- 1. مكث ركب الحجّ الفاسي الذي تصدّرت قوافله الأميرة خناثة بنت بكّار المغافري فترة من الوقت بمدينة تازة، وهي الفترة التي استغلّها العالم والوزير الإسحاقي في مشاهدة معالم المدينة الحضارية الدّينية والفكرية، كما انتهزها فرصة لصلة أعلامها وفقهائها، وزيارة أضرحة أوليائها وزوايا صلحائها.
- كان الإمام عليّ بن محمد ابن برّي التسولي التّازي، الفقيه الأديب المقرئ [ت. 730هـ]، صاحب المنظومة الشهيرة: «الدّرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع»: أبرز العلماء الذين زار الوزير الإسحاقي ضريحهم بهاته المدينة، وترّحم عليه، ولم يكتف بذلك؛ بل عرّف به تعريفاً موجزاً في مصنّفه الرّحلي عارضاً بالذّكر لنسبه ونشأته ومؤلفاته.
- ومن أشهر الشّخصيات الصّوفية التّازية التي زار ضريحها وزيرُنا الإسحاقي، العالم الصّوفي الشهير، والفقيه المصلح الكبير: محمّد بن عبد الرّحيم بن عبد الرّحمان الشّهير بابن يَـجَّبْشْ التّازي [ت.920هـ]،”الشيخ الذي ساد فأجاد، واتّكأ عليه الزمان فكان له نعم الوساد”، وقد ذكره الوزير الإسحاقي من غير أن يتعرّض لشيء من سيرته الحافلة، مكتفياً بقوله: “وزرنا بتازة من الصّالحين المشهورين بها: سيّدي محمّد ابن يـَجَّبْشْ”.
- ومحمّد بن عبد الرّحيم ابن يـَجَّبْشْ التازي أحد أشهر الفقهاء المغاربة النّابهين، ومن كبار الصوفية المصلحين في عصر الدّولة الوطّاسية، وأبرز المقاومين للغزو الإلبيري لسواحل المغرب بها؛ يقول عنه ابن عسكر في «دوحة الناشر»: ” الشيخ المتفنن، الأديب اللّوذعي، النّحرير المتبحر، الصّوفي المتوغّل في مشاهدة الجمال”، ويقول عنه الحضيكي في «الطبقات»: ” الشيخ الإمام البارع المتبحر، النحرير الصوفي، المحبّ العاشق، كان -رضي الله عنه- من أكابر العلماء العارفين، وممّن غمر في مشاهدة الجمال والكمال، وكان فصيحاً ماجداً صوفيّاً، له في ذلك شأن لا يدركه أحد”.
- عاصر ابن يجّبش الإمام الشهير محمد بن يوسف السنوسي [ت.895هـ] وتراسل معه، ونظم أبياتاً في شرحه لعقيدته الصغرى، وأدرك الشيخ أبا إسحاق إبراهيم التازي الوهراني [ت. 866هـ]، الملقب بسلطان الأولياء، وأخذ عنه، كما تتلمذ له في آخر حياته الشيخ الشهير عبد الله بن محمّد الهبطي الطنجي [ت.963ه]، ” جنيديّ زمانه، وقطب دائرة أوانه”، قال عنه الشيخ أبو حامد محمد العربي الفاسي في «مرآة المحاسن»: ” قصد في أول أمره الشيخ أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجّبش بتازة فوجده في مرض موته”، وقال ابن عسكر في «الدوحة» مبرزاً أحوال الشيخ ابن يجّبش في التّصوف: “حدّثني الشيخ سيدي أبو محمد الهبطي -رحمه الله-، قال: ” دخلت على الشيخ أبي عبد الله محمد بن يجّبش التازي وهو بمنزله بتازى وقد تمارض، فوجدته جالساً في فراشه، فسلمت عليه، وقلت له يا سيدي: ما معنى الوصال؟ فقال: الوصال! وما زال يمدّ لسانه به حتى سقط مغشياً عليه، فخرجت عنه وتركته كذلك”.
- كان الشيخ ابن يجّبش من الذي اتخذوا السماع التربوي منهجاً في تربية مريديه، فقد كان -كما يقول عنه الحضيكي-عاشقاً لا يكاد يفارق السماع ساعة واحدة، وله قصائد جمّة على طريق أبي الحسن الششتري، كقوله:
خْرَجْنا وَحْدْ الصَّبَاحْ ** نْشَاهدْ رَوْضَة بهيــــّة
وأطيارْ تَشْهَدْ يا صَاحْ ** لله بِالوَحـْـــــــــــــــــــــــدَانيّة
- ترك ابن يجّبش مؤلفات وقصائد وموشحات، وصفها ابن عسكر” بالرّائقة”، فمن مؤلفاته: «إرشاد السّافر للربح الوافر»، «وتنبيه الهمم العالية على الصدقة والانتصار للملة الزّاكية»، ومن قصائده: تائيته الشهيرة، وتخمسيه لقصيدة البردة الشّريفة، ومعارضته لقصيدة ابن النّحوي الشّهيرة ب: «المنفرجة»، التي يقول فيها:
اشتـــــــــدّي أزمـــــــة تنفرجي ** قد أُبدل ضيقـــك بالفـــــرج
مهما اشتدّت بك نازلةٌ ** فاصبر، فعسى التفريج يجي
مــــــــولاي عبيدك في كــــــرب** نفّس كــرباً عن قلب سـج
أذهب ألمي، وأزل سقمي** ثبّت قدمي، وأقم حُججي
بــــــــــــلّغ أربي، وأزل تعــــــبي** عجّـــــل طلبي، وأجب لهجي
بـــــــــــــادر برضى المحبوب تـــــــفز** بجميع القــــــــــصد وتبتهــج
في خــــــــــــدمته، أفني جسدي** فعســــى يبريني من سمجي
ويحلـــــــيني بحلى الأحبــــــا**ب، ويعصــــــــــــمني فأكــــــــــون نجي
وهـــــم الأكيـــــــاس بمــــــا فعلوا ** لـمّا اختـــــــــــاروا بــــذل المهج
غــــــــــرقوا في بحـــــــر محبّته** فاستــــــــخلصهم من كــــــــلّ شجـــــي
شربوا، سكروا، غابوا، ذكروا** طربوا، ظفروا، بعــــــلى الدّرج
فبــــــــــــحضرتهم مــــع سيّدهم** من بـــرحتهم صــــــــــــــــــــــــــبح البلج
لـمّــــــــــــا عـــــــــــــــــرفوا، ما قد طلبوا ** هـــــــان المتروك من السّـمج
فبـــــــــــحرمتهم، وبخــــــــــــــــــدمتهم** ومحبـــــــّتهم، ســـــــــــــــــــــهّل نهـــــجي
- توفي ابن يـجّبش بحاضرة تازة سنة 920هـ، وكما هي عادة سلاطين الدّولة العلوية في احترام وتوقير العلماء ومشايخ التّصوف المصلحين، فقد أصدر جلّ ملوكها ظهائر توقير واحترام لزاوية الشيخ ابن يجّبش وضريحه، وهكذا أصدر كلّ من السلطان مولاي إسماعيل، ونجله أبي العبّاس أحمد الذّهبي، والسلطان المولى سليمان والمولى عبد الرّحمان بن هشام، وكذلك السلطان مولاي الحسن ظهائر توقير تخص زاوية ابن يجّبش، وبالجملة -كما يقول الأستاذ أبو بكر البوخصيبي- في كتابه الماتع الكاشف « أضواء على ابن يَجَّبْش التّازي»: ” فإنّنا نجد هذه النّخبة من ملوك الدّولة العلوية، أو من عثرنا لهم على الأصحّ على ظهائر في الموضوع، قد وفّوا لابن يجّبش حقّه، اعترافاً منهم لما له في عالم الصّلاح والإصلاح من جلائل الأعمال”.
- وممّا ورد في نصّ ظهير مولاي إسماعيل: ” ليعلم الواقف على هذا الكتاب الكريم، والخطاب الجسيم، والأمر المحتّم الصّميم، أنّنا من فضل الله علينا، وبركة والدنا المنصور المؤيّد بالله، احترمنا زاوية الوليّ الصّالح، المتبرك به، سيّدي محمّد بن يجّبش، نفعنا الله به وأفاض علينا من بركاته، ووقّرناها واحترمناها باحترامها من قديم، فلا سبيل لمن يخرق على تلك الزّاوية عادة معروفة، فهي موقّرة لدينا، محترمة مبرورة عندنا، وجعلنا حدودها من رأس الدّرب…»، وممّا ختم به المولى سليمان ظهيره: ” وقد زدنا الحرم توقيراً واحتراماً، ومراعاة وإعظاماً، كما كان عليه مع أسلافنا الكرام، ومن رامه بما ينقص جانبه لا يلومنّ إلاّ نفسه”.
- عوداً على بدء، وبعد هذه الغيبة في الشخصية اليجّبشية نرجع لنكمل حديثا عن وزيرنا الإسحاقي في رحلته، فبتاريخ 2 رجب 1143هـ، سيخرج الرّكب من مدينة تازة، بعد أن هاجت ريح ” غريبة صارعت المضارب، ودامت اللّيل كلّه، حتّى كادت تميل الأخبية عن الاستقامة بعد التّعديل، وتتركها صرعى ما بين جريح وقتيل”، وبسهل تافرطة بمنطقة تاوريرت تعرّض أحلافها للسّيدة خناثة بمراكبهم وهوادجهم، وكان تعرضهم لها رغبة في أن تشفع لهم عند السّلطان مولاي عبد الله عن تقصيرهم في الخدمة، ” فأنعمت لهم السّيدة بقضاء غرضهم عند السّلطان-نصره الله- وأصدرت إليه المكاتب بذلك في الحين، فانقلبوا فرحين مسرورين”، مجسدة بذلك دور المرأة المغربية في السياسة والإصلاح.
يتبع…
د. محمد شابو