1. ختام حديثنا عن رحلات الحجّ المغربية في عصر الدّولة العلويّة، والذي خصّصنا منه حديثاً وافراً عن رحلة الوزير والعالم الفقيه الشّرقي الإسحاقي صحبة السّيدة خناثة بنت بكّار المغافري وحفيدها السلطان سيّدي محمد بن عبد الله، نستفتحه بالحديث عن نزول الرّكب الشريف بينبع، بالمدينة المنوّرة.
2. ويَنْبع كما يقول عنها السّمهودي في «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» “بالفتح ثمّ السّكون الموحدة، وإهمال العين، مضارع نبع الماء، أي ظهر، من نواحي المدينة على أربعة أيام منها، سُميت به لكثرة ينابيعها، قال بعضهم: عددت بها مئة وسبعين عيناً “، ويقول عنها الفيروز آبادي في «المغانم المطابة في معالم طابة»: ” كانت تسكنها الأنصار وجهينة وليث، وهي اليوم لبني حسن بن علي، وفيها عيون غزيرة، وهي قرية غنّاء”.
3. وعُرفت ينبع بكثرة نخيلها وعيونها فسميت بينبع النخل، كما اشتهرت ببعض الحوادث التّاريخية، وسكن الأشراف العلويين بها، يقول عنها الشيخ حمد الجاسر في كتابه عنها «بلاد ينبع: لمحات تاريخية جغرافية وانطباعات خاصّة»: ” يطلق هذا الاسم على ناحية واسعة في الحجاز، غرب المدينة المنوّرة بميل نحو الشّمال، وتبعد عنها بمسافة تقرب من مائة وخمسين كيلاً، ولينبع شهرة كبيرة في التّاريخ في حوادث صدر الإسلام، لوقوعه على طريق القوافل التّجارية بين الحجاز وبين الشّام، فكان وما بقربه من المواضع ميداناً لمناوشات كثيرة بين الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبين قريش وبعض القبائل التي كانت تسكن تلك النّواحي”، وقد أقطع النّبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب بذي العشيرة من ينبع، كما أقطعه عمر رضي الله عنه قطيعة بعدما استخلفه عليها، واشترى منها أيضاً قطيعة، وكانت أمواله رضي الله عنه بينبع عيوناً متفرّقة تصدّق منها، كما يروي السّمهودي.
4. وقد سجّل وزيرنا الإسحاقي انطباعه عن هذه المنطقة المباركة فقال:” ويبنع: بلدٌ مباركٌ، حاز فضل السّبق في كلّ خير، غير مشارك ترتاح له النّفوس، وينضى لرؤيتها لبوس البؤس، لأنّها مطابقة لدار حلّها الحبيب، وربع يدعى فيها الشّوق فيجيب، لو نطقت بقعة لأفصحت بكّل عجيب، منزلٌ غدا للعقول عقالا، ينفر إليه جند الوجد خفافاً وثقالا، تودّ الخدود لو كانت نعالا، هكذا وإلا فلا لا”.
5.ومن المشهور المتواتر أنّ أصل السّادة الأشراف العلويين من هذه المنطقة الشريفة المباركة ينبع، قال اللّجائي في «المفاخر العلية والدّرر السّنية في الدّولة الحسنية العلويّة»: ” قد عُلم أنّ أصل سادتنا الأشراف العلويين من الينبوع، وهي بلدة طيّبة مباركة، وهي أوّل بلد الحجاز للدّاخل وآخرها للخارج”.
6. وعن أوّل من دخل سجلماسة من الأشراف العلويين وسبب دخوله، يقول: ” وأوّل من قدم من اليبنوع لسجلماسة مولانا الحسن بن مولانا القاسم بن سيّدي محمد بن مولانا أبي القاسم، وسببُ قدومه لها هو أنّ ركاب الحجّ المغربية كانت حين تذهب للحجّ تتوارد على الينبوع لزيارة شرفائه، وكانت مدينة سجلماسة هي قاعدة المغرب ذلك الوقت، وكان الأمير على الرّكب هو أبو إبراهيم العمري، القرشيّ الأصل، العمريّ النّسب، -وكان عالماً عاملاً عارفاً زاهداً، كثير النّسك والذّهاب لبيت الله الحرام، وكان رئيساً في سجلماسة ونواحيها- فاجتمع في بعض الأعوام حين حجّ بمولانا الحسن الشّريف بن مولانا قاسم، فزيّن له المغرب وسجلماسة، وكانت بينهما مودّة ومعرفة، فطاوعه مولانا الحسن في القدوم معه لبلاده، فلمّا حجّ الرّكب رجع معهم مولانا الحسن لسجلماسة، وكان دخوله على ما للجمهور سنة : 666هـ، ” بداية الدولة المرينينة.
7. ويدلي الوزير الأسحاقي بدلوه في هذا الشأن فيقول: ” وأنّ جدّهم الأعلى مولاي الحسن بن قاسم، هو القادم من يبنع الحجاز، ومن العجب أنّ هؤلاء السّادة مشابهون للشّرفاء أهل تافيلالت في ألوانهم، جمعتهم سمرة الحجاز، والله لقد رأيت شريفاً منهم لهو أشبه بمولانا السّلطان مولانا إسماعيل رحمه الله لوناً وقداً.
نورُ النّبوة في كريم وجوههم ** يُغني الشّريف عن الطّراز الأخضر
8. ولذلك لما وردت السيّدة خناثة بنت بكار زوج السّلطان الأفخم مولاي إسماعيل لينبع تلقتّها كما يقول أشرافها وأشراف مكّة “شرّفها الله ومعهم ماء زمزم وغيره من بركة مكّة، يتعرّضون لأمير الرّكب ومن يعرفونه من النّاس، وقد تعرّضوا للسّيدة والدة مولانا نصره الله بذلك، فأكرمتهم الإكرام التّام، جزاها الله بالخير.
9. ويكمل الرّكب رحلته مارّاً ببدر الذي نزل فيه الوفد قبل أن يكمل رحلته إلى مكّة المكرمة:
أتينا إلى البدر المنير محمّد ** نجدّ السُّرى حتى نزلنا على بــــــــــــــــــــــــــــــدر
فهذا بديعٌ ليس في اللّفظ حسنه** وهذا جناسٌ ليس في النظم والنثر
10. كان يوم الخميس 9 ذي الحجّة من سنة 1143هـ، هو يوم الوقوف بعرفة، وقد اجتمع في هذا اليوم من الرّكاب الآتية من سائر الآفاق، ومن البشر جمع لا يحصي عدّه إلاّ الله عزّ وجلّ، وعن هذا المشهد الإيماني يقول الإسحاقي: “ولـمّا جمع النّاس بين الظّهر والعصر للوقوف، خاشعين باكين، وإلى الله عزّ وجلّ في الرّحمة متضرّعين، والتّكبير قد علا، وضجيج النّاس بالدّعاء قد ارتفع، فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوب خواشع، ولا أعناق لهيبة الله خوانع خواضع من ذلك اليوم، فما زال النّاس على تلك الحال والشّمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكّن وقت المغرب، فأشار الإمام الخطيب بيديه ونزل عن موقفه، فدفع النّاس بالنّفر دفعاً ارتّجت له الأرض ورجفت الجبال، فياله موقفاً ما أهول مرآه، وأرجى في النّفوس عقباه، جعلنا الله مّمن خصّه فيه برضاه، وتغمّده بنعماه، إنّه منعم كريمٌ حنّان منّان”.
11. أمّا السّيدة خناثة فقد لخّص إمام المقام الخليلي الشّيخ محمّد الطّبري الحسيني في رسالة له أعمالها في هذه الأيام المباركة فقال:” لـمّا كانت سنة ألف ومائة وثلاثة وأربعين، حجّت إلى بيت الله الحرام ثمرة الشيوخ المعتبرين المنتخبين من أكرم سلالة، وأفلاذ أكباد العلماء المتغدّين بلباب الجلالة، مغارس طابت في ربى المجد، فألقت على الخلف معدن السّؤدد وكيمياء السّعادة، وعنصر الحمد مفرق السيادة، الملكة اخناتة بنت المرحوم الشيّخ بكّار المغفري، زوج السّلطان مولاي إسماعيل، أعلى الله مقامه في الجنان، ورفع لهذه الملكة أعلام السّيادة تتلى على مرّ الزّمان، دخلت إلى ليلة السّادس بعد العشاء إلى مكّة المشرفة، وعليها السكينة مرفرفة راكبة في عجلها، وهي في جلالة عظيمة وسيادة فخيمة، في محفل من الأجناد ومحفل من الأجواد، ولهم زجلٌ بالتلبية، ووغير بالتّسبيح والتّقديس والأدعية”.
12. ثم إنّها طلعت إلى عرفة ولهم دويّ بالتسبيح والتّقديس، وكانت الوقفة بالخميس، ثمّ نزلت إلى منى فأقامت ثلاثة أيام، وأكثرت من الهدي وبذلت الشّراب والطّعام، ثمّ نفرت إلى مكّة وجاءت بعمرة الإسلام، وفي مدّة إقامتها بمكة تنزل في جنح الظّلام وتطوف بالبيت الحرام، وتكثر من الصّدقات على الدّوام، ولـمّا فتحت الكعبة دخلتها وأعطت وأفضلت خدمتها، ومدّة إقامتها بمكّة المعظّمة سارت بسيرة مكرّمة إلى وقت مدّة ليالها والأيام، وانقضت بسلام، رحلت إلى دار مملكتها والكلّ إلى صنيعها شاكر، ولها في كلّ حين ذاكر، الله يحملها بالسّلامة، ويسلّمها من الآفات ويجعلها من النّاجين يوم القيامة، ولعلمي بهذه السّيدة إنها كآبائها الكرام إلى المدح ترتاح، دوّنت لها هذه الأبيات الملاح، وأرجو منها القبول وعلى التّقصير السّماح:
غنّى على عود السّعود هزارٌ** وشذا على الأوتار بالأوطار
والأنسُ طاب وطابتْ أوقات الهنا** بسلامة الحجاج والزّوار
لا سيّما بسلامة السّت التي ** حظيت ببيت الله والأستار
فلها المنى بطيب من قد جاورت**والأكرمون يرون حقّ الجار
د. محمد شابو