- يعدّ كتاب «أصول أسباب الرقي الحقيقي»، من أهمّ ما ألف علاّمتنا أحمد الصبيحي، فقد انخرط بكتابه هذا في سلك علماء الإصلاح المغاربة الذين انشغلوا بموضوع النهضة والبحث عن سبل التقدم والرقي للأمة المغربية، وحاول بصفته عالماً وفقيهاً أن يسهم بدروه برؤية إصلاحية لوضع اتّسم بأزمات متعددة النواحي في مطلع القرن العشرين.
- بنى العلاّمة الصبيحي رؤيته الإصلاحية للرقي الحقيقي على ركائز وأصول جعلت من الدين والعلم والصناعة والتجارة والفلاحة أهم خطوطها العريضة، وناقش كلّ مسألة من هذه الأسس على حدة مبرزاً دورها في التقدم والازدهار العمراني والبشري ليس للأمة المغربية فحسب، وإنّما للعالم أجمع. ويهمّنا في هذا الحديث الفكري أن نجلي للقارئ أصول هذا الرقي من منظور فقيهنا الصبيحي.
- أوّل أصل من أصول الرقيّ الحقيقيّ لدى هذا العالم المغربي يكمن في دين الإسلام باعتبار أنه الدين الخاتم، ويشتمل على خصائص ذاتية تجعل منه ديناً متجدداً وملائماً لأحوال أيّ عصر يعايشه، ومنسجماً مع الفطر الإنسانية السّوية، وقد تناول هذا الأصل الإلهي ودوره في الرقي الإنساني والحضاري زوايا متعددة، أهمها:
-انسجامه مع المدنية الصحيحة: يرى العلاّمة الصبيحي أنّ الدين الإسلامي ينسجم في أصله مع الحضارات الحقّة، والمدنيات الصحيحة التي بنت ركائزها على الأخلاق “والخصال المليحة”، وأنّه دين صالح لتنزيل أحكامه وتطبيق شرائعه في أي زمان ومكان، يقول: ” لا أريد أن أتحدّث عن دين الإسلام من حيث حقّانيته على غيره، وأنّه الدّين الذي ارتضاه لعباده، فذلك ما قد بسط الأئمة أدلّته في كتب التوحيد، ولكن أريد أن أتكلّم من حيث ملاءمته التامّة لقواعد الرقي الحقيقي وأصول المدنية الصحيحة”.
- ثم قال متمّماً: ” ليهنأ أهل المغرب الأقصى أنهم على دين اعترف عظماء الفلاسفة من غير أهله فضلاً عن أهله بأنه الدين الوحيد الملائم لأصول المدنية الصحيحة، والجامع لقواعد الإنسانية والخصال المليحة، والقابل بصلاحية أصوله للانطباق على مشارب أهل كل جيل ممتازاً بذلك كتابه القرآن على غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل”، وينقل في هذا السياق عن الكاتب اللبناني شبلي الشميل [ت.1917م] قوله:” إنّ في القرآن أصولاً اجتماعية عامة، وفيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كلّ زمان ومكان، حتى في أمر النساء فإنّه كلّفهن بأن يكن محجوبات من الرّيب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج زوجة واحدة عند عدم إمكان العدل، وأنّ القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة، ولترقية الروح والجسد بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب، فقصر وظيفة البشر على الزهد والتخلي عن هذا العالم الفاني”.
- اقتباس العلاّمة الصبيحي عن شبلي الشميل فيه ردّ على الدعوات التي كان يُروَّج لها مطلع القرن الماضي أثناء توافد النظريات والأدبيات المادية والتي رأت في الدين الإسلامي حجر عثرة يقف ضدّ أيّ تقدم أو رقي وأنّه باب موصد أمام أي تنمية أو ازدهار ؛ وشبلي الشميل هذا كان من مسيحي الشرق، طبيبا بحاثا، وينحو منحى الفلاسفة في عيشته وآرائه، كما يقول عنه خير الدين الزركلي، ومع ذلك كان كثيراً ما يشيد بالشريعة، ويعدّد محاسنها، ويعترف بمعقولية أحكامها، ويفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر البشر، ومما جاء في قصيدة بعث بها إلى صديقه الشيخ محمّد رشيد رضا مادحا الشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم:
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من**حكم روادع للهوى وعظــــات
وشـــــــــــرائع لو أنّهم عقــــــــــــــــــــــــــلوا بها**ما قيّدوا العـــــــــــــــــــمران بالعــــادات
نِعـــــــم المديــــــــــر والحكيـــــمُ وإنّــــــــــــه**ربّ الفصاحة مصطفى الكلمــات
رجل الحجا رجل السياسة والدها** بطلٌ حليف النّصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النّهــــــــى**وبسيفه أنحى على الهــــامـــــــــــــــــات
من دونـــــــه الأبطال في كلّ الورى**مــــــــن ســــــــابق أو لاحــــــق أو آت
- وقد نقل الصبيحي عن آخرين كثر ممن تحدثوا عن الإسلام في سياقات مختلفة، منهم وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هانوتو الذي نقل عنه قوله معترفاً: ” لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشراً في الآفاق، فهو الدّين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمراً وأفواجاً، وهو الدّين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كلّ ميل إلى اعتناق أي دين آخر”. ونقل عن القس الإنجليزي إسحاق طيلر الذي نقل عنه قوله: ” إنّ الإسلام يمتدّ في إفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره والشجاعة والإقدام من أنصاره”.
- من الاعتبارات التي أشار إليها الفقيه الصبيحي في موضوع الدين الإسلامي وأثره في الإصلاح الفردي والمجتمعي انبناؤه على التسليم لله والمحبّة للخلق، فالدين الإسلامي أساسه التسليم لله ” فأوّل ما طلب الشارع الإسلام بمعنى السلامة والاستسلام للخالق الواحد القهار، وهو من أسهل وأخفّ ما يكون على النّفس البشرية، ما دامت على فطرتها لأنّ من الفطرة التي فطر الله الناس عليها الافتقار إلى موجد ومخصّص وإلى ملجأ”.
- وأساسه أيضا: المحبّة للخلق «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»،[رواه البخاري]؛ ذاك أنّ أصل الخلق من نفس واحدة، «كلّكم لآدم، وآدم من تراب»، [رواه الترمذي] “وقد نبّهنا تعالى أنّنا سواء في حقيقة الإنسانية بأنّه خلقنا من نفس واحدة من ذكر وأنثى، وجعلنا شعوباً وقبائل للتعارف والتآلف لا للتخالف والتناحر كقولهم هذا عربي فاضل وذلك عجمي مفضول أو العكس، وقد نهى عنه الإسلام كتاباً وسنةّ، أمّا الكتاب فقوله تعالى ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)،[سورة الحجرات: 13] وأمّا السّنة فقوله عليه الصلاة والسلام « ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».[رواه الإمام أحمد].
- يترتب عن المحبّة بين الخلق في الدين الإسلامي أخوة لازمة وأخلاق صافية وتعاون دائم تغني عن كثير من النظريات الأخلاقية المعاصرة، وقد جعل العلاّمة الصبيحي آيات سورة الحجرات المنطلق والمحور التي يمكن أن ندير عليها أخلاقنا الاجتماعية المبنية على المحبة والأخوة ( إنّما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتّقوا الله لعلكم ترحمون، يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب، بيس الاسم الفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنّ، إنّ بعض الظنّ إثم، ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن ياكل لحم أخيه ميّتا فكرهتموه، واتّقوا الله، إنّ الله توّاب رحيم، يا أيها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير)، [سورة الحجرات: 10-13].
- لا يفوت علاّمتنا الصبيحي وهو يؤصل لدور الدين وضرورة استحضاره في أي سبيل للإصلاح، أن ينتقد حالة المسلمين عامة والتي لخصها في الاهتمام بالمظاهر الخارجية للدين والأخلاق من دون النفاذ إلى حقيقة التدّين والتخلّق وصدق الاستسلام” ولتعلموا أنّ عيبنا الكبير معشر المسلمين هو أخذنا بالقشور منه دون اللباب وعدم نفوذنا للمرامي السامية عند أولي الألباب وإهمالنا للعمل بكتابه، وغرر أحكامه”.
- من المظاهر الاجتماعية التي انتقدها العلامة الصبيحي والتي تلصق بالدين وتقام باسمه ما يلجأ إليه البعض من الطقوس والعادات في مواسم معينة تشوه صورة الدين وتنفّر منه أكثر مما تقرّب، يقول : ” ولقد كان من الواجب على علمائنا الاعتناء بشرح فلسفة الدين وتبيين أحكامه وأسراره للعامّة في دروس ليلية على الخصوص ولا سيما في التفسير والحديث حتّى تتنور الأفكار ويتميّز للعوام الطيب من الخبيث، ويدعونا من بدع ومنكرات يرتكبونها على مرأى ومسمع من علماء الإسلام وحاملي شريعته عليه الصلاة والسلام، فيظنّها الأروباويون من الدين وليست منه في شيء، فيعيبوننا بها، والحقّ معهم، ويعيبون دييننا من أجلها والعذر لهم، فتهشيم الرأس مثلاً ما أنزل الله به من سلطان، وأكل الدم المسفوح حرام بنصّ القرآن، وأمثال ما أشرنا إليه كثير لا نطيل بها”.
د. محمّد شابو