1.من أبرز الشّخصيات الفكرية المشرقية المعاصرة التي كانت وفيّة للتراث الفكري المغربي وشغفت به، وأسهمت في بثه ونشره، عضو أكاديمية المملكة المغربية، وعلاّمة الجزيرة العربية: الشيخ حمد الجاسر (1328- 1421هـ/1910-2000م).
- تعرّفتُ على هذا العَلَم الكبير في المراحل الأولى من حياتي، وأنا دون السابعة عشر من عمري؛ أتذكر يومها كيف كنت أتسابق غرّة كلّ شهر عربي، لاقتناء العدد الجديد من «المجلة العربية»، وهي المجلة التي كان علاّمتنا يداوم فيها على كتابة «سوانح الذكريات» لمدّة ناهزت التسعة عشر عاماً.
- اشتهر الشيخ “بجغرافيّ الجزيرة العربية، ومؤرخها، ونسّابتها، ومن قمم المشتغلين بالتراث العربي”، وفي سبيل هذا التراث يقول أحدُ بَلديّيه: “تحمّل المصاعب والمشاقّ، فشرّق وغرّب، وكانت مهابطه ومحطّاته: المكتبات، فمضى من مكتبة إلى مكتبة، من مكتبة “الحرم في مكة”، إلى مكتبة “حكمت عارف” في المدينة المنورة، إلى “دار الكتب” في القاهرة، إلى مكتبة “السليمانية” في استانبول، إلى “مكتبة الإسكوريال” في إسبانيا، إلى مكتبة “ابن يوسف” في مراكش.
4.زار الشيخ حمد الجاسر المغرب لأوّل مرة سنة: ( 1385ه /1965م ) ممثّلاً لصحافة بلاده في معرض الصّحافة العربية الذي أقامته منظمة اليونسكو في مدينة الرباط، وهي المناسبة التي تعرّف فيها عن قرب على النّشاط الفكري والثّقافي بالمغرب، فكتب قائلاً: “الحديث هنا ما هو إلا إشارة موجزة إلى بعض الجوانب الثقافية في بلاد المغرب، ولقد كان لذلك القطر الحبيب فضل السّبق فيها، في بعض تلك الجوانب بالنسبة لبلادنا، فلقد عُني ذلك القطر بصيانة تراثه عناية كان من أثرها طبعُ عدد كبير من المؤلفات المتعلقة بذلك القطر في الأدب أو الجغرافيا أو التاريخ أو غيره من مختلف النواحي الفكرية”.
5.اغتنم هذه الفرصة ليعرّف بالمعالم الفكرية للمغرب، وعلى رأسها من دون شكّ صرح القرويين ” كأقدم جامعة في العالم كان لها الأثر الكبير في حفظ التراث الإسلامي، وفي نشر تعاليم الدّين الحنيف في القارّة الإفريقية وما يجاورها، بل تعدّاها إلى مختلف الأقطار الإسلامية الأخرى”. ولم يغفل الإشارة إلى المهرجان الثقافي الكبير الذي أقيم في مدينة فاس سنة:( 1960م) بمناسبة الذّكرى المائة بعد الألف لتأسيس جامع القرويين، وهي المناسبة التي أبدع فيها خير الدين الزِّركلي قصيدته الطنانة:
مِن سَفح (أجْيادَ) ومن (يَثْرب)** تحيّة المـشرق للمَغــــــــــــــــــــــــــــــــــــربِ
عُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلويّةُ النّفـــــحة قدسيّـــــــةٌ ** مِن طَيِّبٍ تُهدى إلى طَيِّـــــــــــــــــبِ
(القـــــــــــــــــــــــــرويين) التي نحتفــــــــــــــــــــــــــــي** بيومها الخـــــــــــــالد في الأَحقُبِ
ليست بذكـــــــــــــــــــرى أو بأسْطُــــــورةٍ ** نحنُ أمام الهَيـــــْــــكل الأعْجـــــــــبِ
- علاوة على هذا التعريف والإشادة بمعلمة القرويين حاضنة الفكر المغربي؛ فقد ربط الشيخ حمد الجاسر أوثق
الصّلات وأصدقها مع نخبة هذا الفكر من مجايليه، ودبّج في حقهم أرقى العبارات، وصاغ في شأنهم جميل التحليات؛ فعبد الله كنون: “العالمُ العربيّ الكبير”، ومحمد بن تاويت الطَّنجي: “من أفاضل العلماء، وأوسعهم خبرة بالمخطوطات العربية، ومن أعمقهم وأدقهم في تحقيق المخطوطات”، وعبد العزيز بنعبد الله: “شعلة عمل متّقدة بكثرة أبحاثه اللغوية”، وعبد الكريم غلاب: “من خيرة الكُتّاب، والكاتب المتّزن، الغيور على أمّته ووطنه”، ومحمد الفاسي: “العلاّمة الكبير، ذو اطلاع واسع، ومعرفة تامّة بالكتب عن الرّحلات في البلاد العربية”.
- 7. اهتبل الشيخ حمد الجاسر بمصنّفات الرّحلة الحجازية المغربية ومخطوطاتها اهتبالاً عظيماً، وخصّص معظم وقته في البحث والتنقيب عن نوادرها، وبالأخصّ في زيارته الثانية للمغرب سنة:( 1392 ه/ 1972م) ، فلازم الخزانة العامة (المكتبة الوطنية) ، بحثاً وتفتيشاً؛ يقول : “وقد تيسّر لي تصوير جانب كبير ممّا أحتاج إليه من الرّحلات التي اطّلعتُ عليها في تلك الخزانة، وإنّي لأذكر شاكراً فضل الصديق الكريم الأستاذ الجليل محمد إبراهيم الكتاني، فقد كان لي خير عون للحصول على ما أريد”.
8.ينطلق الشيخ حمد الجاسر في هذا الاهتمام بالنّص الرّحلي الحجازي المغربي من فكرة مفادها: ” أنّ علماء المغرب بزّوا المشارقة في هذا الفن”. ويقول: “إننا لا نعرف من رحلات متقدّمي المشارقة سوى عدد قليل”؛ بخلاف المغاربة “الذين لهم عشرات الكتب المؤلفة في وصف رحلاتهم إلى الشرق وإلى غيره، مما لا يزال الباحثون عندنا يجهلون الكثير منها”.
- وقد عرّف بكثير من كتب الرّحلات الحجازية المغربية في حلقات متسلسلة في مجلته: «العرب» الذائعة الصّيت، ونشر ملخصات بعض منها في كتب مستقلة، ومن أبرز ما عرّف به من الرحلات:
– رحلة الوزير الشرقي الإسحاقي إلى الحج سنة : (1143هـ/ 1730م) مع ربّة الفخار، والمجد المؤثّل : الأميرة خناثة بنت بكار، زوجة السلطان المولى إسماعيل، وحفيدها المولى محمد بن عبد الله بن إسماعيل “.
– رحلة « ماء الموائد » للإمام أبي سالم العياشي، وهي الرحلة التي نشرها سنة:( 1984م) ، بعنوان : « مقتطفات من رحلة العياشي «.
– رحلتي ابن عبد السلام الناصري الكبرى والصغرى، وقد نشرها سنة 🙁 1982م) بعنوان : « ملخص رحلتي ابن عبد السلام الدّرعي المغربيّ «.
- دبّج مقدمة هاته الرحلة قائلاً: “وهنا جانبٌ عظيمُ الأهمية في تاريخ نشر الثقافة الإسلامية وحفظها، لم أر أحداً من الباحثين تعرض له؛ وهو أنّ جزءا مهمّاً من تراثنا لم نعرفه ولم يصل إلينا إلا بطريق علماء المغرب، فقد قاموا بنقله إلى بلادهم بعد تلقّيه أثناء قدومهم إلى مكة، وتولّوا حفظه بالرّواية والنّقل، واستفادوا منه، ثم عاد إلينا بطريق ما خلّفوه من تراث ثقافي ضخم”.
- هذه الشهادة من هذا العالِم الموسوعي والمؤرخ المُطّلع؛ مدعاة إلى بذل المزيد من الجهود في إخراج تراثنا الفكري المغربي المدفون، وتَولية هِممنا شَطره بحثاً وتحقيقاً ونشراً.
زَمْزمٌ فينا ولكن أيْن مَن ** يُقنع الدّنيا بجدوى زَمزمِ.
د. محمد شابو