1.كثيرون هم الكتاب والباحثون الذين تناولوا شخصية الفقيه العلامة محمد بن الحسن الحجوي، كلٌّ نظر إليه من زاويته، وبدافع من اهتمامه، وجانب تخصصه، إلا أنّ شهرته الكبيرة كعالم من علماء النهضة المغربية وشداة الإصلاح، وظلال شجرته العلمية الكثيفة، غطت في بعض الأحيان على إشارات دقيقة في كتاباته الفكرية ما زالت في حاجة إلى سبر غورها، واستكناه معانيها، واستنطاق نصوصها، وبالأخصّ فيما يتعلق ببعض قضايا الفكر الصوفي.
2. للفقيه الحجوي آراءٌ وأنظارٌ بمثابة شذرات فكرية صوفية نثرها على صفحات بعض كتبه، ومن ذلك رأيه في كلام أهل الأذواق الصادر عن أقطاب الفكر الصوفي والمعبر عنه بالكلام العرفاني، أو التفسير الإشاري؛ إذ من المعلوم كما يقول الشيخ العلامة عبد الله بن الصديق أنّ “الصوفية لهم في القرآن والسنة تلميحات وإشارات تدلّ على إلهامات إلهية، وتنزلات قدسية، وكما استخرج علماء الأصول والفقه من ألفاظ القرآن والسنة بطريق الإشارة أحكاما تشريعية، كذلك استخرج الصوفية بطريقها علوما ربانية”.
3. من هذا المنطلق؛ فقد خصص فقيهنا الحجوي في كلامه على سورة الإخلاص جزءا مهما على طريق أهل الإشارة، في اعتراف منه بهذا النوع من التأويل لكتاب الله العزيز، مع إشارته إلى أنّ “باب الإشارة لا أوسع منه في التفسير، فهو كدائرة الخيال، التي قيل إنها تسع الأكوان”. ولذلك قال بصريح العبارة وبالعنوان العريض: “الرابع عشر: الكلام على السورة من جهة علم التصوف والأذواق”.
4. وقبل أن يبدأ الفقيه الحجوي الحفر عن كنوز معاني سورة الإخلاص مستعينا بوسائل أهل الباطن، ويشرع في استخراج دررها على طريق أهل الإشارة، وقبل أن يخلع نعليه ويدخل عليها الباب، جلس الفقيه مليا على الأعتاب، ليسجل وهو يستعدُّ لخوض عباب بحر أهل الحقائق، وفاءه للمنهج العلميّ الذي رسمه علماء أهل الظاهر، فيقول : “اعلم أنّ كلام أهل الأذواق إنما هو على سبيل الإشارة والاحتمال الذي يمكن أن يكون مراداً، زيادة على المعنى الظاهر المتعارف عند العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِقَومٍ يَعْلَمُونَ} { بِلَسانٍ عَرَبيّ }.
5. واشترط في الاستدلال العرفاني، وفي المعتبر من كلام أهل الإشارة في التأويل ما اشترطه العلماء الأئمة قبله كالشاطبي والسيوطي وابن عجيبة وغيرهم، من كونه لا يناقض المعنى المتعارف في التراكيب اللغوية، وأن يكون اللفظ محتملاً له وإن على بعد، مع الاعتراف بالمدلول اللغوي الأصلي العربي، وأن يكون لهذا المعنى الإشاري المستنبط دليل يشهد له، وأن يكون المؤول عارفا بالقواعد العربية محصلا لها، وعارفا بالتفسير الظاهري وقواعده العامة، “وإذا اختلّ شرطٌ من هذه الشروط، فلا يكون إشارةً وفهما لدنيا نورانيا، بل شيطانيا ظلمانيا، وإلحادا مبينا “، كما يقول رحمه الله.
6. لا يعترف الفقيه الحجوي بتأويل أهل الإشارة مالم يقرّ صاحبه بظاهر العبارة، ويقدّم في تقريره المعنى الظاهر على المعنى الباطن، يقول: “ولا يجوز لأحد أن يتكلم بالإشارة في القرآن إلا بعد أن يكون عارفاً بالقواعد العربية محصلا لها، عارفا بالتفسير الظاهري”، وينقل في هذا عن الإمام سعد الدّين التفتازاني قوله: “وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أنّ النصوص على ظاهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف عن أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان، ومحض العرفان”.
7. وهذا ما ذهب إليه الإمام العارف أحمد بن عجيبة بقوله: “واعلم أنّ القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر، وباطن لأهل الباطن، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم، ولا يصحّ ذكره إلا بعد تقرير الظاهر، ثمّ يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة، وإشارة دقيقة، فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول، ولا يدرك بتواتر النقول”.
8. وقد أورد الفقيه الحجوي أمثلة وهو يؤصل لمشروعية التأويل الإشاري، وذلك بعد أن أورد نصا للإمام ابن عطاء الله السكندري الذي يقول فيه: ” اعلم أنّ تفسير هذه الطّائفة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جُلبت الآية له، ودلّت عليه في عرف اللسان، وثمّ أفهامٌ باطنةٌ تفهمُ عنه الآية والحديث لمن فتح الله قلبه”.
9. قال الفقيه الحجوي: ” قلتُ: ومن ذلك ما فهمه عامة الصحابة من سورة النصر، لـما جمعهم عمر وسألهم عنها فقالوا: أمر الله نبيه أن يسبح ويحمد ويستغفر اللّه، وقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه الله إياه، فقال له عمر: “ما أعلمُ منها إلا ما علمتَ؛ فالمعنى الأوّل الذي فهمه الصحابة: هو الموضوع له اللفظ الجاري على قوانين اللغة وضوابط مصطلحات العرب، وابن عباس وعمر كلٌّ منهما يسلمه، ويزيد على ذلك بأن أخذا الإشارة من السّورة إلى أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمره بالتسبيح والتحميد والاستغفار”.
10. ومن ذلك تفسيره لمعنى كلمة الباطن الواردة في حديث: «القرآن له ظهر وبطن»، بالفهم الذي يختصّ الله به من يشاء من عباده، قال: ” قلتُ: ويحتمل أن يكون المراد بالبطن ما أشار إليه سيدنا علي كرّم الله وجهه كما في الصحيح بقوله: «ما ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، أو فهمٌ أُوتيه رجلٌ مسلم» ، وهو معنى قوله عليه السلام: «رُبّ مبلغ فقه إلى من هو أفقه منه»، لأنّ الإدراك فتوحٌ إلهية، ونفحاتٌ ربانية، فرُبّ مجتهد يفهم من آية ما يخفى على كثير من المجتهدين، وكم وقع لمالك والشافعي أمثالهما”.
11. يدخل الفقيه الحجوي بعد هذا إلى الكلام على سورة الإخلاص مجلياً معانيها بحقائق أهل الإشارة، وينقل في ذلك عن أرباب السلوك في استيعاب لمصادر الفكر الصوفي من غير عقد معرفية، فنجده ينقل عن الإمام القشيري وابن عطاء الله السكندري والغزالي والجزولي صاحب الدّلائل، والشيخ زرّوق، والحكيم الترمذي، وعزّ الدّين بن عبد السلام المقدسي، وغيرهم.
12. وفي حديثه عن لفظ الجلالة من السورة ينقل عن المقدسيّ قوله: ” ثمّ اعلم أنّ جوهرة هذه الصدفة يعني كلمة الإخلاص، وكعبة حرمها، ومصلى قبلتها، وروضة حضرتها، وزهرة فننها، وثمرة زهرتها، وبيت قصيدتها، ومعنى صورتها التي تشير سويداء القلوب إليه، وتنطبق السرائر بصفاتها عليه، هو اسم الجلالة من قولك: {الله} لأنه هو الاسم الأعظم للجانب الـمعظم فهو المقصود من كلمة الإخلاص”.
13.ويثبتُ فقيهنا الحجوي في هذا السياق ما قاله أبو الحسن الششتري:
يــَا سَاقـِــــــــــــــــــــيَ القوم من شَــــــذاهُ ** الكُلُّ لَـمَّا سَقيْتَ تـــَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهُ
عاتبــــــــوا وبالسّكر فيـــكَ طابـُـــــــــــوا ** وصرّحوا بالهَوى وفـــَـــــــــــــــــــــــــــــاهُو
يــــــــا عاذِلي خَلّـــــــــــــــــــــــــــــــني وشُربي ** فلَستَ تدري الشّراب مـــا هو
واسْمــــــــَـــــــــع ْإذا غَنَّـــــــتِ الـــمَــــــــثَاني ** تــــــــــــقول: ياهو لبّيـــــــــكَ يَـــــــاهو
مــــــــا قلتُ للقلـــــــــــــــب أين حِبّي ** إلا وقال الضّميرُ: هَـــــــــــــــــــــــــــــا هُـــــــو
14. لن يستطيع المجال الإحاطة بالكلام عن الفقيه الحجوي وآرائه في الفكر الصوفي، فعمود الحديث لا يتحمل، ومن ثَمّ يبقى حديثنا عنه بحدّ ذاته إشارة.
د. محمد شابو