- هو العلم لا كالعلم شيء تراوده** لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
بهذا البيت الشعري لأبي حيان الأندلسي [ت.745هـ] افتتح العلاّمة أحمد الصبيحي حديثه عن العلم ودوره في التنمية في سلسلة الأسباب التي جعلها مفاتيح الرقي وأصول الترقي والنهضة والتقدم :
بني الأوطان هبّوا من رقــــــــــــــــاد**وجدّوا في طلب المعاش وفي الـمَعـــــاد
إلى الدّين القويم أخي المعالي**إلى العــــــــــــــــــــــــــــــلم المبلّـــــــــــــــغ للرشــــــــــــــــــــاد
- حديثه عن هذا الأصل لم يخرج عن عموميات ما ورد في فضله ومنزلته، وأهميته ومكانته، وبيان أقسامه وأنواعه، مع نقد مظاهر الإهمال التي طالت بعض العلوم وإغفال النظر فيها، بالإضافة إلى نقده لبعض مناهج التلقي والتلقين التي دأب عليها علماؤنا في مجالس الدرس سواء بالقرويين حينها أو بغيرها. فضل العلم كما يقول علاّمتنا أشهر من نار على علم، وما ورد في فضله من الآيات والأحاديث وأقوال الحكماء لا يحيط به علم، ويكتفي في هذا السياق بالاستشهاد بقوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). [سورة الزمر: 9]
- وأمّا فيما يخصّ تقسيماته وأنواعه فقد عدّده إلى أنواع، سالكاً في ذلك مسلك اليوسي في كتابه «القانون» والقنوجي في كتابه «أبجد العلوم». وقد جعل على رأس قائمة هذه الأنواع العلم الشرعي الذي ينضوي تحته علم التفسير والحديث والتوحيد والفقه. وثاني هذه التقسيمات، العلم الآلي، ويندرج تحته أقسام، منها علم أصول الفقه، واصطلاح الحديث، وعلم القراءات، ومنها: علوم العربية الاثني عشر المجموعة في قول الشيخ حسن العطّار شيخ الأزهر المغربي الأصل [ت. 1250هـ]:
نحو وصرف وعروض وبعده لـــغةٌ **ثمّ اشتقاق وقرض الشعر إنـــشاء
ثمّ المعاني بيان الخـــطّ قــــــــــــافيةٌ **تــاريخ هذا لعـــــــــــــــــلم العرب إحصاء
- ثالث أنواع العلوم التي أشار إليها العلاّمة أحمد الصبيحي هو العلم الإلهي، ويقصد به علم الفلسفة الذي يبتغى من خلاله تكميل النفس الناطقة والاطلاع على حقائق الأشياء بقدر الطاقة البشرية. أمّا رابع الأنواع فهو العلم الطبيعي، ويندرج تحته الطب، والتشريح والبيطرة والفلاحة، والأحكام النجومية والفراسة وعلوم الحكمة، وغير ذلك. وخامس الأنواع هو العلم الرياضي، وتحته أقسام: منها العدد والهندسة والهيئة والموسيقى. والقسم السادس سّماه بـــ: (العلم الاستعماري) ويقصد به الجغرافيا بأقسامها، وعلم الحقوق الذي يرجع إلى التاريخ وحفظ المعاهدات والقوانين وشرائع الأمم.
- لم يكن غرض العلاّمة الصبيحي الحصر لأنواع العلوم وأجناسها وأقسامها، فللعلوم -كما يقول-: “تقسيمات أخرى لا نطيل بها، كما أنّ عدّة علوم قديمة قد فرعت وجعلت أقساماً كالعدد فمنه الجبر والمقابلة وغيرهما، كما أنّ عدّة حرف وصنائع كالتجارة والفلاحة وأمور رياضية كالرماية وبقية الفنون العسكرية قد اعتنى بها المهرة فيها وجعلوا لها قواعد منضبطة وأصولاً جارية بها صيرها من قبيل العلوم”.
- وإنّما الغرض من ذكر أنواع هذه العلوم كما يوحي بذلك كلام علاّمتنا هو لفت انتباه المجتمعات ومنه المجتمع المغربي إلى التقصير الذي طال تحصيل الكثير من هذه العلوم المذكورة وعدم الاهتمام بها، وإعطائها ما تستحق من العناية والاهتمام، سمّى من ذلك ما يتعلق ببعض العلوم الشرعية وأخرى تتعلق ببعض العلوم الطبيعية.
- يقول في هذا الصدد: “غرضنا لفت أنظار إخواننا المغاربة، أولا: إلى تقصيرنا في كثير من العلوم كالتفسير الذي هو الأصل الأصيل لديننا الحنيف، والحديث الذي هو كلام خير خلق الله الجامع لجوامع الكلم، ونوافع الحكم، وثانيهما: إلى إهمالنا لكثير منها، كالطّب الذي هو علم الأبدان، والمحتاج إليه في كلّ الأزمان، وبقية العلوم الطبيعية والرياضية إلاّ النادر، مع أنه قد اعتنى بها علماء الإسلام وألّفوا فيها التآليف البديعة في نفسها وباعتبار وقتها، قلت في نفسها وباعتبار وقتها، لأنّ بعض العلوم السابقة كالطبيعية والرياضية والاستعمارية قد مهر فيها الأورباويون مهارة عجيبة وتفننوا في تحقيقه وتنقيحه”.
- وإذا كان التقصير والتفريط في تحصيل بعض هذه العلوم ظاهرة مجتمعية في العصور المتأخرة فإنّ علاّمتنا الصبيحي يدعوا إلى تجديد التمسك بها، والاهتمام بجميع أصنافها وأنواعها سواء كانت دينية أو طبيعية، عكس ما يفعله البعض في وقتنا الحاضر من إشهار أوراق حمراء تجاه بعض العلوم أو مدح علم وذم آخر، ” فلنقبل معشر المغاربة على تعلم سائر العلوم، وليكن لنا في كلّ واحد منها مقامٌ معلوم، ولنتبع علومنا الشرعية بتلك العلوم الأخرى المرعية، ولنكفر سيئة تقصيرنا السابق في حقّها بذلك، ولنكرع من حياضها الدافقة في أقرب المسالك، فبها سادت الأمم وصارت اليوم في الطريق المدني الأقوم، ولا التفات إلى طعن بعض الطاعنين في بعضها، فإنّ العلوم من حيث هي علوم لا يمكن أن ينالها الذّم بحال”.
- رؤية علامتنا الصبيحي هاته مقتبسة من منهج التحصيل المعرفي لدى العلامة اليوسي، الذي كتب في «القانون» يقول: ” ولا بأس بجميعها [العلوم] فنحن لا نتلفت إلى من يحرّم شيئاً منها، فإنّ العلم في نفسه هو غذاء العقل ونزهة الروح وصفة الكمال، وإنّما تختلف ثمرته في الشرف حسب الموضوع والغاية، وتختلف الأحكام بحسب النّية، حتّى علم السحر الذي يحرم استعماله بإجماع لو تعلّمه أحد ليؤذي به معصوم الدّم كان تعلّمه حراماً كعمله، ولو تعلمه بمجرد أن يعرفه، فيميّز بينه وبين المعجزة كان تعلّمه جائزاً أو واجباً، وعلم الأدب الذي هو جائز بإجماع تعلمه، لو تعلمه أحد لقصد أن ينبغ في الشعر ليهجو من لا يجوز هجوه أو يمدح من لا يجوز مدحه كان حراماً في حقّه، وإنّما الأعمال بالنيات”.
- ينتقل علاّمتنا الصبيحي من نقد الحالة المجتمعية إزاء هذه العلوم إلى نقد المناهج التي كانت تدرس بها هاته العلوم، والظرف التاريخي المنتقَد حالةً ومنهجاً هو عصر جامعة القرويين يوم كانت المركز العلمي الأول بالمغرب، فعلاّمتنا يرى أنّ ما كانت عليه مناهج التدريس في عصرها الأخير كانت تتقدّم بالعلوم خطوات إلى الوراء من حيث يُظنّ أنها تتقدّم بها إلى الأمام، وقد كان عدم التنظيم أولى مظاهر هذا الخلل المنهجي، فدروس الكبار يشترك فيها الصغار، والمصنّفات الكبرى يدرسها من لم يشتّم رائحة للعلم بعد، ” فترى الطالب المبتدئ يدخل المسجد لقراءة النحو مثلاً فتجد المدرس يدرس الألفية «بالمكودي» و«الموضح»، وربّما كان في آخرها فيجلس أمامه وهو إلى «الآجرومية» أحوج، وحيث يكون بصدد الطلب ويريد عمارة اليوم به فيذهب في وقت آخر لمدرس آخر فيجده يقرأ «مختصر خليل» بشرحي الخرشي والزرقاني وحاشية البناني والرهوني، وربّما في البيوع أو الإجارة، فيجلس أمامه بحكم الاضطرار، وهو إلى «المرشد المعين» أو «العشماوية» أحوج، وهكذا يقرأ الطلبة بلا ترتيب ولا تدريج فلا ينتج واحد بالمائة”.
- ومن مظاهر الخلل المنهجي في التلقين والمنتقَد من قبل العلاّمة الصبيحي الإطناب الزائد أثناء عملية التدريس وعدم مراعاة الحال، حال المتلقين والدارسين ” فتراه [المعلّم أو الشيخ] يتشدّق بجلب الأنقال الغريبة ويمضي الوقت في المناقشات اللفظية والاحتمالات ونحوها، مع أنّ الذي ينبغي في التدريس العام مطلقاً هو ما أشار إليه بعضهم: “حدّ الإقراء، تصحيح المتن وحلّ المشكلات، والزيادة على هذا ضررها بالمتعلم أكثر من نفعها، وقال آخر: رياءٌ وسمعةٌ”.
- ومن مظاهر هذا الخلل المنهجي-أيضا-الاهتمام بالحفظ والتكرار دون إيلاء عملية التحصيل والفهم والتفهيم حقّها، ” إذ المقصود من التعليم هو حصول صورة الشيء في عقل المتعلم، فلا بدّ للمتعلم من أن يبرهن لمعلمّه على ذلك الحصول حتى إذا لم يكن فلا بدّ للمعلم من أن يكرر الإلقاء بتعبير أوضح حتى يحصل المقصود، «وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثاً حتّى تُفهم عنه»”، رواه البخاري.
د. محمّد شابو