د. محمّد شابو
- يواصل علاّمتنا الفقيه أحمد الصّبيحي حديثه عن أصول أسباب الرّقي الذي يكون به تقدّم وازدهار الأمم والشعوب بالتطرق إلى سبب يعتبره رئيساً في أي عملية نهضوية أو تنمية اقتصادية بالخصوص، يتعلق الأمر بعلم الفلاحة كعلم قائم بذاته له الدور البارز في التنمية من جهة، وله أهميته وأصوله في المنظومة الحضارية الإسلامية من جهة أخرى.
2.وهو العلم الذي وضع فيه العلماء المسلمون المئات من المؤلفات والمصنفات، منها على سبيل المثال: «كتاب الفلاحة» لابن بصّال، وكتاب: «زهر البستان ونزهة الأذهان» لأبي عبد الله محمّد بن مالك المعروف بالتغنرى، و كتاب: «الفلاحة» لأبي زكارياء يحيي بن محمّد ابن العوّام الإشبيلي، وكتاب: «إبداء الملاحة وإنهاء الرّجاحة في أصول صناعة الفلاحة» لابن ليون التجيبي، وكتاب : «المقنع في الفلاحة» لابن حجّاج الإشبيلي، وكتاب: «جامع فوائد الملاحة في علم الفلاحة» لرضي الدين الغزي، وكتاب: «علم الملاحة في علم الفلاحة» لعبد الغني النّابلسي، وغيرها الكثير.
3.علاوة على أهمية هذا العلم وكثرة المصنفات فيه، وأثره التنموي الكبير؛ فإنّ العلاّمة أحمد الصبيحي يرى في أرض المغرب وتربته أرضاً فلاحية ” قبل كلّ شيء، صالحة على الجملة لأنواع الفلاحة من بذر الحبوب، وغرس الأشجار، وجعل الخضر ما يوجد الآن، وما لا يوجد، بما جمع الله فيه من طيب التربة وجودة الهواء، واعتدال الحرارة، وكثرة الأودية والعيون، زيادة على مياه المطر الذي تجعل للزراعة الكبرى في غنى عن غيرها غالباً”.
- وإذا كان حال الأراضي المغربية بالصفة التي ذكرها، فإنّ الاستثمار الناجح في القطاع الفلاحي برأي علاّمتنا أساسه إيلاء علم الفلاحة أهميّة قصوى، مع ضرورة تيسير السبل لمن أراد الاستثمار في هذا المجال، فيحثّ على ذلك ويقول: “فعلينا معشر المغاربة، وخصوصاً ذوي اليسار والثروة منّا، بإحياء الفلاحة علماً وعملاً، ومدّ يد المساعدة لكلّ بصير بها، قصير اليد فيها، فبها ثروة البلاد، وغبطتها ورفاهيتها إذ ترخص المعيشة أوّلاً، ويفضل ثانيا عن حاجة البلاد ما هو الكثير الأثير الذي ينقل إلى الخارج ببدل جليل هو أصل الثروة وغبطة البلاد والعباد”.
- وقد وجد العلاّمة الصّبيحي في التشريع الإسلامي تحفيزاً وتشجيعاً للاعتناء بهذا المجال، فقد رتّب الأجر والثواب لمن يغرس غرسا أو يزرع زرعا أو يحي أرضاً مواتاً، ويورد في هذا السياق حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ” ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاّ كان له صدقة»، [أخرجه البخاري]. وقول النّبي صلى الله عليه وسلم أيضا: ” من كانت له أرض فيزرعها، فإن لم يستطع وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها إياه”.[أخرجه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” للغارس والغارس أجرٌ في كلّ ما يصيبه النّاس والطير من ثماره” [ أخرجه البخاري ومسلم].
- وبرؤية منفتحة وواقعية تجاوزت نظرة الشّك والارتياب التي كانت سائدة تجاه أيّ تقنية من المخترعات الغربية في مطلع القرن العشرين فإنّ الفقيه الصبيحي تبنّى الدّعوة إلى الاستفادة من المحدثات الغربية في مجال الزراعة وكتب قائلا: ” ثمّ إنّنا قدّمنا في سبب العلم أنّ الأورباويين مهروا في بعض العلوم كالطبيعية التي منها الفلاحة مهارة عجيبة صيّرت ما تقدّم فيها لأسلافنا السابقين في طيّ الإهمال، فعلينا أن نقتبس من معارفهم في هذا الباب ما نتخذه سبباً من أمتن الأسباب ولا سيما وقد رأينا بعض المعمرين منهم بمغربنا ينتجون النتائج الباهرة والأرض هي الأرض، وإنّما السبب الأصلي هو العلم، كما جربّنا معلوماتهم في زبر الأشجار والدالية، ورشّ الأخيرة ببعض المركبات الكثيرة الوجود، تقوية لها، واتّقاء من طواري كانت تذهب بمجهودات الناس، كما رأينا أيضا فائدة بعض الآلات الأورباوية كالمحاريث التي تشقّ الأرض الشّق التّام فينقلع ما يكون بها من عروق مضرّة، ما علينا أيضا إذا استعملنا جميع ما أفاده العلم والتّجربة حتّى تحصل النتيجة المرغوبة”.
- لا يمكننا أن نتجاوز هذا النّص الصبيحي دون أن نقف لنسجل واقعية فكر هذا الفقيه، وتقدّم رؤيته بالنظر إلى ما كان سائدا في وقته [ 1917م، تاريخ كتابة هذا النص] من الرفض للمخترعات الأجنبية من طرف بعض العلماء وإصدار فتاوى تحريم الاستعمال والاقتناء لها دون إدراك مقاصد النفع فيها والتي لم تكن لتتعارض مع المصلحة الشرعية فضلا عن الدنيوية، ولذلك نجد الفقيه الصبيحي يجعل من التجربة العلمية والرؤية العينية في موضوع الفلاحة كافية لتبني خطاب إصلاحي يدعو للاستفادة من هاته التجارب وآلاتها.
- ومن هنا يمكننا أن نسجل أنّ كثيراً من فتاوى الرفض التي وقّع عليها بعض العلماء في شأن المخترعات العصرية الأجنبية -كالتلغراف التي كتبت في شأنه العشرات من الردود والردود المضادة، وكالمطبعة التي حذّر الفقيه المرّاكشي محمّد السباعي من طبع الكتب بها -كان إدراك منافعها محجوبا في تلك الفترة؛ إلاّ أنّ مبررات الرفض اضمحلت مع مرور الزمن، وغرقت في السيل الحداثي الجارف، بل وربّما أصبحت تلك المبررات موضوعاً للندرة من طرف أبناء هذا الجيل.
- كان موقف الفقيه الصبيحي فيما يخصّ المخترعات الفلاحية موقفاً موضوعياً” فعلينا أن نقتبس من معارفهم في هذا الباب ما نتخذه سبباً من أمتن الأسباب ولا سيما وقد رأينا بعض المعمرين منهم بمغربنا ينتجون النتائج الباهرة والأرض هي الأرض، وإنّما السبب الأصلي هو العلم” ومادام أنّ هذه الوسائل تستخدم للنفع الإنساني “فما علينا إذا استعملنا جميع ما أفاده العلم والتّجربة حتّى تحصل النتيجة المرغوبة”.
10.وصلة بموضوع العلم والتجربة الذي تبّناه الفقيه الصبيحي بخصوص الإنتاج الفلاحي يحضر في هذا الصدد موقف فقيه آخر شبيه بموقف علامتنا الصبيحي، يتعلق الأمر بالعلامة الفقيه محمّد بن الحسن الحجوي، فمن المعلوم أنّ الرجل كان فقيها إصلاحياً واقعياً وربما بدرجة وإنتاج أكثر من الفقيه الصبيحي، وقد كان لمشاهداته ومعاينته لمعالم الحضارة الغربية النافعة منها ما جعله يتبنّى دعوة الاقتباس منها، ومن طرائف مشاهداته المرتبطة بحديثنا ما رواه عن نفسه في رحلته الأوروبية يوم خروجه من مدينة (فولكستون Folkton ) الإنجليزية قائلا:
11.” ثمّ بعد انفصلنا من فولكسطون علا بنا القطار وصارت المدينة كلّها تحتنا، ثمّ ظهرت لنا أرض فسيحة سهلة خضراء، تتخلّلها أشجار، ووصفُ الخضرة هو لازمٌ لأرض النجليز لكثرة البرودة، وجلّ هذا الأرض ترعى فيها أغنام كثيرة سمينة وغيرها من السوّائم، وهناك رأينا تلك الأغنام مقطوعة التابع كلّها، لأنّ بعض علماء النّجليز زعم أنّ الغنم إذا قُطع تابعها رجعت قوّته لبقيّة بدنها، ويزداد سُمنها، وجُرّب ذلك فصحّ فتبعوه كلّهم، فلا ترى الشّاة إلاّ وهي مقطوعة الذنب، فالأقطع هنا ليس ناقص البركة، بل هو هاهنا زائد البركة، إن كان ناقص الصّورة!”.
- اللاّفت أنّ الفقيه الحجوي كان من الفقهاء والعلماء الإصلاحيين المزارعين، وفي كتابها « الفكر الإصلاحي في عهد الحماية: الفقيه محمد بن الحسن الحجوي نموذجا» عقدت مؤلفته الأستاذة آسية بنعدادة مبحثا، سمته: «الحجوي المزارع»، تطرقت فيه لأنشطة الفقيه الحجوي الزراعية، وما كان يملكه من الأراضي، وتقول عنه: ” وقد استطعنا بفضل الكناش الذي كان يسجّل فيه الحجوي كلّ ما يتعلّق بالأمور الفلاحية، أن نطّلع على الأنشطة الفلاحية التي كانت يقوم بها، وعلى المنتوجات الفلاحية التي يزرعها من حبوب وخضر وفواكه بالإضافة إلى تربية المواشي، وكانت المعلومات التي دونها تتعلق خاصة بمرحلة الحرب العالمية الثانية”.
- وتتابع قائلة: “ولا شكّ أنّ في تجربة هذا العالم الممارس في القطاع الفلاحي هي التي جعلته يعرف مشاكله ومعاناة الناس من تأثيرات الحرب العالمية على الفلاحة، وقد وصف هذه المتاعب بقوله: وإنّي أخبر عمّا وقع في فلاحتي وفلاحة جيراني، وهاكم مثال هذه السنة أنني حرثت حبوباً في ضيعتين إحداهما باردة وأخرى حارة التربة، وكلّ منهم على الأسلوب المغربي القديم، فكانت فلاحتهما متقاربة، الكلّ ضعيف لا يفي محصوله بالترتيب!”.