- تكتسي الرّحلة عموما أهميــّـة كبرى في الثّقافات الإنسانية بما تخلفه من آثار حضاريّة وتواصليّــة بين الأمم والشّعوب، وأخرى معرفية وثقافية تتيح للأحفاد الاطلاع على المظاهر الحضارية والتراثية للأجداد، ومن ثَمّ فقد اعتبرت الرّحلة بمثابة سجل حقيقي لمختلف مظاهر الحياة ومفاهيم أهلها على مرّ العصور. وقد اشتهر عن العلاّمة الفقيه أحمد الصّبيحي حبّه للتّرحال، والاطلاع على تقاليد الأمم وعادات الشعوب، والوقوف عن كثب على مظاهر التمدن والحضارة لكل بلد قام بزيارته، فقد جال في أقطار عربية وأوروبيّة عدّة.
- ولقد أرجع عبد المالك البلغيتي في «المنار» ما كان عليه الفقيه الصّبيحي من سديد الآراء، وعمق الأفكار، وصحيح النظر، إلى المشاهدات والتجارب التي اكتسبها خلال جولاته ورحلاته المتعدّدة إلى الشرق والغرب، يقول عنه: “لا يملّ الإنسان من مجالسته والاستمتاع بحديثه وأفكاره وآرائه ونوادره، الشيء الذي كوّنه في جولاته في الشرق العربي، وملاقاة مشاهير العلماء والمفكرين من تلك الدّيار المشرقيّة، وكان معجبا بما وصلوا إليه من رقيّ في علوم الوقت زيادة على غزارة علومهم الإسلامية الأصيلة، وكثرة تآليفهم في كلّ فنّ، ويودّ أن يكون أبناء وطنه المغرب من علماء وأدباء على شاكلتهم، الشيء الذي حمله على تأليف كتاب أسماه: « أصول أسباب الرّقي الحقيقي» لينهج أبناء وطنه أسباب نهج غيرهم، وليصلوا إلى ما وصل إليه الغير مع المحافظة على الدّين وأخلاق الإسلام الفاضلة”.
- رحل علاّمتنا أحمد الصّبيحي إلى المشرق مرّتين، كانت الأولى منهما رحلة دينية، إذ حجّ سنة 1348هـ/1929م، وجال في بلدان عربيّة فدخل الجزائر وتونس، ومصر والحجاز وفلسطين والشّام، وعن هذه الرحلة كتب: «الرّحلة المغربية المكّية»، كما زار دولاً أوروبية عدّة منها: فرنسا وبلجيكا وإسبانيا. وما من شكّ في أنّ رحلاته هاته أسهمت بشكل كبير في تراكم تجاربه، وانفتاح وعيه، وتبنّيه للخطاب النّهضوي الإصلاحي الذي بثّه في كتابه السّالف الذكر والذي سيكون موضوع حديثنا فيما بعد.
- أمّا رحلته الأخرى والتي كتب عنها كتابه: «الرُّحَيْلة الثّانية» فقد كانت إلى مصر سنة 1353هـ/1934م، إلا ّ أن هذه الرّحلة كانت رحلة علميّة بالدّرجة الأولى، قصد منها الاطلاع على بعض المكتبات المصريّة والتّعرف على بعض علمائها وأدبائها، وبالأخص اللقاء بشيخ العروبة أحمد زكي باشا.
- وقد أتت هذه الرّحلة العلمية في سياق اهتمامه بموضوع أدبيّ مغربيّ طريف يخصّ كلمات الدّارجة المغربية، فقد كان -رحمه الله- مولعاً بتنقيح الدّارجة المغربية وردّها إلى أصلها العربي وجمع الأمثال الواردة فيها، كما يقول عنه البلغيثي، وهو ما عبّر عنه الجراري بقوله: ” قصد مصر في سبيل تتميم بحثه في اللّهجات العامية لعزمه على إصدار كتاب في إرجاع بعض الدّارج بالمغرب من الكلمات العامية إلى حظيرة العربية”، وهذا “إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على ولوع الرّجل بالبحث والتّقييد لغاية جعلته يشدّ الرّحلة إلى مصر رغبة في إتمام ما يهدف إليه من غايات فنّية”.
- يقول علاّمتنا الصّبيحي في سياق حديثه عن رحلته العلمية هاته: ” أمّا بعد: فقد سلفتْ لي رحلة إلى مصر مع فلسطين ولبنان عام 1348هـ/1929م، قيّدت فيها كُليمة في مشاهداتي الخفيفة التي كانت أثرية ووصفاً في الغالب، وهناك الرّحلة الثّانية إلى مصر قصدت فيها أوّلاً الاطلاع على عدّة كتب فوق العشرة موجودة في الدّارج بمصر والشام بدار الكتب المصرية مع الاجتماع ببعض علماء جِلّة لهم اطلّاع واسع في الموضوع”.
- ويقصد علاّمتنا بالعلماء الجلّة الذين قصدهم بالزيارة هو الأديب المصري الكبير والملقب بشيخ العروبة أحمد زكي باشا، وبهذا القصد من الرّحلة يكون الفقيه الصّبيحي قد جدّد أواصر التواصل المغربي المشرقي المصري في أنبل صوره وُمثله. نتابع حديثه في سياق مَن قصده بالرّحلة إذ يقول: ” خصوصا شيخ العروبة الأستاذ أحمد زكي باشا، وذلك بسبب ما سلف لي في محاضرة ألقيتها في إرجاع بعض الدّارج بالمغرب الأقصى إلى حظيرة أصله العربي، وذلك بمؤتمر معهد الدّروس العليا المنعقد بفاس عام 1351/1932م، ووعدتُ في تلك المحاضرة بإبراز معجم فيها بعد بضع سنوات يضمّ بضع مئات من الكلمات من غير أن يكون لي فيها سند غير معتمدات كتب اللغة والأدب…
- ولكنّي علمت بعد ذلك بوجود السّابقين لي في دارج مصر والشّام كما سبق، فعقدت النّية على هاته الرّحلة بالقصد المذكور، وكاتبت شيخ العروبة من غير سابق معرفة شخصيّة به في الإعلام بذلك، فتفضلّ رعاه الله بالجواب بتنسيق التّرحيب والإعلان باستعداد جنابه الكريم بإعانتي في ذلك كما هو الشّأن فيه، فهو شيخ العروبة بلا منازع، وداره دار العروبة مفتّحة الأبواب سيّما للغريب قاصدِه فيما فيه إعلاء شأن العروبة في ديار الغربة عن مثل الكتب المشار إليها، وعن مثله من فطاحلة اللّغة أيضا، فعندنا بالمغرب مع الأسف لا يوبه بهذا الموضوع النّفيس إلاّ من السّادة المستعربين أساتذة المعهد المذكور”.
- شيخ العروبة أحمد زكي باشا (1284-1354هـ/1867-1934م)؛ لا يمكننا أن نقفز بحديثنا عن مثل هذه الشّخصية الأدبيّة الكبيرة التي كان لها الفضل الكبير على التّراث العربي، ولها يد الامتنان على علاّمتنا أحمد الصّبيحي، فأصبح من الوفاء للشخصيتين معا أن نحيي ذكر هذا العَلم العربي الكبير، وسيصبح هذا الإحياء لازما إذا علمنا أنّ شيخ العروبة ينحدر من أصول مغربية.
- يلفت الأستاذ المصري الكبير المرحوم أنور الجندي في كتابه: «أحمد زكي: الملقب بشيخ العروبة» إلى أصول هذا الأديب فيقول: ” كان أحمد زكي باشا، المغربي الأصل، الفلسطيني المنبت، المصري الأرومة، مستعدّاً استعداداً كاملاً للدّفاع عن مقوّمات الفكر العربي”، وقد سأله خير الدّين الزركلي كما روى في «الأعلام» عن أصله، فقال: “عربي، من بيت النّجار، من عكّا”، وبيت النّجار كما يقول صديقنا البحّاثة المقتدر الدكتور رشيد العفاقي في كتابه الماتع: «أحمد زكي باشا ومخطوطات الإسكوريال» “من البيوتات الأندلسية التي نزحت إلى المغرب واستقرّت بمدينة سلا ، قدم أهله من المغرب واستقرّوا في عكّا بفلسطين، ثمّ انتقل والده إلى مصر وتزوّج فيها والدته”، ومن هنا نفهم أسباب التوافق والثّناء والتّرحيب الذي كان بين العلاّمة أحمد الصبيحي وأحمد زكي باشا، فالمعدن من أصله لا يستغرب.
- نشأ أحمد زكي باشا بمصر وتخرّج من مدرسة الإدارة والحقوق بالقاهرة، وأتقن الفرنسية مع إلمامه بالإنجليزية والإيطالية، يقول عنه الزركلي في «الأعلام»: ” منح لقب باشا، واتّصل بعلماء المشرقيات، ومثّل مصر في مؤتمراتهم، وقام بفكرة إحياء الكتب العربية، وأحكم صلته برجالات العرب في جميع أقطارهم، وتسمّى بشيخ العروبة، وسمّى داره ببيت العروبة، وجمع مكتبة في نحو عشرة آلاف كتاب ووقّفها، فنقلت بعد وفاته إلى دار الكتب المصرية”، وقد كتب العلاّمة المرحوم محمد كرد علي مقالاً باذخاً عن مكتبته، سمّاه: «الخزانة الزكيّة أو مجموعة كتب أحمد زكي» نشره في مجلّة «المقتبس»، وممّا قاله عنه:
- “أحد نوابغ مصر في هذا العصر يجب أن يثبت في القائمة الأولى من أسماء أولئك العاملين الأخيار، ونحن على مثل اليقين بأنّ أمثاله قلائل في مصر والشرق، وأنّه عامل أمين في خدمة أمته، ومازال صاحب هذه الخزانة يسعى وراء غايته كلّما ذهب إلى أوروبا في مهمّة علميّة فيعود بنفائس الكتب وغرائبها ممّا يرجع كلّه إلى إظهار حضارة العرب وفضلهم حتّى اجتمعت إليه الآن معظم الكتب العربية التي طبعها علماء الإفرنج المستشرقين منذ القرن الخامس عشر للميلاد إلى يوم النّاس هذا”، والمقالة طويلة مفيدة ماتعة يُرجع إليها في المجلد الخامس من المجلة المذكورة.
- ولأجل اهتمامه واهتباله بالتّراث عدّه العلاّمة المرحوم عبد السّلام هارون في رسالته «التّراث العربي» رائد إحياء التراث العربي، يقول عنه: ” ولعلّ أوّل نافخ في بوق إحياء التّراث العربي على المنهج الحديث في مصر، هو المغفور له، أحمد زكي باشا الذي قام بتحقيق كتاب «أنساب الخيل» لابن الكلبي و«الأصنام» لابن الكلبي أيضا”، واشتهر عنه أنه كان أوّل من أشاع إدخال علامات الترقيم الحديثة في المطبوعات العربية، وألّف في ذلك رسالته الشهيرة: «التّرقيم في اللغة العربية».
يتبع…
د. محمد شابو