- بأسلوبه السّلس البليغ، ووصفه الجميل البديع، يتابع الوزير الإسحاقي حديثه عن مسالك الركب المغربي، ومواطن إقامته واستراحته، فبعد قطعهم ما تبقى من بسيط «تافراطة»، يقول: “وبعد إعمال السّير الحثيث في قطع هذه البلدة بتحريك الظّهر وهمز المهموز، كان النزول على فم بزّوز، ومنها ارتحلنا من الغد فاتّصل المسير، وسلكنا على عقبة عن يمين زاوية (سيدي علي بن مسامح)، تركناه يساراً وراء جبل هناك “.
- وتعترضهم عقبة إذا صار الإنسان بأعلاها كما يقول” أطل الظهرا، فتظهر له مهامه فيح تحار فيها القطا، وتقصر فيها الخطا، الظهرا وما أدراك ما الظهرا، مهبّ رياح، ومجرّ عوال ورماح، واسعة الفجاج، كثيرة البرد كسيرة الأثلاج، سلكناها في فصل اللّيالي، فلقينا من بردها وثلجها ما الله أنجانا منه”.
- أمّا زمن الحرّ فيها؛ فلم يكن له غير أن يستشهد بقول ذي الرّمة، وهو غيلان بن عقبة العدوي [ت.117هـ]:
وهــــــاجرةٍ قنّعتُ رأسي لحرّها ** تكاد الحصى من حميه تتقطّــــــــــعُ
نصبتُ له وجهي وأطلالَ بعدما** أزى الظّلُّ واكتنَّ اللَّياحُ المولَّعُ
والبيتان من قصيدة يهجو فيها بني امرئ القيس، يقول في مطلعها:
أَمِنْ دِمْنَةٍ بين القِلاَتِ وشَارعٍ** تَصَابيْتَ حتّى ظّلتِ العينُ تدَمعُ
نعم عبرةٌ ظلّتْ إذا ما وزّعتُها** بحلـــــمي أبتْ منها عـــــــــواصٍ تترَّعُ
- وقد أورد الإسحاقي في استشهاده شطر البيت الأول بخلاف ما هو مبثوث في ديوانه، سواء ذاك الذي صحّحه ونقّحه كاريل هنري هيس مكارتني، سنة 1919م، أو ذاك حقّقه الدكتور عبد القدوس أبو صالح سنة 1972م، بشرح أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي صاحب الأصمعي، ورواية أبي العبّاس ثعلب، فإنّ البيتين فيهما كالتّالي:
وهاجرةٍ شهباءَ ذاتِ كريهةٍ** يــــــكادُ الحـــــصى من حَمْيها يتــــــــــــصدّعُ
نــصبتُ لها وجهي وأطلالَ بعدما** أزى الظّلُّ واكتنَّ اللَّياحُ الــمُولَّعُ
- وشهباء: من شدّة الحرّ في بياضها، ذات كريهة، أي: تكره، تتصّدّع: تتشقّق، وأطلالَ: اسم ناقته، وهي المفردة الوحيدة التي شرحها وزيرنا الإسحاقي، أزى الظّل: قصر، يقال: أزى يأزي: إذا تقبّض، إذا بلغ الظّلّ إلى أصل حائط فقد أزى، واكتنّ: اكتنس، واللَّياحُ: الثّور الأبيض، والمولّع: فيه ألوانٌ مختلفة، موشىً.
- حديث اللغة في النّص الرحلي الإسحاقي حديث وافر وشيّق، ينمّ عن حسّ لغوي وأدبي عال لدى عالمنا وفقيهنا الوزير، فما إن يجد فرصة للاستطرادات اللغوية حتى يسهب في حديثه، فينتقل بنا من الحديث عن مسالك الطرق والأودية وشعابها، إلى الحديث في اللغة وموضوعاتها وتشعباتها، وهكذا عندما خرج الرّكب من «منازل الظهرا» وخيّم بالشجرات، وهي كما يصفها: ” صم بكم، جنان لصطم، وهي شجرات مجتمعات كهيئة الجنان وليست به”، حتّى استشهد بقول القائل:
إذا لم يكنْ فيكنّ ظلٌّ ولا جنا**فأبعدكنّ اللُه من شجرات
والرّواية في البيت كما يقول: شيرات بدل شجرات، بإبدال الجيم ياء، كما تبدل الياء جيماً في لغة آخرين، وهي -عجعجة قضاعة-قال الشاعر:
خالي عُويفٌ وأبو عَلجِّ** الــمُطعمان اللّحمَ بالعشجّ
يعني: علي والعشي.
- وقد استطرد الإسحاقي في إيراد بعض لغات العرب الغير الفصيحة «كالوَتــْم» في لغة اليمن التي تجعل السّين تاء، كقولهم «النّات» في «النّاس»، أو قلب التّاء كافا، قال: قال أبو زيد: ومن العرب من يجعل السّين تاء، وأنشد:
يا قبّح الله بني السِّعْلاتِ** عمرو بن يربوعٍ شرار النّاتِ
ليسوا أعفّاء ولا أكياتِ
يعني شرار النّاس، لا أعفاء ولا أكياس، وكقول رجل من حمير في إبدال التاء كافاً:
يا بن الزّبير طالما عصيكــــا** وطالما عنيتنا إليكا
قال ابن جنّي في «سرّ صناعة الإعراب»: أبدل الكاف من التاء لأنها أختها في الهمس، وكان «سيحم» إذا أنشد شعراً جيداً، يقول: أحسنك والله، يريد: أحسنت.
- وهذا الذي وقف عنده وزيرنا الإسحاقي ووقفنا بوقفته، باب واسع في اللغة، وقد تطرّق إلى هذا الباب غير واحد من اللغويين، قال السيوطي في «الاقتراح»: فيما رجحت به لغة قريش على غيرها، “قال الفراء: كانت العرب تحضر الموسم في كلّ عام، وتحجّ البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون جميع لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلّموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، من ذلك : ( الكَشْكَشْة)، وهي في ربيعة ومضر، يجعلون بعد “: (كاف) الخطاب المؤنث ( شيناً)، فيقولون: (رأيتُكِشْ) و(بِكِشْ) و(عَليكِش)، ومن ذلك: ( العنعنة) في لغة قيس وتميم، يجعلون الهمزة المبدوء بها ( عيناً) فيقولون في (أنّك): ( عنّك)، وفي أسلم: ( عَسْلم)، ومن العرب من يجعل ( الكاف) جيماً، كقولهم: ( الجعبة) يريدون: الكعبة. اهـ
- ومن ذلك (الشنشنة) في لغة اليمن، تجعل (الكاف) شيناً مطلقاً، كقولهم: (لبّيشَ اللهم لبّيش)، أي لبّيك، ومنها كشكشة بني أسد الذين يبدلون الكاف شينا، قال ابن فارس في «الصّاحبي»: وأما الكشكشة التي في بني أسد فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً، فيقولون: (عَليْشَ) بمعنى (عَليْكَ)، وينشدون:
فعيناشِ عيناها، وجِيدُشِ جيدها** ولونشِ إلاّ أنّه غير عاطل
ومنها القاف الملحقة باللّهاة، يقول في «الصّاحبي»: فأمّا بنو تميم فإنّهم يلحقون القاف باللهاة حتى تغلظ جداً، فيقولون: (القوم) فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم، قال الشاعر:
ولا أكولُ لكِدْرِ الكَومِ قد نضجت** ولا أكولُ لباب الدّار مكفولُ
- بعد هذه الفذلكة اللغوية نرجع إلى متابعة المسير مع وزيرنا العالم الإسحاقي في رحلته ، وقد تابع الركب المسير إلى أن وصلوا إلى قرية عين ماضي غرب الأغواط بالمغرب الأوسط، وهي القرية التي احتفت بقدوم الأميرة خناثة وحفيدها سيدي محمد بن عبد الله، ” ومن الغد تقاضينا السير أحسن تقاضي، فكان النزول على عين ماضي، وإذا هي دشرة على نشز من الأرض تحفّ بها مهامه فيح، مهابّ للريح، منابت للشيح، وتلقّى أهل القرية المذكورة ولد سيّدنا نصره الله سيدي محمد -أصلحه الله- خارج البلد على نحو أربعة أميال منه، وأظهروا الفرح والسرور، ولعبوا على فرسان لهم مع وصفان سيدنا نصره الله وغيرهم”.
- ومن طريف ما وقع للوزير الإسحاقي بهذه القرية زيارته لفقيهها، وهو الفقيه الذي يبدو أنه لم يكن له من لقبه نصيب، ” فلمّا تلاقينا مع فقيه هذه القرية عين ماضي، فإذا هو قبر من قبور الجهل، لا يفرّق بين المستقبل والماضي، يزعم أنّه يعرف فقه خليل، وأهل قريته يزعمون أنّ نساءهم إذا اغتسلن بالماء من الجنابة أو النّفاس يعقمن ولا يلدن، فهنّ لا يغتسلنّ البتّة، وسألنا الفقيه المذكور عن ذلك، فظهر من كلامه أنّه على ذلك الاعتقاد، واحتجّ بأنّ ذلك من الأعذار المبيحة للتّيمم، فقلنا له: من نصّ لكم على ذلك؟ فقال: نصّ عليه جدّه في حاشية له على خليل، فقلنا له: أرنا ذلك: فتلعثم”، قال الإسحاقي: فلعنّا النّص ومن نصّه، والحاشية ومن حشّاها ومن دسّاها!
يتبع…
د. محمد شابو