1.عرفت الحركة الفكرية بالمغرب في مطلع القرن العشرين، نشاطاً مكثفا همّ معظم المجالات العلمية والثقافية والأدبية، وقد ظهرت نتائج هذا الحراك الفكري وآثاره فيما خلفه أعلام ذاك القرن من مؤلفات وكتابات أغنت الحياة الفكرية بهذا البلد.
2.ففيما يخصّ جانب التأليف والكتابة فقد كانت كما يقول العلاّمة عبد الله كنون: «حركة نشيطة جدّاً في هذا العهد، إن لم تدلّ على بعث فكري فهي تدل على حيوية عظيمة في أهل العلم الذين تركوا لنا تراثاً حافلاً، لم تخرج المطبعة بعضه إلى الآن ولا مقدار ربعه».
3.وكما عرفت الحركة الفكرية نشاطاً مشهوداً على مستوى الكتابة والتأليف، فقد عرفت أيضا نشاطاً فكريا على مستوى عقد المجالس العلمية، وتنظيم المسامرات الثقافية، وإقامة المنتديات الفكرية؛ يجتمع فيها العلماء والمفكرون والأدباء والمثقفون للتداول والنقاش في قضايا عامة، فكرية وثقافية وسياسية وغير ذلك؛ بشكل دوري ومنتظم.
4.بخصوص المنتديات الفكرية فإنّ علماء المغرب ومفكريه وأدباءه قد عرفوا هذا النوع من المجالس، ولم تخلُ مدينة من مدن المغرب من إقامة عالم أو أديب لناد في بيته يجمع فيه أدباء وقته ومفكريه؛ ففي مدينة تطوان مثلا اشتهر نادي جمعية الطالب المغربية المؤسس من طرف المرحوم عبد الخالق الطريس، وكذلك نادي الوحدة المغربية المؤسس من طرف الأستاذ محمد المكي الناصري، وبمدينة فاس اشتهر نادي المسامرات المنبثق عن جمعية قدماء تلاميذ ثانوية مولاي إدريس، وبمدينة مكناس اشتهر نادي العلامة المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان، وبمدينة الرباط اشتهر نادي الأديب محمد بوجندار، والنادي الجراري الشهير للعلاّمة الفقيه عبد الله الجراري، ولنجله من بعده العلاّمة الأديب الأستاذ عباس الجراري.
5.لا يستبعد البعض أن يكون إقامة هذا النوع من الأندية أتى في سياق تأثير الحراك الفكري ومظاهره الذي عرفه المشرق العربي -وبالأخص بمصر- في نظيره المغربي. يقول أحد الأساتذة الباحثين في الموضوع: «أميل إلى الاعتقاد أنّ الأندية الأدبية التي نشأت بالمغرب خلال القرن العشرين كانت بتأثير ما عرف في المشرق العربي من هذه الصالونات الأدبية، علما أنّ هذه المحافل لم تكن أحاديثها وما يطرح داخلها من قضايا محصورة فيما هو أدبي، بل قد يتشعب الحديث ليشمل الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي». 6. إنّ ما يزكي هذا الطرح؛ هو أنّ معظم أعلام الفكر المغربي من جيل الحركة الوطنية في مطلع ذاك القرن كانوا يطّلعون على ما تنتجه الأقلام المصرية من خلال الكتب والمجلات والجرائد التي كانوا يحرصون كل الحرص على أن تصل إلى أيديهم.
7.يُعتبر نادي عباس محمود العقاد[ت:1964م] من أبرز النوادي الفكرية والأدبية التي اشتهرت بمصر؛ ووصل صدى جلساته إلى العالم العربي عموما، ومنه المغرب على وجه الخصوص؛ نظراً لمكانة صاحبه العلمية، وشهرته الفكرية والأدبية الواسعة، فكان أهل الأدب وأصحاب الفكر يجتمعون في بيته صباح كل جمعة، لمناقشة ما استجدّ من قضايا الفكر والأدب والسياسية؛ وعن هذا النادي الشهير كتب أنيس منصور كتابه: «في صالون العقاد كانت لنا أيام».
8.من أشهر النوادي الفكرية التي عرفها المغرب مطلع القرن العشرين «نادي المسامرات» المنبثق عن جمعية قدماء تلاميذ ثانوية مولاي إدريس بفاس؛ والتي تأسست سنة: 1919م، حيث كان من أبرز أهداف النادي تنظيم محاضرات بشكل دوري يُستدعى لإلقائها كبار الأساتذة من العلماء المغاربة وغيرهم.
9.عرض المرحوم محمد الحسن الوزاني في «مذكراته» جملة من عناوين المحاضرات التي ألقيت في هذا النادي، منها: «الحضارة الحقة» لعبد الله الفاسي «رحلة إلى فرنسا » لمحمد بن الحسن الحجوي، «النظام الإداري في القرن الأول من الإسلام» لمحمد عبد الحي الكتاني، «الحالة القديمة والراهنة للعلم والتعلم» لمحمد بن العربي العلوي، « الأصول التاريخية للشعب المغربي» و« تاريخ الأدب المغربي» لعبد الحميد الرندة، «خطوات أولى نحو التجديد» لعبد السلام الفاسي، وغيرها الكثير.
- من المجالس العلمية الخاصة بمدينة تطوان التي أخذت طابع النادي مجلس العلامة الفقيه محمد ابن الابار الذي كان يعقده ببيته مساء كل أربعاء بعد صلاة العشاء، قبل أن يتحول إلى عصر كل خميس، وكان مرتادوه من علماء وفقهاء مدينة تطوان، على رأسهم: العلامة الفقيه محمد المرير، والعلامة السيد محمد الموذن، والسيد الشريف أحمد الغنيمة، والشريف السيد أحمد غيلان، والفقيه السيد أحمد الصفار.
11.كان هؤلاء الأعلام يتداولون في مجلسهم فنون العلم من الحديث الشريف، ويسردون كتبه ومصنفاته؛ وكان من أبرز الكتب التي تولوا دراستها وتفهمها كتاب: «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» حيث كان جوّ المجلس يتسم بالدّقة والجدية؛ يقول العلامة محمد المرير في «النعيم المقيم»: «ولأننا كنا في الحقيقة نجعل شرح القسطلاني هو المتن، ونسرده حرفاً حرفاً، ونتتبع أبحاثه بكل تحقيق وتدقيق ومناضلة حتى لا يشذّ عن فهمنا شيء».
- كانت مجالس علمية وفكرية جادة تنبئ كما يقول -رحمه الله- عن: «كيف كانت الهمم متوجهة إلى تحقيق المسائل العلمية، وكيف كانت اجتماعات أهل العلم، حيث كانت كلها مذاكرات ومباحث علمية، لا اغتيابات مردية، ولا خرافات ملهية، ولا سياسات وهمية».
د. محمد شابو