- 1. تكتسي الرّحلةُ عموماً أهميّةً كبرى في الثقافات الإنسانية بما تخلّفه من آثارٍ حضارية وتواصلية بين الأمم والشعوب، وأخرى معرفية تُتيح للأحفاد الوقوف على أطلال المظاهر الحضارية للأجداد، ومن ثَمّ فقد اعتبرت الرّحلة في مفهومها العامّ كما يقول أحد الباحثين: ” بمثابة سجّلٍ حقيقيٍّ لمختلف مظاهر الحياة ومفاهيم أهلها على مرّ العصور، فالرّحالةُ وهو يطوي الأرض أثناء رحلته يُغطّي في نفس الوقت ملاحظة مظاهر مختلفة في الحياة، يُشاهدُها أو يسمعُ بها أحياناً وينقلها أثناء رحلته”.
- بالرّجوع إلى المعاجم الأصيلة للغة العربية سوف نجد أنّ لكلمة “الرِّحلة” معانٍ متقاربة، يلتقي معظمها حول معان تتعلّق بالسّير والانتقال والتّرحال، فارتحلَ البعيرُ رَحَلَه: إذا سار ومضى، وارتحل القوم عن المكان ارتحالاً إذا انتقلوا، كترحّلوا، والرِّحلة بالكسر خاصّةً، الارتحال للمسير، ومنه قوله تعالى: {إيلافهم رِحلة الشّتاء والصّيف} [سورة قريش: 2]، والرُّحلة بالضّمّ: الوجهُ الذي تقصده وتريده وتأخذُ فيه، يقال: أنتم رُحلتي، أي: الذين أرتحلُ إليهم، ويقال: مكّة رُحلتي، أي: وِجهتي التي أريدُ أن أرتحل إليها، ومن هنا أُطلقتْ كلمة “الرُّحْلة” على الشّريف أو العالم الكبير الذي يرُحل إليه لجاهه أو علمه، فيقال: رُحلة الوقت لمن كان شيخاً للعُلماء في عصره، ورُحْلة الحفّاظ لمن كان من أهل الحديث وغير ذلك.
- تعدُّ مصنّفات الرّحلات الحجازية، أو رحلات الحجّ المغربية من أهمّ المصادر الفكريّة والمعرفيّة التي لا يُستغنى عنها في مجالات البحث الفكريّ والتّاريخيّ والجغرافيّ، ولا غرو في ذلك؛ فقد كان معظم مدوّني هاته الرّحلات من أكابر العلماء والكتّاب، ولذلك عرفت مصنّفاتهم وكتاباتهم طرق مواضيع هامّة وجوانب ثرّة من العلوم الفقهية واللغّوية والأدبية، وتحقيقات تاريخية وجغرافية، قد لا توجد في غير هاته المظانّ الرّحلية.
- والمقصودُ بمصنّفات الرّحلة الحجازية المغربية: هي تلك الكتبُ التي يُدوّن فيها أصحابها مراحل سفرهم إلى الحجاز بغرض تأدية مناسك الحجّ، فقد كانت أرضُ الحجاز دائماً مطمح النفّوس، ومهوى القلوب والأفئدة للرّحالة المغاربة، فتجدهم يتحمّلون المشاقّ والصّعاب، ويقطعون الفيافي والقفار، ويواجهون مخاطر الطُّرق ووعورة المسالك في سبيل تكحيل عيونهم برؤية الكعبة المشرّفة والطّواف بها، وإطفاء نار أشواقهم بزيارة القبر النّبوي الشّريف، والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم.
- وقد شكّل هذا الفنُّ الأدبيُّ المتعلّق برحلات الحجّ المغربية على وجه الخصوص قمّة الإبداع والتفوق والنبوغ أسلوباً ومضموناً، وبالأخصّ في العصرين المريني والعلوي، فقد -نبغ كما يقول المرحوم العلاّمة محمّد الفاسي-” عددٌ كبيرٌ من المغاربة في هذا النّوع الأدبيّ، ولئن كان سبقهم غيرهم إليه، فما ذاك إلا أنّهم لم تُنشر الثّقافة بين ظهرانيهم إلا مؤخراً ولكنّهم لـمّا أقبلوا على هذا النوع الأدبي برّزوا فيه، وبذّوا غيرهم، حتّى إنّ أشهر رحّالة في العالم كان من أهل المغرب، وهو ابن بطّوطة، وحتّى إنّ أعظم رحلة أُلّفت في العربيّة أَلّفها مغربيٌّ وهو الإمام ابن رُشيد “.
- من المعلوم لدى المختصّين في أدب الرّحلة أنّ الرّحالة المغاربة احتلّوا المراتب الأولى فيما يخصّ التصنيف الرّحلي الحجازي والإبداع فيه، “فقد فاقوا غيرهم في هذا الفنّ، ووضعوا فيه مؤلّفات بديعة طُبع بعضها وأكثرها لا يزال مخطوطاً، ومنها ما تُعتبر ضائعة ولا تُعرف إلاّ بالنقل عنها في كتب التاريخ والأدب والتراجم” كما يقول علاّمتنا محمد الفاسي. ودفعاً لما يمكن أن يعتري هذه الشّهادة من جَرْحٍ، فهذا علاّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر يقول: ” ومن ثَمّ فإنّ علماء المغرب برّزوا على علماء المشرق بما كتبوه عن الجزيرة العربيّة في رحلاتهم للحجّ، بل بزّوهم في هذا الميدان”.
- ومردّ هذا التّفوق والنّبوغ إلى أسباب كثيرة ومتنوّعة، منها: وَلوع المغاربة بكيفيّة عامّة بالسّياحة وارتياد أقاصي البلاد، يقول المرحوم العلاّمة عبد الهادي التّازي في هذا السّياق: ” كان الرّحالةُ المغربيّ يُحسُّ دائماً بأنّ الفضاء الذي يعيش فيه لم يكن كافياً لإرضاء كلّ رغباته بكلّ ما يحتضنهُ هذا الفضاء من محامد ومناقب، ولذلك فإنّ عليه أن يسعى لرؤية العالَم الآخر، عالَم المشرق الذي كان مصدر سعادته، والذي لم يكن غير مركز الإشعاع الرّوحي والفكريّ الذي كانت تتمثّل فيه السّعادة التي تغمره طوال يومه وليله، تلك المراكز التي كان يتصدّرها قطب مكّة ( البيت الحرام) أوّل بيت وضع للنّاس.
8.ومن أسباب هذا التفوق -أيضاً- دقّة الوصف، وصدق المشاهدة، وجمالية التعبير، وأمانة النقل؛ حيثُ جعلتْ هذه الأسباب من النص الرّحلي الحجازي المغربي مصدراً موثوقاً ومعتمداً في التاريخ للمسالك والطرق التي يمرّ مها ركب الحجّ المغربيّ، ولجزيرة العرب عموماً وللحرمين الشريفين على وجه الخصوص، فركب الحجّ المغربيّ – كما يقول الفقيه محمد المنوني: ” لـمّا يصلُ به المطاف إلى الحجاز، إنما يهتمّ في الغالب بارتساماته عن الحرمين الشريفين، مع المسالك المؤدّية إليهما”.
- يقول الشيخ حمد الجاسر في هذا السياق:” وهنا جانبٌ عظيمُ الأهميّةِ في تاريخ نشر الثقافة الإسلامية وحفظها، لم أر أحداً من الباحثين تعرّض له وهو أنّ جزءاً مُهمّاً من تراثنا لم نعرفــــــــــــــــــــهُ ولم يـــــــــــــــصل إلينا إلاّ بطريـــــــــــــــــــــق علمـــــــــــاء المغــــــرب، فقد قاموا بنقله إلى بلادهم بعد تلقيه أثناء قدومهم إلى مكة، وتولّوا حفظه بالرّواية والنقل، واستفادوا منه، ثمّ عاد إلينا بطريق ما خلّفوه من تراث ثقافي ضخم”، ويقول -أيضاً-: ” وليس من المبالغة القول بأنّ في رحلات ابن رشيد والفهري والتجيبي والعبدري والعيّاشي والدّرعيين أحمد بن ناصر ومحمد بن عبد السلام ومَن بعدهم إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، في تلك الرّحلات ما يُعتبر مِن أوفى المصادر وأشملها وأوثقها في دراسةِ كثيرٍ من أحوال المدينتين الكريمتين، مكة المكرمة والمدينة المنوّرة من ثقافية واجتماعية واقتصادية، وهذا مالم أر أحداً من الباحثين اتّجه له باعتبار تلك الرّحلات تُكوِّن وحدةً متكاملةً في موضوعها”.
- وقد عرف العصرُ العلويّ المنيف عبر قرونه المباركة تطوّر فنّ الرّحلة الحجازيّة وازدهارها وتنوّع مصنّفاتها وكثرتها، يقول محمّد الفاسي: “وقد ازدهر فنّ الرّحلة في أيّام الدّولة العلويّة أيّما ازدهار، فأُلّفت منذ القرن الحادي عشر عدّة رحلات من شتّى الأنواع، نشيرُ بالخصوص إلى الرّحلات الحجازية، وقد بلغ عدد التي وقفتُ عليها أو بلغني خبر وجودها نحو الخمسين رحلة”.
- إلاّ أن أبرز ما انتُقِد على مصنّفات الرّحلة في هاته الفترة هو منهج الكتابة والسّرد فيها، فقد تحوّلت -كما يرى البعض- من مصنّفات يتعلّق مضمونها بوصف مراحل ومسالك طريق الحجّ ومنازله، إلى مصنّفات علميّة تُناقش أبرز القضايا الفقهية واللّغوية وغيرها، يقول الفقيه محمد المنّوني: ” أمّا المغاربة في العدوة الأخرى فقد استأنفوا التّأليف في هذا الاتّجاه انطلاقاً من المائة الحادية عشرة، غير أنّه بدأ الضّعف يسري لمنهجيّة العرض، تطويل بالاستطرادات التي قد تكون بعيدة عن الموضوع، أو اختصاراً إلى حدّ الإسراف”.
- وهو نفسُ الانتقاد الذي وجّهه محمد الفاسي إلى رحلة الإمام أبي سالم العيّاشي «ماء الموائد» بسبب ابتعاده-حسب تعبيره- عن “التقاليد التي أسّسها الرّحالون الأوائل كابن جبير، والعبدري، مِن وصفٍ للمراحل والاهتمام بالناحية الطبيعية الجغرافية، وبأخلاق الناس وعوائدهم، مـمّا يجعل قراءة الرّحلات لذيذة ومفيدة، وجَعَلَ الرّحلة عبارة عن مؤّلَف حشر فيه المناقشات الفقهية والصّوفية وغيرها مـمّا لا مساس له بالسّفر، وأَكْثــَــرَ من ذكر الإجازات والأسانيد؛ الشّيء الذي كان الأوّلون يُخصّصُونه كتب البرامج والفهارس”.
ولنا في قادم الأحاديث -بحول الله- عرضٌ وتقديمٌ لأشهر رَحَلات الحجّ المغربية في عصر الدّولة العلويّة.
د. محمد شابو