- لا يمكن أن نختم حديثنا عن الجهود الفكريّة لعلاّمتنا محمّد حجّي من دون الوقوف على أعظم جهد فكريّ وعلميّ بذله في سبيل تراث الفكر المغربيّ على مستوى البحث والجمع والتوثيق والنشر، ولعلّ أعظم مشروع فكريّ وحلم وطنيّ تجشّم له علامتنا وناضل النّضال الحقيقيّ من أجل تحقيقه وتنفيذه؛ سعيه في تأليف دائرة معارف مغربية شاملة تتعلّق بالمغرب، يطلق عليه اسم «معلمة المغرب».
- معلمة المغرب، ما معلمة المغرب؟ موسوعة ألفبائية بحجم المعارف المتنوّعة حول المغرب في حدوده الحالية كما يقول الدكتور أحمد التّوفيق «وهو مشروع من صنف المشاريع التي تترجم الوعي بمرحلة تاريخية في حياة الثّقافة ببلد معيّن، ومن حجم المشاريع التي لا تتولاّها إلاّ الهيئات ذات العدّة والعدد، ولا يتصوّر أن ينوء بمسؤولية إنجازه فرداً أعزل إلاّ صاحب حال يرى المرمى قريباً من حيث يراه غيره بعيداً».
- أمّا العلَم صاحب المعلمة فيزيدنا إيضاحاً في تعريفها ويقول:” معلمة المغرب، موسوعة ألف بائية تهتمّ بكلّ ما يتعلّق بالمغرب الأقصى من طبيعة الأرض والتّضاريس، والثّروات المعدنيّة والغابوية والنّباتية والحيوانية، والسّكان والعمران، والأنشطة الإنتاجية الكبرى، والتّاريخ والتّفاعل مع العالم، والمؤسّسات والنّظم الحضارية في الماضي والحاضر، السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثّقافية، والتّيارات والمذاهب والعلوم والمهارات الكبرى”.
- إعداد موسوعة بحجم هاته الموضوعات لبلد بحجم المغرب، وما أدراك ما المغرب؟ ممّا تنوء بحمله الأكاديميات والمراكز البحثية الكبرى، فما بالكم بفرد حوله أفراد قليلون لم تجمعهم إلاّ الرغبة والطّموح في أن يروا معلمة مغربية جامعة لشتات المعارف، رغم ما كان يتناهى إلى سمعهم من تلكم المحاولات السابقة في إعداد موسوعة مغربية كهاته ولكن كان مصيرها الفشل، سواء تلك التي ترأسها الزّعيم المرحوم علاّل الفاسي، أو تلك التي تزّعمها الزّعيم المرحوم عبد الخالق الطّريس بشمال المغرب.
- ففيما يخصّ المشروع الذي ترأسّه علال الفاسي فهو ذاك الذي انضوى تحت ما سمّي حينها «بهيئة موسوعة المغرب العربي»، وقد هدفت هذه الهيئة إلى كتابة موسوعة مغاربية، يقوم أعضاء دول المغرب العربي بإعداد معلمته المحلية بوسائله الخاصّة على أن تُجمع في مرحلة لاحقة معلمة واحدة لبلاد المغرب العربي في أفق إصدار موسوعة عربية مغاربية إسلامية شاملة، إلاّ أنّ هذا المشروع تعثّر وهو لا يزال في خطواته الأولى.
6.وأمّا فيما يخصّ مشروع الزعيم عبد الخالق الطّريس فيقول عنه علاّمتنا محمّد حجّي في سياق حديثه عن الجهود السابقة التي لم يكتب لها النّجاح: ” وهناك محاولة أخرى سابقة في الشّمال لمشروع موسوعة مغربية كشف عنها النّقاب ونشر الوثائق المتعلّقة بها الأستاذ محمّد ابن عزّوز حكيم في مجلته الوثائق الوطنية ، تثبت أنّ المرحوم عبد الخالق الطّريس في أوّل جلسة للهيئة الوطنية المكلّفة بوضع النّظام الأساسيّ لحزب الإصلاح بتطوان يوم 16 يناير 1933 أثار قضيّة معلمة المغرب، واقترح بإلحاح إدراجها ضمن غايات الحزب المزمع تأسيسه فعارضه بعض الحضور ولم تدرج، ولمـّا عين مديراً عامّا للأوقاف بالشّمال سنة 1934م، أحدث باباً في ميزانية الأوقاف سنة 1935م خصّصه لوضع معلمة المغرب باللّغة العربيّة، لكن المقيم العام الإسباني رفض، ثمّ حاول الطّريس مرة أخرى سنة 1943م مع مدير معهد الجنرال فرانكو بتطوان لكن بدون جدوى”.
- كان مشروع المعلمة مشروعاً وطنيّا إذاً، تنافس في إعداده قادة الأحزاب الوطنيّة خلال عهد الحماية والذين كانوا يتهمّمون بالشّأن الفكري والثّقافي لبلدهم لمواجهة المدّ الاستعماري، وهم وإن كانوا بذلك نالوا شرف المحاولة فإنّ نجاح هذا المشروع الضّخم لم يكتب له النّجاح إلاّ على يد علاّمتنا محمّد حجّي والنّخبة العلمية التي جمعها حوله ودبّر أعمالها بحكمة بالغة، فتمّ إنجاز هذا المشروع من قبل الجمعية المغربية للتّأليف والتّرجمة منذ تأسيسها سنة 1980م، رغم الإكراهات والصعوبات المختلفة التي واكبته والتحدّيات الكبرى التي واجهته.
- يقول محمّد حجي: “تبّنت الجمعية فكرة إصدار معلمة المغرب كنقطة ثالثة في برنامج عملها بعد مجلّة الكتاب المغربي والمنشورات الجامعية، كانت الانطلاقة من الصفر وبخطى وئيدة، ذلك أنّه بعد تكوين ثلاث لجن علميّة، الأولى للعلوم الإنسانية، والثّانية للعلوم الدقيقة والجغرافيا، والثالثة للتّحرير، فكّرنا وقدّرنا ضخامة المشروع وضآلة إمكانيتنا فرأينا أن نحدّ من طموح التّوسع العلميّ، ولو أنّه مشروع طبعاً، ونتقيّد بما لا بدّ منه ممّا يمكن تحقيقه وإنجازه، اتّفقنا على أن تقتصر المعلمة من حيث المجال على المغرب الأقصى في حدوده الحالية، لكنّها من حيث الزّمان، تنطلق من عصر ما قبل التاريخ إلى اليوم لتشمل كلّ ما يتعلّق بهذه المنطقة جغرافيّاً وتاريخيّاً وحضاريّاً”.
- لم يكن هذا المشروع الفكريّ المغربيّ الحضاريّ بالمشروع السّهل، فقد تعاورته عدّة عقبات موضوعيّة وأخرى شخصيّة، فمن عقباته الموضوعية: ما أشار إليه الدّكتور أحمد التوفيق وهو الذي خاض مع علاّمتنا محمد حجّي غمار هذا المشروع الوطني الكبير وشهد مخاضه وولادته: ” مضى الأستاذ في تحضير المعلمة يؤازره في الغالب على سبيل التجريب والمجاراة جماعة من الباحثين في الآداب والعلوم الإنسانية والجغرافية وعلوم الطبيعة، وامتدّت الجلسات التّحضيرية على أكثر من عامين استقرّ فيها الرأي على أنّ المعلمة ستتخذ صيغة المعجم الألفبائي، وهو أصعب الاختيارات حيث يفرض الصّرامة في الترتيب، والترتيب يتوقّف على الجرد، والجرد لا يتأتى إلاّ بالرّجوع الفاحص إلى مصادر تاريخ المغرب وجغرافيته وثقافته بمعناها الواسع، فيها الأعجميّ وفيها العربيّ الفصيح، والعربيّ العامي، فكان لزاماً أن تُتّبع قواعد وتُسنّ سنن تراعي على امتداد الكتاب كلّه، وكان التّقدير للكتاب أن يكون في عشرين مجلداً “.
10.أمّا العقبات الشّخصيّة فليس أقلّها لملمة العشرات والعشرات من الأساتذة والباحثين والمختصّين من مختلف المدن المغربيّة ومراسلتهم وتعريفهم بالمشروع وأهميّته وإقناعهم بالمشاركة في تحرير موادّه ومتابعة أعمالهم تصحيحاً وتحكيماً، في وقت لم تكن فيه وسائل التواصل قد وصلت ولا خيّمت بمختلف برامجها وتقنياتها على فضاءاتنا المتنوعة، ومع ذلك ورغم ذلك؛ فقد استطاع علاّمتنا محمّد حجّي أن ينجح في هذا المشروع الضّخم ويرسي به في برّ الأمان، فقط لأنّه آمن به فجسّده عملاً، وما أكثر تلك الأعمال البحثيّة والمشاريع العلمية التي ما عثّرها وحال دون تنفيذها إلاّ عدم الإيمان بها.
- يقول الدّكتور أحمد التوفيق: ” إنّ معاشرتي الطويلة للفقيد الأستاذ محمّد حجّي تدفعني لأن أقدّم شهادة عمّا لاحظته في شخصه العزيز عن كثب: اعتباره العمل مظهراً قاعديا للإيمان كعقيدة وسلوك، وهيكلاً لكلّ التفاعلات الوجوديّة، يعتمده أساساً في كلّ إنجازاته ومنه يستقي طاقاته التي لا تنفذ، طاقاته المتميّزة عطاءً وعلما ًومعرفةً وسلوكاً، وإنّ تداخل المفهوم لديه رحمه الله (مفهوم العمل ومفهوم الإيمان) يفسّر انغماره الكليّ في البحث والتأليف والنّشر بصوفيّة وجهاد كبير، وبسمّو أخلاقي ورصانة علميّة يعزّ نظيرها”.
- السّمو الأخلاقي والقدوة الحسنة والرّصانة العلمية عوامل تنضاف للإيمان بالعمل لضمان نجاحه، ولذلك ربط الأستاذ المرحوم أبو بكر القادري نجاح مشروع المعلمة بالقدوة البحثية الحسنة التي قدّمها علاّمتنا، فأخلاقه سامية، فهو لا يلقاك إلاّ مبتسماً، حريصاً على أن يتعاون مع الجميع في مجال البحث والعلم، كان رجل علم، ورجل أخلاق، هادئ الطّبع، منظّماً في أعماله، محافظاً أشدّ المحافظة على أوقاته.
- وقضيّة نجاح المعلمة كما يقول: “لا ترجع إلى جمع المعلومات المتناثرة هنا وهناك باللّغة العربيّة أو غيرها، أو إلى البحث الجادّ عن المراجع التي جمعتها، ولكن الأمر الذي يزيد الرّجل كثيراً من التّقدير، وكثيراً من الاعتراف الجميل، هو استطاعته أن يلفّ حوله وبجانبه فئة صادقة صالحة من الأساتذة الباحثين الذين لا يبخلون بعلمهم، ولا يتأخرون عن أداء واجبهم والذين وفقّه الله فاستطاع أن يلفّهم حوله، نظراً لأخلاقه السّامية، وتعامله الطّيب”.
د. محمد شابو