- كانت ولادة العلاّمة الفقيه أحمد بن محمّد الصّبيحي بمدينة سلا في شهر صفر عام 1300هـ، يناير 1882م، ونشأ في بيت علم وفضل وصلاح، وكما جرت العادة لدى أهل المغرب فقد أدخل الصّبيحي إلى المسيد لتعلّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، فحفظه وأتقنه في سنّ مبكّرة من حياته برواية ورش إفراداً في البداية على يد شيخه الفقيه أحمد بن أحمد البارودي [ت. 1310هـ-1893م].
- لم تتوقّف همّة علاّمتنا الصّبيحي عند هذا الحدّ من الحفظ والاهتمام بكتاب الله ضبطاً وإتقاناً، بل اتّجهت عزيمته وتجدّدت رغبته في الاستزادة من حفظ رواياته والتّحصيل لعلومه، فحقّق قراءة ورش وقالون جمعاً، قبل أن يتمّ جمعه للقراءات السّبع على يد شيخ جماعة القراء بسلا محمّد بن عبد الله بريطل [ت. 1344هـ-1916م] والذي أتقن على يديه “علمي التّجويد والقراءات أيّ إتقان” كما وصفه بذلك محمّد بن العبّاس القبّاج في « الأدب العربي في المغرب الأقصى»، وبذلك صار علَمُنا متخصّصاً في علم القراءات، وسيصبح فيما من أبرز شيوخ الإقراء بمدينته.
- بعد النهل من معين علماء منطقته شدّ الصّبيحي الرّحلة في طلب العلم إلى العاصمة العلميّة فاس، هناك حيث جامع القرويين؛ والتي لم تكن لتزّكى العلوم والمعارف إلاّ عبر الدّخول من أبوابه، والمزاحمة بالرّكب في حلقاته، والاستجازة من مشايخه وعلمائه؛ في هذا الجامع الجامعة حصّل علاّمتنا مختلف العلوم، ودرس في حلقات كبار الأعلام ومبرّزيهم. وفيما يلي بعض أسماء من درس عليهم من شيوخ القرويين مع شيء من أخبارهم وأحوالهم نستشف من خلالها أثر مشيخته على شخصيته، إذ التلمذة النّابغة هي غالباً نتاج للمشيخة النّابهة، فمن شيوخه:
- العلاّمة الفقيه المشارك عبد الله بن خضراء السّلوي [ت.1324هـ-1906م] قاضي الجماعة بمرّاكش وفاس، ومستشار الدّولة الأمين، بتحلية محمّد حجي في «المعلمة». كانت له دروس متنوّعة تبعاً لمشاركته وسعة أفقه، ويعتني بتحضيرها وتحريرها وترتيبها وإلقائها، فكان إذا ختم الكتاب جمع تلك الكراريس وأخرج منها شرحاً أو حاشية أو تعليقاً على الكتاب المقروء. تولىّ القضاء بمراكش وفاس، قال عنه العلاّمة المرحوم عبد الله الجراري في: « أعلام الفكر»: “كانت له دروس علمية، ومجالسات ومطارحات مع علمائها برهن فيها عن كفاءة ومقدرة فائقة فاح عرفها بالأندية والمجالس”، وألّف عدّة تآليف من بينها: « تحذير عوامّ المسلمين من الاغترار بكلّ من يتساهل في الديّن»، وقد وفد على السّلطان المولى الحسن في جماعة من الأعيان سنة 1276هـ/ 1860م، ومدحه بقصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها:
لبّيــــــــــــــك لبّيك ياخير السّلاطين ** أدامك الله في عزّ وتمكين
يهدي إليك تحيّة مباركة** أذكى وأطيب من مسك ونســــرين
- ومنهم: عليّ بن الطّيب الدّرقاوي: [ت. 1365هـ-1945م] العلاّمة المشارك المستحضر المدرّس، قال عنه ابن سودة في «سل ّ النّصال»: الشيخ الشّهير، والعلّامة الكبير، العامل بعمله، من أعظم أشياخنا، وممّن يفتخر بالأخذ عنهم، كان في جلّ دروسه يختار الأمور العالية، فيدرّس مثلاً جمع الجوامع ومختصر خليل بشرحيه، ويرجع حواشيه الثلاثة بنّاني والتّاودي والرّهوني، مع نكت زائدة، وأعزّ ما عنده المذاكرة، فكان يذاكر أهل كلّ فنّ في فنّهم، فإذا ذاكرته في أيّ فنّ تجده كأنّه متخصّص فيه”.
- ومنهم: العلاّمة الشّهير والحجّة النّظار أحمد بن الخيّاط الزّكاري [ت.1343هـ-1925م]، قال عنه عبد الحفيظ الفاسي في « المدهش المطرب»: “آخر الأعلام من مشيخة فاس صدر من صدور علمائها، إمام في الأصلين، والفقه والفرائض، متبحّر في النّوازل الوقتية، بصير بمعانيها، عارف بعللها وأحكامها، قويّ الإدراك، جيّد الفهم، سديد النّظر، ثاقب الذّهن، موفر الأدوات، مثابر على تعليم العلم ودؤوب على نشره تأليفاً وتدريساً”، وعنه يقول ابن سودة: “قال في وصفه بعض علماء شنقيط أيّام السّلطان المولى عبد الحفيظ حين سئل عن صاحب التّرجمة، قال: رجلٌ خدم القواعد فأتقنها”، له مؤلفات أربت على المائة في غاية التحرير والتدقيق والإتقان. كان درقاويّ الطّريقة أخذها عن الشيخ عبد الواحد بن البدوي بنّاني، عن الشيخ محمّد بن الغالي أيوب الحسني، عن الشيخ أحمد بن عبد المؤمن الغماري الحسني، عن الشيخ مولاي العربي الدّرقاوي، وممّا قال في حقّه ابن سودة:” والأخذ عنه يعدّه الإنسان مفخرة أيّ مفخرة، لأنّه آخر من مثّل العلم على نهج السّلف الصالح مع الاستقامة واتّباع السّنة”. أسندت له رئاسة المجلس التّحسيني لجامعة القرويين بعدما بسطت الحماية يدها على المغرب وبقي على منصبه إلى أن توفي سنة: 1343هـ.
- وممّن درس عليهم العلاّمة أحمد الصبيحي بجامع القرويين العلاّمة الفقيه المشارك المطّلع: أحمد بن الجيلالي الأمغاري [ت. 1352هـ1933م]، قال عنه ابن سودة في «إتحاف المطالع»: “آخر من فهم العلم على حقيقته ودرّسه”، وقال عنه الحجوي في «الفكر السّامي»: “لا أدري كيف أقول في تعريفه وهو في العلم وفضله أظهر من أن يطويه القلم، إذ هو شيخ فقهاء الوقت الأعلام، والمحقّق الضّرغام، فارس معقول ومنقول، وأحد النّظّار الفحول، فيلسوف الفقهاء، وشيخ النّبلاء، وفقيه المتصوفين، وبقيّة العاملين والصّالحين، مشارك في الفنون، ولاسيّما علم المنطق فإنّه أعرف أهل المغرب به غير مدافع، قرأته عليه مرّات، فكان في لسانه كالحديد في يد داود عليه السّلام”، اشتهر الشيخ الجيلالي الأمغاري بتدريسه لمتن الآجرومية في آخر حياته تنكيتاً على أحد المتخرّجين الجدد من جامع القرويين وذلك بعد أن استهلّ تدريسه بجمع الجوامع لابن السبكي، قال ابن سودة: “فلمّا سمع بذلك فتح الآجروميّة وصار يدرّسها ويحضرها جلّ العلماء من تلامذته وغيرهم، فكنت ترى الآجروميّة تدرّس من جانبه والعلماء يحضرونها وكنت ممن حضرها عليه”.
- هؤلاء أبرز من درس عليهم علاّمتنا أحمد الصبيحي، وهي كما يلاحظ مشيخة بلغت شأواً عظيماً في المكانة العلمية، وفيهم من كان الأخذ عنه يتفاخر به بين الأقران كما هو الحال بالنسبة للشيخ العلاّمة أحمد الزّكاري وعلي بن الطيّب الدّرقاوي، وقد كرع علاّمتنا من حياض هؤلاء فأجازوه، وتخرّج من حلقاتهم كما يقول محمد حجّي عالماً مشاركاً في العلوم اللّغوية والنقلية والعقلية، متخصّصاً في القراءات التي يعدّ من أعلام عصره المبرّزين فيها.
- كان من الطبيعي بعد أن ملأ وطابه من المعارف على يد أولئك الجلّة، ورجع إلى مسقط رأسه سنة 1324هـ أن تسند إليه مهمّات ومسؤوليات، فابتدأ حياته الوظيفية كاتباً في باشوية سلا واستمرّ به الحال فيها حوالى اثتني عشرة سنة، كما تولى العدالة في مرسى العدوتين، وأسندت إليه نظارة الأحباس في عدّة جهات من المغرب، فعيّن ناظراً لأحباس آسفي سنة 1336هـ/1918، لمدّة ثلاث سنوات، قبل أن يتولّى نظارة الأحباس الكبرى وأحباس الحرمين الشريفين بمدينة مكناس، وأيضا أحباس الزّوايا فيها، وبقي يدير هذا الوظيف بنزاهة وكفاءة مدة ناهزت سبعة عشر عاماً.
- ومن نوادر ما أورده عبد الرحمان ابن زيدان في «إتحاف أعلام الناس» من مراسلاته خلال توليته نظارة الأحباس الكبرى بمكناس تلك المراسلة التي بعث بها إلى “فيردا مبرك” والتي لا تخلو من دلالة، يقول فيها: جناب رئيس منطقة مكناس المعظم السّيد الجنرال فريدا مبرك، سلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فأتشرّف بأن أرسل إليكم اثنتي عشرة مائة فرنك وخمسين فرنكاً لتصل على يديكم إلى تافيلالت بقصد تفرقتها هنالك، على: الطّلبة الذين يقرؤون الحزب ودلائل الخيرات بضريح مولانا علي الشّريف، وعلى المؤذنين به، وعلى قيّم الرّوضة، وعلى طعام المولد النّبوي، وذلك على العادة في تقسيطها بينهم طبق مقتضى الكتاب الشريف الصادر بتاريخ 21 صفر 1338هـ المعمل لنص تحبيس غابة حمرية بمكناس الصادر من السّلطان المقدّس سيدي محمد بن عبد الله 1885م، ثم تتفضلوا بتوجيه جواب المكلّف في ذلك بتافيلالت إلينا ليحفظ بمحلّه، بارك الله فيكم، وعلى المحبّة والسلام، 21 جمادى الثانية 1341هـ فبراير 1923م، ناظر الأحباس الكبرى بمكناس: أحمد الصّبيحي.
- فكان جواب توفنار المؤرخ بتاريخ 15 ديسمبر سنة 1923بعد الحكاية بما يأتي: أتشرّف بإعلامكم بأنّ هؤلاء النّاس لا زالوا لم يقدّموا الطّاعة ولا يمكن لنا توجيه ما أرسلتم الآن! فها أنا أرجعت لكم القدر المبيّن أعلاه يحفظ بصندوق الأحباس حتّى تصلح ناحية تافيلالت ويمكن لنا تفريق ذلك والسّلام!
د. محمد شابو