1. اللّافتُ في شخصيّة الإمام أبي بكر بن العربي لمن يقرأ معالمها، ويقف متأملاً أحوالها، هو ذاك الاهتبال الشّديد بالعلم والمعرفة لديه، حيث ظهرت بوادر شغفه المعرفي في ذلكم السّن المبكّر والطفولي من حياته، وقد ظلّ هذا الشّغف مصاحباً له في جميع مراحل حياته صغيراً وكبيراً، طالباً وشيخاً، حالاً ومُرتحلاً.
2. والفضلُ في ذلك يعود لأبيه الذي سدّد هذا الشّغف وزكّاه، ونمّاه ورعاه، ووقف إلى جانبه طيلة مشواره العلميّ وبالأخصّ في رحلته المشرقية إلى أن توفي حميداً بالإسكندرية سنة: [493هـ]، ولذلك نجده ممتناً له، ذاكراً فضله عليه، فهو في الرّتبة أبوه، وفي الصّحبة أخوه، يقول في أحد رسائله: ” ولمــّا سبق خير القضاء برحلتي إلى تلك المشاهد الكريمة، وحلولي في تلك المقامات العظيمة، دخلتها والعمر في عنفوانه، والغصنُ مائلٌ بأفنانه، والكتابُ مختومٌ بعنوانه، ومعي صارمٌ لا أخاف نَبْوته، وحصانٌ لا أتوقّع كبوته، أبٌ في الرّتبة، وأخٌ في الصّحبة، يستعين ويعين، ويسقي عن النّصحية بماءٍ معين، وزوى الله بفضله عن قلبي كلّ بطالة، وكشح (أزال) عن فؤادي كلّ إهالة (الفزع).
3. ننتقلُ بعد هذا إلى مصاحبة إمامنا في رحلته مركّزين فيها على إبراز مشيخته التي لطالما افتخر بالتتلمذ عليها. كانت مدينة مالقة Malaga، أولى محطّات إمامنا بعد أن نهض من مسقط رأسه مدينة إشبيلية وخرج منها، وبتلك المدينة الأندلسية الحسناء التقى بأبي المطرّف عبد الرحمان بن قاسم الشعبي [ت. 497هـ]، الذي يقول عنه: ” فألفيتُ بها أمّة على رأسهم الشّعبي، أشهر ما عنده نسبه، وعنده روايةٌ ومسائل”. هكذا! أمّا ابن بشكوال في «الصّلة» فيقول:” كان فقيهاً، ذاكراً للمسائل، وشور ببلده في الأحكام، سمع النّاس منه، وشُهِر بالعلم والفضل”، وعنه في «البغية»: “أفتى في بلده منفرداً برئاسة الفتوى نحواً من ستّين سنة”.
4. ألمرية أو ألميريا ELMERIA، هي من المدن التي حطّ إمامنا القاضي رحاله بها، وبعجالة يصف حالتها العلمية بقوله: ” فرأيت بها رجالات في المسائل والقراءات، وأدباء متوسطي المنزلة بين درجتي التّقصير والكمال، في أيّام قلائل لبثت بها، لم أَخْبُر بها حالهم، فربّك أعلم بهم، إلا أنّي جالستُ قاضيها ومقرئها ابن شفيع”، والمقصود بابن شفيع الذي جالسه إمامنا ابن العربي هو عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع [ت. 514هـ]، يقول عنه في «البغية»: “الفقيهُ المقرئ المحدّث، يروي عن أبي عمر بن عبد البرّ”، إلا أنّ ابن بشكوال في «الصّلة» حكى خلافاً في روايته عنه، فقال: ” سمعت صاحبنا أبا عبد الله القطّان -رحمه الله-، يُثني عليه ويُصحّح سماعه من أبي عمر بن عبد البرّ، وقد أخذ عنه بعض أصحابنا، وتكلّم بعضهم فيه، وأنكر سماعه من ابن عبد البرّ”.
5. ومن مدينة ألميريا الأندلسية إلى مدينة بجاية الجزائرية، وهي المدينة التي التقى فيها بجلّة من أعلامها، وعلى رأسهم محمّد بن عمّار الكِلاعي، قال ابن الأبّار في «التكملة»: ” من أهل ميورقة، نزل بجاية، يُكنّى أبا عبد الله”، وقال فيه إمامنا القاضي: كان “رأساً فيهم، مشاركاً في معارف وحديث، ومسائل وأدب، وربّما كانت عنده في الأصول إشارةٌ لا تومئُ إلى المراد، منسوجةٌ على منوال الباجي ونظرائه”.
6. وبمدينة المهدية التونسية حلّ إمامنا بعد قضائه الوطر من بجاية، وبها التقى ثلّة من فقهاء القيروان كأبي بكر محمد بن القاسم اللّبيدي الذي يقول عنه القاضي عياض في «المدارك»: ” كان من أهل العلم والأدب، والفهم الحسن، كان معظّماً في النّاس بنفسه وبأبيه ومكانته عند السّلطان؛ وكان حسن المعاشرة، طلق الوجه، مبادراً لقضاء حوائج النّاس، مكارماً لهم، جميل الصّورة، واسع الحال، كانت له مشيةٌ حسنةٌ، وملبسٌ نظيفٌ، وتوقّرٌ مفرط، وكان النّساء يتصدّين لرؤيته لجماله، وحسن شارته”.
7. ويبدو أنّ إمامنا القاضي قد استهوته مدينة المهدية، وأغرم بجلسات العلم فيها، وبطريقة أهل القيروان في الدّرس والتحصيل للعلوم الفقهية، فأفاض مداد قلمه عنها وكتب: ” فلمّا لمح لي هذا الكوكب بطريقة القيروان، واستنارت لي فيها بنوع من البرهان، واستبرأتها بواضح من الدّلالات غضّ النّبات والأفنان، قلت: هذا مطلبي، فأخذت في شيءٍ من قراءة أصول الدّين، والمناظرة مع الطّالبين، ولزمتُ مجالس المتفقّهين، وكان فيها الأدب على حالة وسطى”.
8. ويقصدُ إمامنا بطريقة القيروان منهجهم في تدريس مدوّنة الإمام سحنون في الفقه المالكي والتي تقوم على: التّخريج والتّصحيح والضّبط، بخلاف المنهج العراقي القائم على التناظر والاستدلال، قال المقّري في «أزهار الرّياض» وهو يتحدّث عن صناعة التّأليف لدى المغاربة: ” فصلٌ: ولقد وقفت في بعض التعاليق لأحد المتأخرين على كلام في صناعة التّأليف، رأيتُ أن أجلبه جميعه، ونصّه: وقد كان للقدماء -رضي الله عنهم- في تدريس المدوّنة اصطلاحان: اصطلاحٌ عراقيٌ، واصطلاحٌ قروي؛ فأهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل المدوّنة كالأساس، وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلّة والقياس، ولم يعرّجوا على الكتاب بتصحيح الرّوايات، ومناقشة الألفاظ، وأمّا الاصطلاح القرويّ: فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الكتاب، وتصحيح الرّوايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات”.
9. بعد هذه الاستراحة القيروانية نكمل رحلتنا مع إمامنا القاضي الذي سيحطّ هذه المرّة رحاله في الدّيار المصريّة، وعنها يقول: “فألفينا بها جماعةً من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، وتردّدت في لقاء النّاس بين أسفل وفوق، بما كنت فيه من المعاف من التّوق، وناظرتُ الشّيعة والقدرية، وتدرّبت في جمل من الجدل، ونظرتُ في نبذ من علم الكلام، وتفطّنت من سخافة هذه الطّائفة بنفسي، إلى معانٍ تمّمها لي النّظر في المعارف والتّمرس بالمشايخ، أُمّةٌ غلب عليها سوء الاعتقاد، ونُشّئتْ من غير فطم بلبن العناد، واستولى اليأس منهم بما هم فيه من الفساد”.
10. ومن أرض الكنانة سيدخل إمامنا أرض القدس الشريف، وسيلقي عصا التّسيار فيها، مفتتحاً دخوله إليها بالصّلاة في المسجد الأقصى المبارك، ويطيل المقام في الأرض المقدّسة حين “لاح له بدر المعرفة” فيه أزيد من ثلاث سنوات، وفيها التقى بالإمام الأندلسي أبي بكر محمّد بن الوليد الطُّرطوشي، والمعروف بها بابن أبي رُنْدَقَة، وكان رحل بدروه إلى المشرق سنة: 476هـ.
11. وبحماسةٍ وشوقٍ يقصد الإمام ابن العربي مجلس شيخه أبي بكر الطّرطوشي باحثاً عنه بين سوراي البيت المبارك ، يقول عن هذا اللقاء: “ومشيتُ إلى شيخنا أبي بكر الفهري رحمة الله عليه، وكان ملتزماً من المسجد الأقصى-طهّره الله- بموضعٍ يقال له الغُوَيْر بين الأسباط، ومحراب زكريا -عليه السّلام- فلم نلقه به، واقتفينا أثره إلى موضعٍ يقال له السّكينة فألفيناه بها، فشاهدت هديه، وسمعتُ كلامه، فامتلأتْ عيني وأذني منه، وأعلمَهُ أبي بنيّتي فأناب، وطالعه بعزمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كلّ باب، فاتّخذتُ بيت المقدس مَبَاءةً، والتزمتُ فيه القراءة، لا أقبل على دنيا، ولا أكلّم إنسياً، نواصل اللّيل بالنّهار فيه”.
يتبع…
د. محمد شابو