- ونحن في سياق إحياء ذكر مشاهير البيت الحجّي، لا يمكننا إغفال ذكر شخصيّة فكريّة من مشاهير هذا البيت الكريم، قدّمت للفكر المغربيّ الكثير من جهدها، وعصارة فكرها، رغم قصر عمرها، واختطاف المنون لها في زهرة شبابها، إنّها شخصيّة الكاتب سعيد حجّي، رائد الصّحافة الوطنية المغربية [1330 هـ-1912م / 1361هـ 1942م].
- سعيد بن أحمد حجّي، ابن عمّ علاّمتنا محمّد حجّي، ومن أبرز الشّباب المغربيّ الوطني الذين عملوا على مقاومة المدّ الاستعماري بقلمهم، يقول عنه العلاّمة المرحوم عبد الله الجراري في «أعلام الفكر المعاصر»: ” كان سعيد من الشبّاب اليقظ الواعي، والمتّقد حيوية وحماساً، للبناء وإحياء الأمجاد، وإرجاع المكانة والسّيادة، ومن الرّعيل الأول في صفوف الكتلة الوطنية التي كانت تعمل بطموح، رحل إلى الشّرق العربيّ فدرس بكليتي القاهرة وسوريا على عدّة شيوخ، اتّجهت همّته لتعاطي مهنة الصّحافة، وناهيك بها لمن يصدقُ فيها”.
- اعتمد على نفسه في تكوينه وتعميق معلوماته، كما يقول عنه شخصيّة حديثنا، “مهتماً بالصّحافة؛ يريد أن يكون صحفيّاً وكاتباً يهتمّ بأحوال أمّته ووطنه، أصدر وهو ابن خمس عشرة سنة جريدة «الوداد الخطّية»، وكتب في الجرائد الوطنية الأولى «الحياة»، لعبد الخالق الطّريس، و«عمل الشّعب» لمحمّد حسن الوزّاني، و«السّلام» لمحمّد داود، و«المغرب»، لمحمّد الصّالح ميسة”، وبعد رفض طلباته المتكرّرة من طرف سلطات الحماية لإنشاء جريدة وطنية، وبعد احتجاجات من طرف كتلة العمل الوطني، سُمح له في الأخير بإنشاء «جريدة المغرب» سنة:1357هـ-1937م.
- كانت المشاكل الوطنية تستأثر بافتتاحيته، كما أصدر ملحقاً ثقافياً للجريدة، اعتبرت نواة للمجلة التي سيصدرها بعد ذلك باسم «الثّقافة المغربيّة»، وهما الإصداران اللذان يعتبران ” من المراجع الثّقافية الهامّة في المجال الثقافي الحضاري الحديث”، كما يقول عنه ذلك أبو بكر القادري. إلاّ أنّ هذا الجهد الثّقافي الوطني سرعان ما ستوقفه يد المنون، فقد أصيب سعيد حجّي بمرض مفاجئ، توفي على إثره وهو في ريعان شبابه لم يجاوز الثلاثين من عمره، إلاّ بأيام معدودات، وذلك يوم الاثنين (13 صفر عام 1361هـ، 2 مارس 1942م)، ولعلّنا نخصّص مقالة علميّة عن سيرته وكتاباته الفكرية والإصلاحية بحول الله.
- بعد هذه الأرضية المخضرة بأعلام البيت الحجّي، نشرع في تفصيل الحديث عن شخصيّة حديثنا محمّد حجيّ، فقد كان يوم: (13جمادى الثانية عام: 1341هـ، الموافق ل 31 يناير من سنة: 1923) هو اليوم الذي سترى فيه شخصّيتنا النّور، وسيتربّى في بيئة صالحة صوفية تشرق بنور ربّها، وتستمدّ نفحاتها من أولياء وصلحاء بيتها، وسيظهر أثر هذه النّشأة الصوفية جلياً من خلال آثاره ومآثره.
- الكثيرُ منّا عندما يقرأ لمحمد حجّي يخال بأنّ الرّجل هو مؤرخ أو باحث في التّاريخ فحسب، أو صاحب إنتاج فكري تاريخي ثرّ تتصدّره أطروحة «الحركة الفكرية في عهد السعديين»، والتي توّجته دكتوراً بجامعة السّربون؛ لكن؛ ما يجهله-ربما الكثير منّا-هو أنّ شخصيتنا شخصية علمية أصيلة بالدّرجة الأولى، نعم؛ فقد حفظ القرآن الكريم وأتقنه وجوّده في المراحل الأولى من حياته، وتلقّى تعليماً أصيلاً عتيقاً متيناً بزوايا ومساجد سلا ومدارسها الحرّة على جلّة شيوخها وكبار علمائها، ولسنين عدداً، وكان لمشيخته الأثر الأكبر في تكوينه، جعلت منه شخصيّة مغربيّة عالمة، وقد أكد هذه المسيرة العلمية لمحمّد حجّي الفقيه العلّامة عبد الله الجراري في: «التّأليف ونهضته بالمغرب» بقوله: ” أبو عبد الله حجّي من علماء سلا ومثقفيهم الذين درسوا أوّلاً على الطريقة العتيقة من الكتّاب القرآني على جماعة من المؤدّبين : السّادة الجيلاني البخاري، وآمحمد بو شعرة وعلي الجبلي- إلى حلقات العلم حيث أخذ مبادئ العربيّة والدّين على طائفة من علماء العدوتين”.
- وقد دفعنا الفضول العلمي لتتبّع هذه المشيخة واحداً واحداً، والوقوف على مظانّ تراجمهم، بغية رصد ملامح التكوين الفكري والعلمي لمحمّد حجّي من خلال مشيخته، نخصّ بالحديث أبرزهم، فمنهم: زين العابدين بن الشيّخ الصّوفي محمّد بن عبد السّلام ابن عبود: [1312هـ 1894م/ 1390هـ1970م]، عمدة شخصيّتنا، قال عنه ابن سودة في «سلّ النّصال»: ” الشيخ الجليل، العلاّمة المشارك، الحافظ المستبحر، الواعية المطّلع، المرشد إلى الدّين الصحيح بقوله وعمله، كان كثير التّدريس والإفادة، يدرس التفسير والحديث، فقد ختم تفسير القرآن الكريم عدّة مرات في عدّة مساجد”، ومن جهوده الفكرية والوطنية تأسيسه لمدرسة حرّة درس فيها نجباء الطلبة، وعلى رأسهم محمّد حجّي لمدّة تقرب من خمس سنوات ( 1354هـ1935م/ 1939م).
- وهو الذي يقول عن تجربة دراسته عليه، وعن أسماء المصنفات والكتب التي ختمها بين يديه: ” شيخي ومعتمدي، لازمت دروسه نحو خمس سنوات، ليل نهار، فكنت أدرس عليه نهاراً في مدرسته الحرّة، ومساءً تفسير القرآن الكريم في المسجد الأعظم، أو جامع مولاي سليمان بالرّباط، كان آيةً من آيات الله في الفهم والتّفهيم، يُقلّب وجوه النّظر في المسائل العويصة فلا يلبث أن يهتدي للصّواب، ومن الكتب التي ختمناها عليه في المدرسة: الآجروميّة، والألفية، ولامية الأفعال، والجمل، ورسالة القيرواني أكثر من مرّة، كما ختمنا عليه خزائن الأدب، لابن حجّة الحموي، وقاربنا ختم المختصر الخليلي، والفروق للقرافي، وختمنا تفسير القرآن أكثر من مرّة في عدّة مساجد” وقد كان منهجه في التّفسير كما يوضح ذلك الجراري في «أعلام الفكر المعاصر»: أنّه كان كثيراً ما يدرّس التّفسير ويسلك فيه طريقة الرّازي في تفسيره، بل أحياناً يأتي بفذلكة الرّازي نفسها”.
- ومنهم: العلاّمة الشّهير محمّد بن الطّيب الصبيحي: [1299هـ1882م/ 1389هـ1969م]، قال عنه ابن سودة في «إتحاف المطالع»: “العلاّمة الفلكي الميقاتي”، وعنه: في «سلّ النصال»: العلاّمة المشارك المطّلع الموقت، المنجّم، المعدّل، الحيسوبّي، المدرّس”، وقد درس عليه محمّد حجّي علوم الفلك والحساب والجبر والتّوقيت، وعلوماً فقهية، يقول: ” ولم يكن ينقطع طوال هذه الحقبة عن التّدريس بمنزله بعد صلاة الصّبح إلى صلاة الضّحى، وقد لازمت هذه الدّروس مع خالي محمد العوني تارة، وصديقي عبد الرحمان ابن عبد النّبي تارة أخرى، نحو خمس سنوات، قرأنا أثناءها الحساب والجبر والمقابلة بكتاب القلصادي، ختمناه أكثر من مرّة، والتوقيت بكتب الشيخ محمد العلمي المطبوعة على الحجر بفاس، والفلك بكتاب «المناهج الحميدة في حساب النتائج السّنويّة» لعبد الحميد مرسي غيث الفلكي المصري، ختمناه كذلك أكثر من مرّة، ورصدنا ما حدث خلال ذلك من كسوف الشمس وخسوف القمر، كما قرأنا عليه القوانين الفقهية لابن جُزيّ، وكتاب الفقه على المذاهب الأربعة”.
- وقد كانت له مكتبة شهيرة، اتّخذ أرضاً حبّسها عليها، يقول ابن سودة: ” فجاءت متقنة الصّنع، بلغني أنه صيّر على بنائها دون ثمن الأرض أكثر من ثلاثين مليون فرنك، وجعل قربها متصّلاً بها، محلاًّ يكون ريعه للقيّم عليها، كم علماء حصّلوا على أموال كثيرة في حياتهم، وما أُلهموا لفعل ذلك، وضاعت أموالهم، وتبّدّدت بدون طائل بعد وفاتهم، والأمر لله.
- ومن مشيخة المرحوم الأستاذ محمّد حجّي، العلاّمة محمّد المدني بن الحسني، [1307هـ1889م/ 1378هـ1959م]، يقول الفقيه محمّد المنوني: ” بنو الحسني علميون، يرجعون للسّيد الشّريف المولى عبد السّلام ابن مشيش، ويعود استيطانهم بالرّباط إلى القرن الثالث عشر للهجرة”، كان نابغة العصر وواعيته، كما يقول عنه الجراري، ” وكان ذا مشاركة واسعة، فقهاً وحديثاً ولساناً وأدباً، فكنت تراه أثناء دروسه الفقهية يحلّل مسائله ونوازله، ويتعمّق القضايا حتّى الوصول إلى كنهها، إنّ محمّد المدني ابن الحسني، كان آية تفتخر به المعرفة، بل يفتخر به المغرب على باقي الأقطار الأخرى”، كانت له رحلات شهيرة، ومنها رحلته إلى طنجة قيّدها في تأليف بعنوان: « حدائق البهجة في الرّحلة إلى طنجة».
- يقول محمّد حجّي في شأن تتلمذه عليه وعن دروسه:” هي دروس عالية في غاية الإمتاع والإفادة، معدّل الدرس ساعتان، يلقيها في ضريح أبي المواهب ابن السّائح أو الجامع الكبير بالرّباط، ومثلها في المتعة والطول دروسه في الأصول والنّحو والبلاغة والفقه والسّيرة، حضرتُ جملة منها لبضع سنوات، فأدركتُ بالمشاهدة والمشاركة ما كنت أقرأ عن حفّاظ الإسلام أمثال الذّهبي وابن حجر والسّيوطي”.
يتبع…
د. محمد شابو