- في هذا الجزء الأخير من الحديث عن رحلة «نسمة الآس»، نستفتحه بالإشارة إلى أنّ هذا المصنّف الرّحلي، من أكثر مصنّفات الرّحلات الحجازية المغربيّة تميّزاً في دقّة الوصف لمسالك طريق الحجّ التي يمرّ منها الركب المغربي، فضلاً عن تفنّن صاحبه في وصف الطبيعة من آبار المياه، وأشجار النّخيل؛ حتّى ليُخيّل إليك وأنت تغوص في ثنايا الرّحلة أنّ الشّعاب والأودية تمرّ أمام ناظريك في جمالية مشهد، وسحر منظر.
- إلا أنّ شيخنا القادري سرعان ما يترك الحديث عن الطبيعة وسحرها ويرجع إلى الحديث عن شيخه أحمد بن معن ، فلا تسل حينها عن جريان قلمه، ولا عن مداد دواته، ولا عن أريحية خاطره، فهو ينطلق كالسّيل في إبراز فضائله ومناقبه وأحواله، “فكان رضي الله عنه في مشيته السّعيدة، وسيرته الحميدة، لا يُكيَّف لإنسان، ولا يعبّر عنه لسان، عليه جلالة الهيبة، ووقار الحضور مع الغيبة، مع المحافظة على الصّلوات، ومراعاة الأوقات، والرّفق بالرّفيق، والمساواة في الطّريق، والتّفقه في العلم والدّين، والنّصيحة لجميع المسلمين، ومواساة المحتاج، واللّطف بجميع الحجّاج، فتبارك الله أحسن الخالقين، ولو تتبّعت هذا الباب، لأتيت بالعجب العجاب”.
- ولا يفوته وهو يؤرخ للرحلة أن يقف وقفة مع إمام شيخه في الصّلاة، فيقول: “وتوضّأ وصلّينا الظّهر بأول تقصير مع سيّدنا، وإمام الصّلاة الفقيه المشارك، الصّالح النّاسك، أبو عبد الله سيّدي محمّد بن عبد الرّحمان التّادلي الصّومعي الزّمْرَاني، واستمرّ ذهاباً وإيّاباً”، والفقيه محمد بن عبد الرّحمان الصّومعي [ت.1123هـ]، هو أحد أحفاد الشّيخ الصّوفي الشّهير أحمد بن أبي القاسم الصّومعي [ت. 1013هـ]، قال عنه العبّاس بن إبراهيم في الإعلام: ” كان فريد عصره، وأعجوبة دهره في تدريس العلوم الفقهية والنّحويّة واللّغوية، وكان يطعم الطّعام، ويقوم باللّيل والنّاس نيام”، وقال عنه القادري في « النّشر»: “الفقيه العلاّمة الصّالح البركة المشارك، الحجّة النّاسك، حصل في العلوم على طائل، ومشى في الطّريق على سنن الأوائل، وحجّ في السّنة التي حجّ فيها سيّدي أحمد بن معن، عام (1100هـ)، ورافقه مع جمعٍ من أصحابه”.
- أمّا الجدّ الشيخ أحمد الصّومعي ، فهو شيخ زاوية الصّومعة بتادلا، قال عنه عبد الله بن محمّد الفاسي في «الإعلام بمن غبر من أهل القرن الحادي عشر»: “من مشاهير الأولياء، له مشاركةٌ في العلوم، ومعرفة بالتّصوف، وذوق فيه، واجتمع عنده من الكتب مالم يجتمع لغيره، وترك ما يقرب من ألف وثمانين مجلداً “، وقال عنه المقّري في « روضة الآس العاطرة الأنفاس، في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مرّاكش وفاس»: لقيتُ الشّيخ العارف النّاسك الصّالح، العلم الحجّة، المؤّلف المفيد السّنّي، أبو العبّاس أحمد بن أبي القاسم التّادلي-حفظه الله-بحضرة الإمامة بمرّاكش-حاطها الله- وأخذت عنه واستفدتُ منه، وهو نفع الله بعلومه آية من آيات الله في المجاهدة، لا يكاد يفتر عن ذلك أصلاً، استغرق نهاره وليله في أنواع الطّاعات، من صلاة وذكر، وقراءة قرآن، وإقراء علوم الحقيقة، شاهدته وكثير من تآليفه تُقرأ بين يديه، وله ولوع باقتناء الكتب والمطالعة”، وعنه يقول العبّاس بن إبراهيم في «الإعلام بمن حلّ مرّاكش وأغمات من الأعلام»:” أبو العبّاس، العالم ذو التّصانيف العديدة، والسيرة الحميدة، من مشاهير الأولياء، وأحد المشمّرين للعبادة، وكان يصوم الدّهر، ويفطر كلّ يوم على تمرة، حتّى يُسمع لمفاصله إذا مشى كصوت السّطل المنقور”.
5.رجعٌ، يستمرّ شيخنا القادري في الحديث عن السّير مع شيخه من منزل إلى منزل، ومن بلد إلى بلد” داخلين بحر الثّرى، وخلّفنا العمارات ورا، من المدائن والقرى، وقصدنا القفار والبراري، حيث لا جدار هنالك يواري، فليس إلاّ تخيّر المواطن، وإيراد المعاطن، وقطع السّباسب البعيدة، والمفازات العديدة”، إلى أن وصلوا القاهرة بكرة يوم الخميس الثامن عشر من شوّال، وهناك بمصر صادفوا خروج المحمل الخاصّ بحمل كسوة الكعبة المشرّفة في يوم مشهود.
- وعن هذا المحمل يقول: ” والمحمل هودج من خشب كالقبّة عند العرب ببلادنا، معدّ لحمل كسوة الكعبة، فإذا كان هذا اليوم كُسي بالدّيباج المنسوج بالذّهب، وجُعل على جمل مكسو كذلك أيضاً، وخرج أمامه عسكر من الرّماة في أفخم زيّ، ثمّ يمرّ المحمل في غاية الزّينة والشّارة الثّمينة، ويمرّون به وسط المدينة ويذهبون، ولا أظنّ أنّ أحداً من أهل مصر يتخلّف عن رؤيته من الرّجال والنّساء والصّبيان إلاّ النّادر، وهو عندهم يوم مشهور، فلمّا رأينا أنّ هذا الازدحام لا يمكن أن يكون معه إلاّ الـمُقام، صعدنا هنالك حانوتاً بالغورية لبعض المغاربة، وجلس به سيّدنا وجلستُ معه أنا وبعض الأصحاب حتّى مرّ بنا…”
- ولقد كان من عادة ركب الحجّ المغربي أن يشهد هذا المحفل الشّهير الخاصّ بحمل كسوة الكعبة المشرفة التي كانت تصنع آنذاك بمصر، يقول المرحوم الأستاذ عبد الهادي التّازي في كتابه: « من حديث الرّكب المغربي» متحدّثا عن الركب الفاسي والمحمل المصري: ” إن أفراد هذا الرّكب كغيره من الرّكاب المغربيّة الأخرى، يحضرون مهرجان المحمل المصري بالقاهرة، وإنّ غير واحد من المغاربة أهل فاس كان من عادتهم أن يشاركوا عمليّاً في ذلك الحفل بحمل جانب من كسوة الكعبة المشرّفة، وزيادة في تعظيم حرمة المظهر كانوا يضربون كلّ من رأوه يشرب الدّخان في طريقهم، ومن المغاربة من كان لا يكتفي بالمشاركة في هذه الحفلة ويذهب في مرافقة المحمل في طريقه من مصر حتّى مكّة”.
- يتمّم الأستاذ عبد الهادي التازي قائلاً: ” الغريب والطّريف معاً أن نجد بعض شعراء الملحون المغاربة تبهرهم روعة المظهر، فتنطلق ألسنتهم بقصائد شعبية في الموضوع، تعرف لديهم ب ” المحمل” يرسمون فيها مشاهداتهم وإحساساتهم إزاء يوم المحمل، ثم يسيرون معه في قصائدهم منزلة منزلة إلى أن يصل إلى مكّة”.
- وقد أورد العلاّمة الكبير والأستاذ الأديب عبّاس الجراري في كتابه الماتع: «القصيدة: الزّجل في المغرب» بعض القصائد التي قيلت في هذا المحفل الكبير، من ذلك ما قاله الحاجّ محمد بن علي المسيفوي في مرسوله، الذي يقول في حربته:
من الغرب، اتسير ابلكتاب يالمرسول ** وصلوا لحمد طه خـــــــــــاتم الرّسالا
ثمّ يقول:
اجلس تلتيام، أفرجا ابغيتك اتنال ** بنزايه بين القـــــــــــــــــلعا وســـــــــــــــــــاحل النّيل
كلّ يوم افراجا بين لكهول واطفال**في أيام المحمل اللي هو موكب احـــفيل
بالجوامر شـــــــــــــــــــــــــــع، يبريزها ابــــــهلال** ولقبب، وهوادج تشفي اسقام لعليل
ولعساكر تظهر في زيها المكمول**افلكسا وما دركــــــــــــــــت كيـــــــــــــــــــــــف اعمالا
ابلعساكر واغوايط ولعلوم وطبول**ايجددو دك الموكـــــــــــــــــــــــــــــب كل ما اتــــــبالا
- يصل الرّكب المغربي إلى وادي العقيق، وهو الأول بالحجاز من ناحية مصر، يقول الشيخ القادري: ” وبه أشجار عود الأرك وغيره، ونزلنا من الغد النّبط، وبه آبار ثلاثة عميقةٌ، ماؤها عذبٌ جدّاً لا أحسن منه في الحجاز فيما علمنا، فوردناها وارتحلنا، ونزلنا الغد الخضيراء، وبها بير مالحةٌ، فسرنا ونزلنا من الغد ينبع النّخل، عند طلوع الشّمس، أقمنا بها يومين، وهو موضعٌ واسعٌ كثير النّخل والفواكه والعمارات، والمياه الجارية العذبة، وسمّي ينبوعاً لكثرة ينابيعه”.
- ومن ثنيّة كَداء، سيدخل الشيخ القادري وشيخه مكّة المكرّمة يوم الاثنين الخامس من ذي الحجّة، “ووجدنا هناك جلّ المجاورين خرجوا للقاء سيّدنا، ولقيه بعضهم بذي طوى، وبعضهم بين ذلك وفيهم الفاضل الخيّر الحسيب أبو عبد الله محمّد بن طاهر الشّهير بابن رضوان الأنصاري النّجاري الفاسيّ؛ القاطن بمكة، فطلب منه أن ينزل عنده، وألحّ عليه في ذلك، فلم يجد بداً من مساعفته، وجبراً لخاطره، ومراعاة لنسبه، وجواره له بمدينة فاس حين كان بها”.
د. محمد شابو