1.لم تشتهرْ شَخصيّةُ الفقيه العَلاّمة محمّد بن الحَسَن الحَجْوي، شخصيّة صوفيّة بالمعنى اللّازم للكلمة، ومدلولها الاصطلاحي، غيرَ أنّ مَنْزَعَهُ الصُّوفيّ لا تكادُ تُخطئهُ العين، ونفَسُهُ فيه؛ يُبديه ولا يُخفيه، ويُظهرُه ولا يُواريه.
- أوّلُ مظاهر هذا النَّفَس الصُّوفيّ لدى الفقيه الحجوي يبدأُ من تعرّضه للحديث عن مفهوم التّصوف، والذي ليس برأيه إلا ” العلم المتعلّق بتصفية القُلوب، ليُشَاهِدَ بها علاّم الغُيوب، المــُشار إليه بحديث الإحسان: أن تعبُد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراهُ فإنّهُ يراك”، وهو علمُ أخلاق وعلمُ أذْواق.
- علمُ التّصوف الأخلاقي عند فقيهنا الحجوي يتعلّقُ بتصفية النّفس، وتطهيرها عن رذائل الأخلاق، وتحليتها بمعالي الأوصاف، ومحاسبة النّفوس على الأنفاس، وترك ما يُريب إلى مالا يُريب، مع الإكثار من العبادات والذّكر، وعدم الغفلة عن الله، ومدارُ المقصود منه: التّخلّق بأخلاق الأنبياء عليهم السّلام. أمّا علم التّصوف الذّوقي: فهو المتعلّقُ بأسرار العقائد وأسرار العبادات، والعمل بمقتضاهما، وفهم كلام الله، نتيجةً “لتحصيل الأدوات، وملازمة الخلوات، وتطهير القلب من الآفات”.
- تجلّي النَّفَسُ الصُّوفيّ، لدى الفقيه الحجوي يظهرُ عند ترجمته لأعلام التّصوّف في التاريخ مغاربة ومشارقة، إذ خصّص لبعضهم تراجم وافية في فكره السّامي، فترجم لإبراهيم بن أدهم، ومعروف الكرخي، وسرّي السقطي، وسهل بن عبد الله التستري، وعبد القادر الجيلاني، وابن عطاء الله السّكندري، والإمام الجُنيد الذي يصفه بقوله: “شيخُ الطّريقة وإمامها”، وينقل في شأنه عن الإمام ابن السّبكي في «جمع الجوامع»، قوله: “ونرى أنّ طريقة الجُنيد سيّد الصّوفية علماً وعملاً وصحبة، طريقٌ مقوّم، فإنّه خالٍ من البدع، دائرٌ على التّسليم والتّفويض، والتّبرؤ من النّفْسِ”، وترجم للإمام أبي الحسن الشّاذلي بقوله: “المغربيُّ ثمّ المصريّ ثمّ الإسْكندري، الضّرير الزاهد، الكبيرُ المقدار، تلميذُ الإمام ابن مشيش، وغيره، صاحبُ الأحزاب العجيبة في التوحيد والفناء، وذو الكرامات والفضائل العديدة”.
- والذي يُطيلُ النّفَسَ في تَتبُّعِ النّفَسِ الصُّوفيّ لهذا العَلَم الذي شَغَل النّاس؛ سوف يُلامسُ خيوط شمس تصوّفه أثناء الكشف عن ترجمته لبعض شُيوخه، بفيض حاله قبل لسان مقاله، من ذلك قوله عن شيخه العلّامة عبد المــَــــلِك بن محمّد العَلَوي الضَّرِير [ت. 1318هـ] “الفقيهُ الـــمُشاركُ، المــُتــَــــبرَّكُ به، وبأوراده وبأحزابه، وهو من أكبر وأبْركِ رجُلٍ لقيتُه”. وكقوله عن شيخه العلامة أحمد بن الخيّاط الزُّكَاري الحَسَني [ت. 1343هـ] “إمامُ أهل الورع والتّقوى، والمــُشارُ إليه في المغرب بإتقان العُلوم والفتوى، وجُنَيْدُ المـُــــتصوّفين من غير ارتياب… إلى تَواضُع وخفض جناح، وأخلاق تتأرّج منها البطاح»، وكقوله عن شيخه العلامة أحمد بن الجيلاني الأمغاري، [ت. 1352هـ]: “فقيهُ المــُــتصوّفين، وبقيّةُ العاملين والصّالحين، المـُــتّصفين المـــُــــــنصفين”.
- الحديثُ عن فقيهنا الحجوي مُتصوّفاً في هذا الجزء؛ سيأخذُ نفَساً أعمق، ذاك أنّه سيحرصُ على إبراز سَنده الصُّوفيّ الذي يصلهُ بأصل مادّة الطّائفة الدّرقاوية، مَولاي العَرْبي الدَّرْقَاوي [1239هـ]، ويعمدُ في «مُختصر العُروة الوثقى» إلى إيراده كاملاً مُتاكملاً مُسَلْسَلاً من لدنُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وواسطته في هذا السّند الصّوفي هو شيخهُ مُحمّد بن عبد السّلام ابن عبود المكناسي، [ت.1344هـ]، دفين مدينة سلا؛ الذي يقول في شأنه العلاّمة المؤرّخ عبد الرحمان بن زيدان في «إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس»: “صُوفيٌّ ينحو منحى أرباب الحقائق، كان لَهِجاً بالقرآن، مُتدبّراً لمعانيه، مُسْتَشْهِداً به في كلّ أحواله، قَلَّ ما ترى العينُ مثله في حاله، تجرّد على طريق أهل التجريد”.
- أمّا الفقيهُ الحجوي فَيَسيلُ مداد قلمه في الحديث عنه، فيقول: “شيخنا الصّوفيُّ المـــُتجرّدُ، الــمربّي الدّالُّ على الله بحاله ومقاله، المــرشدُ الباذلُ كلّ مجهود في النّصح والإرشاد، وردّ جماح العباد، كان كثير الذّكر والتّذكير لله، وبالله، وما لقيتهُ إلا وذكّرني في الله، وزهّدني في الدّنيا، وأرشدني لنَبْذ الغفلة، واتّباع طريق السّنة، وعمل الخير”.
- لم يكن فقيهنا الحجوي ليُفوّت ملازمة هذا الإمام الصّوفي الكبير، فقد صَحبهُ مدّةً طويلةً جدّاً، واستجازه في مرويّاته الصّوفيّة، “هذا وقد أجازني الشيخُ ابن عبود إجازةً عامّةً مُطلقةً، وخاصّةً في الأسماء الحُسنى، وسائر الأَوْرَادِ والأَذْكَارِ، وأَذِنَني في الإجازة في ذلك والتّلقين، وقد طالتْ صُحبتي به وجُلوسي بين يديه السّنين الطّوال منذُ العِقْدِ الأوّل من هذه المائة، إذ كان سيّدي الوالد رحمه الله يَحُضُّني على صُحبته والاستفادة منه”.
- وقد صَحِبَ شيخه ابن عبود في مسلكه الصّوفي صحبة أهل العلم والأسباب، لا صحبة أهل خرْقِ عوائد العادات، رغم محاولة شيخه جذبه لحضرته، والسّلوك به طريق أهل التجريد، وله في ذلك معه مراسلات، “وكان الشيخُ يريدُ تجريدي على طريق الصّوفيّة كما هي عادته”؛ وما أقارنُ حالة الشيخ ابن عبود مع الفقيه الحجوي إلا بحالة الإمام محمّد البوزيدي مع الإمام أحمد بن عجيبة في حثّه له على سلوك طريق القوم على خُطى أهل التجريد، فكان أن أَقْدمَ بنُ عجيبة، وأَحْجَمَ الحجوي، ومن يدري؛ فلربّما كنّا سنرى شخصيّةً صُوفيّةً في القرن الرابع عشر الهجري بحجم شخصيّة الإمام أبي العباس أحمد بن عجيبة، فالمشربُ واحد، والشّخصيتان بخصوص العلم الظّاهر تكاد تتقاربان.
- بَيْدَ أنّ فقيهنا الحجوي قَطَعَ علينا هذا الحُلُم الطّامِح بقوله: “غير أنّي من أوّل يوم اشترطتُ عليه أنّ صُحبتي معه للتّبرك والاستفادة، مع الاستنارة بأنوار أسراره، وصالح دعواته، ونافذ همّته، ولكن مع إعطائي حريّة بقائي في حدود العمل بالسّنة والظّاهر، وسلوك سبيل عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفّان، لا سبيل أبي ذرّ الغفاري وسلمان الفارسيّ، والكُلّ على هُدىً من ربّه لضَعفي عن ذلك، فعاهدني …
- وقال لي: “إنّ هذا مقامُ وصُول أيضاً، وله خطورته، وفيه نفعٌ عامٌّ ببثّ العلم والإرشاد في حدود الظّواهر التّكليفية، فكان مُوفياً لي بعهده، مُنوِّراً لي بأشعة أنواره النّافذة، والحمد لله، وفي «الحكم العطائية»: إرادتُك التّجريد مع إقامة الله إيّاك في الأسباب من الشّهوة الخفيّة، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التّجريد نزولٌ عن الهمّة العليّة”.
د. محمد شابو