتُ عليه خبراً كثيراً “.
- ولــمّا خرج من اختفائه شافهه شيخه كما يقول ابن الآبار: ” بما معناه: أن لو طال تغيّبه لأشعره بالتّرحل إلى موضع لا يُؤبه لكونه به، ممّا يقع الاختيارُ عليه ليأخذ في وصوله بأصوله إليه فيجد ما يرغب في سماعه، ويحرص على تحصيله حتّى يبلغ غرضه، لِما كان في نفسه من إخفاق رغبته، وتعطيل رحلته، فشكره على ذلك”.
10.مظاهر الإكبار والإجلال للقاضي عياض لم تكن مقتصرة على مشايخه فحسب، بل حتى العلماء الذين اختلفوا معه في مسائل من العلم، كانوا يُمهدون لردودهم بعبارات التبجيل والتقدير لشخصه، فهذا الفقيه العلاّمة أبو الخير محمّد بن محمد بن خَيْضَر الزّبيدي تلميذ الحافظ ابن حجر، [ت. 894هـ] في كتابه: «زهر الرّياض في ردّ ما شنّعه القاضي عياض، على من أوجب الصّلاة على البشير النّذير في التّشهد الأخير».
11.يقول في مقدمته: ” اعلم أيّها الناظر في هذا الكتاب-أرشدك الله إلى الصواب- قبل الخوض في غمرة ذلك، وتجشّم التّوصل إلى هذا المسالك، أنّي لم أقصد بهذا التّصنيف، ولم أُرد من هذا التّأليف، الغضّ من جانب القاضي عياض، ولا التنقيص من مقدار فضله المستفاض، معاذ الله، ثمّ معاذ الله، بل-وحقّ الله- إنّي لأعرفُ منزلته في تحقيق العلوم، وإتقانه منها للمنطوق والمفهوم، وكيف لا يكون بهذه المثابة وهو طراز هذه العصابة، وتصانيفه قد انتفع بها أهل المشارق والمغارب، لما اشتملت عليه من تحرير المقاصد، وتحقيق المطالب” .
12.وأيضاً؛ كان مشايخ السياسة في الدولة المرابطية والتي عاش القاضي عياض في كنفها يُقدّرونه ويُجلّونه غاية، والرّسالة التي بعث بها الوزير أبو القاسم بن الجدّ باسم أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين إلى قاضي قرطبة الفقيه محمد بن علي بن حمدين في شأن الإعتناء بأمر القاضي عياض تُنبئُ عن ذلك، يقول الفتح بن خاقان في «قلائد العقيان ومحاسن الأعيان»:
- “وكتب (الوزير) عن أمير المسلمين إلى ابن حمدين في أمر ابن عياض: وفلان أعزّه الله بتقواه، وأعانه على ما نواه، ممّن له في العلم حظٌّ وافر، ووجهٌ سافر، وعنده دواوين أغفال، لم تُفْتَح له على الشّيوخ أقفال، وقصد تلك الحضرة ليقيم أَوْدَ مُتونها، ويُعاني رَمَدَ عُيونها، وله إلينا ماتّةٌ مرعيّةٌ، أوجبت الإشادة بذكره، والإعتناء بأمره، وله عندنا مكانةٌ حفيّة تقتضي مخاطبتك بخبره، وإنهاضك إلى قَضَاء وَطَره، وأنت إن شاء الله تُسدّدُ عمله، وتُقرّبُ أمله، وتصلُ أسباب العون له”.
د. محمد شابو