- يَدينُ الفكرُ المغربي في عمومه بكثير من الفضل إلى مؤسسة الزّوايا الصوفية، التي حافظت على خصوصيته، وأسهمت بدور كبير وفعّال في ثباته واستمراريته.
- أُنشأت هذه الرّباطات الرّوحية في الأصل لتقوم بوظيفة إصلاحية وأخرى اجتماعية. ولن نجد أفضل من الإمام الحسن اليوسي [ت: 1102هــ] في (رسائله)؛ ليوضح لنا أبعاد هاتين الوظيفتين اللتين أُسّست من أجلهما الزّوايا بالمغرب؛ فمعنى الزّاوية عنده مركبٌ من أمرين:
– أحدهما: التفرغ لعبادة الله، ويكون ذلك بالهروب من التشاغل بالدّنيا، والانكماش في خلوةٍ أو في ركن بيت أو مسجد للاشتغال بذكر الله، والإقبال عليه.
– ثانيهما: إطعامُ الطعام، وهو راجعٌ إلى إكرام الضيف وإلى الصدقة؛ إذ العبد مأمورٌ بعبادة الله، ومأمورٌ بالإحسان، ومن كان هذا حاله فهو ذو زاوية، أي زاوية.
- يحضر البعد الاجتماعي لمؤسسة الزّوايا داخل المجتمع المغربي بشكل قويّ أيام الأزمات والنكبات والمجاعات والكُرب والأوبئة؛ فكانت تُجسّد بحضورها ودورها ملحمةً إغاثية إجتماعية مدنية يعزّ نظيرها. وفي هذا السياق يحضر الدّور الاجتماعي لأحد كبار شيوخ التصوف القادري بالمغرب، وهو الشيخ سيدي علي بن محمد؛ الذي اشتهر بلقب: سيدي علي بودشيش؛ لكونه كان يُطعم الناس أكلة “الدّشيشة” أيام المجاعة بزاويته.
- يصوّر لنا -أيضا- الإمام محمد بن الطّيب القادري [ت: 1187هــ] في «نشر المثاني»، بعض مظاهر هذا التكافل الاجتماعي الروحي الذي كانت تضطلع به زاوية أهل الدّلاء، وذلك عند ترجمة شيخ الزّاوية الإمام محمد بن أبي بكر الدّلائي [ت: 1046هـــ]، حيث يقول في شأنه: ” كان آيةً باهرة في إطعام الطعام، للخاص والعام، وكانت له برمةٌ مُعدّة لطعام المساكين، لها قيّمٌ يخصّها. أقلّ ما قيل: أنها تسع من اللّحم بقرةً أو ثوراً، والكسكاس الذي يوضع عليها يسع أكثر من وسق، ويُلقى تحتها في الدّفعة الواحدة من الحطب قدر حمل الدّابة، والجفنة التي كان يجعل لهم الطّعام فيها تكفي المئين من الناس، وتدعى قديحة، ولكثرة ما كانوا يصنعون من الطعام كانوا لا يعالجون تبريد ما يحتاج إليه كالكسكس بالأيدي، لعجزها عن تبريده، بل بالألواح التي يذرى بها الزّرع عند الدّرس، هذا شأنه على الدّوام وفعله مع الخاص والعام”.
- علاوةً على الدّور الرّوحي والاجتماعي الذي كانت تقوم به هاته المؤسسات، فإنها أصبحت مركزاً للإشعاع العلمي، والنبوغ الفكري بالمغرب، بل ومساهِمةً في الحفاظ على خصوصية هذا الفكر، ولا غرو في ذلك؛ فقد كان معظم شيوخها من أساطين العلماء، وسادات الفقهاء، وعلى سبيل المثال في هذا السياق، يقول المرحوم الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله: “وقد تبلورت الزّعامة العلمية خلال القرن الحادي عشر في ثلاثة من قادة الصوفية، هم: محمد بن أبي بكر الدّلائي المجاطي [ ت: 1046هــ]، رئيس زاوية الدّلاء بالأطلس، ومحمد بن ناصر الدّرعي [ت:1085هــ]، رئيس زاوية درعة بالصحراء، وعبد القادر الفاسي الفهري [ت:1091هـــ]، صاحب الزّاوية الفاسية”. وهؤلاء الأعلام الثلاثة هم الذين قيل فيهم: لولاهم لانقطع العلم بالمغرب.
6.بلغت الحركة الفكرية في عهد هؤلاء الأعلام مبلغاً غير مسبوق؛ تأليفاً وتدريساً وطلاباً، وكانت تدرس في زواياهم العلوم المختلفة، والفنون المتعدّدة، مع التكفل بالآلاف من الطلاب. يحدثنا الإمام أبو سالم العياشي [ت:1090هـــ] عن شيخه محمد بن ناصر، واصفاً حالته العلمية، فيقول: “حضرتُ مجالسه في كثير من العلوم فقهاً وتفسيراً ونحواً وحديثاً وتصوفاً، عديم النظر في العربية، يحفظ التسهيل عن ظهر قلب”.
7.كانت المجالس العلمية والفكرية في عهد هذا الإمام لا تنقطع أبداً، سفراً وحضراً، وعند سفره تتحوّل زاويته إلى قافلة علمية متحركة. ومن فريد مراسلاته إلى أهله بهذا الخصوص وهو في طريقه إلى الحج بعد أن دخل مدينة توزر التونسية: ” إنّنا على أكمل ما يجب من الاجتهاد في التدريس، ختمنا ألفية ابن مالك خمس عشر مرة، ومختصر خليل مرة، والتسهيل مرة، واللاّمية مرات، وديننا ولله الحمد كما يجب”.
8.أما دورُ زاوية أهل الدّلاء ومشيختها في نشر العلوم وبثها فأشهر من أن يذكر؛ يكفي أن نشير إلى دورها في المحافظة على علوم اللّغة العربية وآدابها. عن هذا الدّور يحدثنا العلاّمة سيدي عبد الله كنون فيقول: ” إنّ الثقافة الأدبية واللّغوية كانت في الناحية التي درس فيها اليوسي، أقوى منها في فاس، بل إننا نقول: إنّ الثقافة اللّغوية المتينة التي كانت موجودة في زاوية الدّلاء هي التي أحيت دِماء الأدب في المغرب بعد عَدم”.
- لا شكّ أنّ لهذه الخصوصية الجامعة بين العلم والتصوف لمشيخة الزّوايا، دورها البارز في الإبقاء على الفكر المغربي محافظاً على عِلميّته ووسطيّته واعتداله، يقول المرحوم الأستاذ علال الفاسي: ” ومما امتاز به أهل التصوف المغربي، أنّ معظم رجاله ودعاته من أهل العلم بأصول الدّين وفروعه، ولذلك فهم يعرفون كيف يكيفون آراءهم، وقلما تجدهم مصطدمين مع العلماء كما وقع في المشرق العربي. والتصوف المغربي إلى جانب الفقه المالكي له الأثر الفعال في توجيه كلّ الأفكار والسياسات التي جرت ببلادنا. فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”.
د. محمد شابو