1.من المسلّم أنّ موضوع الفكر المغربي بأبعاده المختلفة وقضاياه المتعدّدة، ومنه قضايا الإصلاح على وجه الخصوص يعتبر من بين المواضيع الفكرية استئثاراً واهتماماً بالبحث والدّراسة في مغرب العصر الحديث، وذلك بالموازاة مع دعوات التجديد والنهضة الفكرية التي نادى بها أعلام من المشرق والمغرب في القرنين الأخيرين.
2.يرجع سبب هذه الدّعوات المنادية بضرورة الإصلاح إلى ما عرفته الدّول المسلمة في قرونها المتأخرة من نكوص وتقهقر، وما لحقها من ركود وتخلّف أبطأ عجلة التنمية والتّقدم فيها إن لم يكن عطّلها بالمرة. وإذا تساءلنا كما تساءل قبلنا شكيب أرسلان «لماذا تأخرّ المسلمون وتقدّم غيرهم؟» فسنجد ذلك مرجعه إلى أسباب، وهذه الأسباب منها ما هو داخلي كالتعصب والجمود والتقليد في مختلف تجليّاته، ومنها ما هو خارجي، ومن مظاهره ما عرفه العالم الإسلامي والعربي من الاستعمار لبلدانه والاستيلاء على موارده وخيراته والاستلاب لهويّته وثقافته، فقد كان الاستعمار كما يقول عضو أكاديمية المملكة المغربية الأستاذ الكبير محمد الكتاني في كتابه: «في الفكر الإسلامي الحديث قضايا وتساؤلات» بمثابة زلزال هزّ ديار الإسلام، إذ أظهر مدى عمق الهوّة بين عالمين، أحدهما في تقدّم ونفوذ متصاعدين، والآخر في تبعية مذلة.
3. حينها “أخذت النخب في مجتمعاتنا الإسلامية تسائل نفسها، وفي طليعتها المفكرون الذين اطلعوا على ثقافة الغرب وحضارته، أين موطن الخلل الذي عطّل الآلة الإسلامية، فتوقّفت عن إيجاد المجتمع القويّ على نحو ما عرفه تاريخ الإسلام في عصوره الأولى وأدّى بالمسلمين إلى هذه الأوضاع المهينة التي يعيشونها؟، ولم يكتفوا بالمساءلة التي توسعوا في الإجابة عنها، وإنما حاولوا القيام بمهمة التجديد والإصلاح، باعتبارهما المنهج المطلوب لاستعادة الإسلام لقوته، وهكذا عرف عصر الانبعاث منذ أخريات القرن التاسع عشر، في عامة البلدان الإسلامية مشرقاً ومغرباً، ظهور دعوات التّجديد بصورة مكثفة، آخذاً بعضها برقاب البعض، في سلسلة متداخلة والحلقات”.
4.ولم تكن الساحة الفكرية بالمغرب خلوا من مثل هذه الدعوات التجديدية، والآراء الإصلاحية، فلقد شهدت هذه الفترة المهمة من تاريخ المغرب المعاصر كمّاً هائلاً من الإنتاجات العلمية النّهضوية، وتراثاً زاخراً من المتون والمصنّفات ذات الصبغة الإصلاحية، وحرّك الوعي الإصلاحي بعض النّخب العالمة والسّياسية الحاكمة بضرورة تجديد الفكر المغربي ومناهجه، والخروج به من أوحال التقليد ومعاطن الجمود والتخلف إلى رحاب التجديد حتى يستطيع مسايرة الركب الحضاري في العصر الحديث.
5. وفي ذاك السياق الزمني طفت على السّطح الفكري المغربي كتب نهضوية ومتون إصلاحية، سطّرها يراع إصلاحيين كثر من أعلام الفكر المغربي قد لا يسعف المقام بتقديمها والتعريف بها ودراستها كلّها؛ إذ ذلك يحتاج إلى تخصيص العشرات والعشرات من الصفحات، وسأحيل المهتم إلى ما جمعه الدكتور سعيد بنسعيد العلوي في كتابه: «الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر: محمد بن الحسن الحجوي دراسة ونصوص»، وإلى ما جمعه الدكتور محمد أحميدة في كتابه: «الكتابة الإصلاحية بالمغرب خلال القرن التاسع عشر: قضاياها وخصائصها الفنية».
6. وبما أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه فسأخصص قادم الأحاديث الفكرية عن بعض الرسائل والمتون الإصلاحية التي ألفها بعض العلماء المغاربة ممّن اهتمّوا بالإصلاح ومجالاته وعُنوا بقضاياه وإشكالاته في مطلع القرن الماضي مبرزاً سياقات تأليفها، ومضامين خطابها، ومعرّفاً بأصحابها، والغاية هي تكوين صورة مجملة عن المدرسة الإصلاحية بالمغرب وخصائصها وتجاذباتها وآثارها، وستكون البداية بالكتاب الذي ألّفه الفقيه العلاّمة أبو العبّاس أحمد بن محمد الصّبيحي [ت.1363-1944م] المعنون ب: «أصول أسباب الرّقي الحقيقي»، وسيحمل هذا الحديث الفكري العنوان التالي: «الفكرُ الإصْلاحِي لدى الفقيه العلاّمة أبي العبّاس أحمد بن محمد الصُّبَيْحِي».
7. بداية؛ من هو أحمد الصُّبَيْحِي؟ ومن هم أشهر أعلام هذا البيت؟ هو أبو العبّاس أحمد بن محمد الصّبيحي من أولاد بيت الصّبيحي المعروفين بمدينة سلا، من بيت علم وخيارة ودين بتعبير ابن سودة في «سلّ النّصال»، يرجع نسبهم إلى قبيلة صُبَيْح (كزُبَيْر) العربيّة المتفرّعة عن قبيلة بني مالك من زغبة الهلالية المستقرة ببلاد أزغار شمالي مدينة سلا، وقد أنجبت الكثير من الفقهاء والصلحاء والأمناء والولاة، وتوارث الصبيحيون حكم مدينة سلا أواخر القرن الثالث عشر إلى منتصف الذي يليه، كما يقول عنهم محمّد حجيّ في «المعلمة».
8. وفي «البيوتات» لجان كوستي: ” للصبيحين تعظيم واحترام بسلا، وهذه العائلة التي منها سيادة الباشا الحالي هي من العرب، وقد نقل ابن خلدون والناصري أنّ الصبيحيّين المتقدّمين فرقة من عرب صبيح من بني مالك ، فرقة من بني هلال من قبيلة مضر، ومجيئهم لإفريقيا الشمالية كان عند فتح بني هلال لتلك الأوطان، ولا زالت بقية بني هلال إلى يومنا هذا بجبال غزوان بالطائف أحواز مكّة المكرّمة، وقد سأل السّيد الحاج الطّيب الصبيحيّ -رحمه الله- أثناء حجّه لبيت الله الحرام عن الصّبيحيين هنالك، ولقي البعض منهم وتذاكر معه في النسب ووجده متّحداً مع نسبه”.
9. اشتهر أهل هذا البيت الكريم بالعلم والفضل والمروء والوجاهة والتجارة، وعرف من أعيانهم: يحيى بن عبد الرّحمان الصّبيحي، من أهل الورع والصّلاح والتقوى، قال عنه الدّكالي في «الإتحاف الوجيز»: هو جدّ الأسرة الصّبيحية بسلا، وكان سنة 1189هـ على قيد الحياة، ومنهم: الفقيه أبو عبد الله محمد بن الأمين الحاجّ محمّد الصّبيحي، [ت. 1122هــ]، كان عالماً فقيهاً رافق السّلطان مولاي إسماعيل في سفره لتافيلالت، وكان يدرس صحيح البخاري، توفي سنة 1122هـ، وقد رثاه صفيه ابن عاشر بمرثية على قافية الباء، جاء في مطلعها:
لقد ضاقت الدنيا وضاق المحجب** وأظلمت الآفاق والسعد يغرب
وأورثني الشجو الشديد كئابة** وهمّاً، عنــــــــاه لا يطيقه جــــــــــــــــــــــــلدب
وأمطرت الآماق تجري جداولاً ** على صحن خدّي، والفؤاد معذب
فوا طول أشجاني وطول تلهفي** واحــــــــــسرتيّ والدّموع تســـــــــــــــــــــكب
لفقد الإمام ابن الصّبيحي محمّد **أخي وخليليّ والحبيب المهــــــــذّب
10.ومن أعيانهم: العلاّمة المفتي أبو عبد الله محمّد بن عبد القادر الصّبيحيّ، تولّى القضاء بمكناسة الزّيتون أيام السّلطان المولى سليمان، رحمه الله سنة: 1214هـ، والإفتاء بزرهون والعدالة بسلا، ومنهم: الحاج: محمد بن مَحمد الصبيحي [ت. 1285هـ]، تولى نظارة الأحباس الكبرى، ومنهم: نجله المكّي بن الحاج محمد الصبيحي [ت. 1295هـ]، كان من رجالات العلم، ودرس بفاس، واشتغل بالتدريس، ومنهم: الحاجّ الطّيب بن محمّد الصبيحي [ت. 1332هـ] باشا مدينة سلا، كان مخالطاً لأهل العلم، قال عنه ابن سودة في «إتحاف المطالع»: “الأستاذ المطّلع، المتبتّل الخير الذّاكر” تعاطى التجارة منذ صغره، وكان مع صغر سنّه من ذوي النّباهة والعقل، عيّن أمينا بديوانة آسفي أيام السلطان مولاي الحسن، ثمّ أميناً بالعرائش والدّار البيضاء والصويرة والجديدة والرّباط، أيام مولاي عبد العزيز،، وحجّ مرّتين، قال عنه بيوتات سلا: ” عين عاملاً بمدينة سلا، وما لبث إلا قليلا حتى أحبّه كافة أهل سلا، لما أظهره من العدل والكرم والصلاح، مع ما كان عليه من الجدّ في المسائل، والتّمشي الحسن”.
11. ومن أشهر أعلام هذا البيت الكريم العلاّمة الفقيه محمّد بن الحاج الطيب [ت. 1389هـ]، باشا مدينة سلا وعالمها، رحل إلى فاس حيث أخذ الحديث والفقه والأصول واللغة وقواعدها والبلاغة والمنطق عن شيوخ وأعلام القرويين من أمثال التهامي ابن المدني كنون، وأحمد ابن الخياط، وأحمد بن الجيلاني الأمغاري وأحمد بن المأمون البلغيثي، اشتغل بعد ذلك بالتدّريس والإفادة، يقول عنه محمّد حجيّ: ” ولم ينقطع طول هذه الحقبة عن التّدريس بمنزله بعد صلاة الصّبح إلى الضحى”. كما كان بيته الجميل الفسيح دائماً مفتوحاً في وجه زوّار المدينة من علماء وشرفاء وصلحاء، وكبار رجال المخزن يكرمهم وينفق عليهم بغير حساب، توفي زوال يوم الأحد 9 صفر عام 1389هـ-27 أبريل 1969م.
يتبع…
د. محمد شابو