كلما تلوت قوله تعالى في سورة إبراهيم:((ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون))، تذكرت بفيض عاطفي غامر كلمات طيبات، نفحنا بها أساتذتنا الكرام رجالا ونساء، مغاربة وأجانب؛ وهم يبثون في نفوسنا الغضة حب البحث عبر نصحنا بقراءة كتب معينة تغني رصيدنا المعرفي، وإبان تكليفنا بإعداد عروض تعزز تحصيلنا لمضامين مقرراتنا الدراسية.
وببركة تلك الكلمات والتوجيهات النيرة، اهتديت إلى مطالعة باقة من الكتب من أبرزها: “المنقذ من الضلال” للإمام أبي حامد الغزالي، و”ضحى الإسلام” بأجزائه الثلاثة، لأحمد أمين، و”البارودي رائد الشعر الحديث” لشوقي ضيف، و”قصة الفلسفة اليونانية” تصنيف أحمد أمين وزكي نجيب محمود.
ثم انجذبت بوتيرة أقوى، بمعية نخبة من أقراني في المرحلة الثانوية، نحو الأنيس المخلص، فكان تبادل الكتب والمجلات، إعارة واستعارة، نسجا لأرفع الصلات وأسماها بين فتية جمعتهم أواصر الأخوة، والزمالة، والرفقة في حجرات الدرس بمعلمة تطوان، ثانوية القاضي عياض العريقة.
ولأن وسائل الاستنساخ لم تكن رائجة ومتيسرة وقتئذ، فقد كان المعتمد والمعول عليه هو النسخ اليدوي، فكم صفحات نسختها بخط يدي، لأعيد الكتاب إلى صاحبه في الأجل المضروب !
وكم فرحة تغمرني غب مراجعة مذكرات ودفاتر دونت في بعضها باقات شعرية متنوعة العصور والألوان والأغراض، ونقلت في أحدها فصولا من كتاب “عبقرية محمد” لعباس محمود العقاد!
وأوراق من الحجم الكبير دونت فيها صفحات كاملة من كتاب “التثقيف الذاتي” لسلامة موسى، وأخرى نسخت فيها كتيبا كاملا من سلسلة “اقرأ” المصرية، تضمن تعريفا ببوذا، وزرادشت!
ونتف من كتاب “نقد الفكر الديني” للمفكر صادق جلال العظم؛
وفقرات من كتاب حقوق الكاتب (بالفرنسية) للمنشق الروسي ألكسندر سولجنستين؛
ولمع من كتاب “شبهات حول الإسلام” للمفكر والداعية محمد قطب.
وما أن اجتزنا المرحلة الثانوية نحو رحاب الجامعة حتى غدت بيوت بعضنا ينشرح صدرها، رغم ضيق فضائها، لاحتضان جلسات تثقيفية وتربوية، ازدانت موائدها بأنوار آيات الذكر المبين، ورحيق جوامع الكلم الطيب، وغرر سيرة الحبيب المصطفى…
كما عرضنا وناقشنا في أخرى فصول كتب من مشارب شتى، أذكر منها: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي، ومبادئ الإسلام لأبي الأعلى المودودي، وفقه السيرة لمحمد سعيد رمضان البوطي، وحوار مع صديقي الملحد لمصطفى محمود، وحتى يغيروا ما بأنفسهم لجودت سعيد، ونحن والتراث لمحمد عابد الجابري، والحركات السرية في الإسلام لمحمود إسماعيل، ومشروع رؤية جديدة لطيب تيزيني، ومقدمات لدراسة المجتمع العربي لهشام شرابي، وجاهلية القرن العشرين لمحمد قطب، و الماركسية والعالم الإسلامي للمستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون…
ثم جاءت مرحلة الخلوة، حيث عكف كل واحد منا على المصادر والمراجع المناسبة لتخصصه الجامعي، فكان الانفتاح على أبواب الثقافة العربية الإسلامية، والإقبال على ذخائرها.
وفي هذا السياق، كان أخلص أنيس وأعز جليس لي: ألفية ابن مالك في النحو مقرونة بشرح ابن عقيل، وميزان الذهب في العروض والقوافي لأحمد الهاشمي، وعلوم البلاغة للشيخ أحمد مصطفى المراغي، والعمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني، وفقه اللغة لعلي عبد الواحد وافي، ودراسات في فقه اللغة لصبحي الصالح، وتاريخ النقد الأدبي عند العرب للأستاذ طه أحمد إبراهيم، وتاريخ الشعر السياسي لأحمد الشايب، وكتب الدكتور شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي، والفن ومذاهبه في الشعر العربي، والعصر الإسلامي، واتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري لمحمد مصطفى هدارة، والأدب ومذاهبه للناقد محمد مندور، والشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، والأدب وفنونه لعز الدين إسماعيل.
وحب الحصيد في هذا كله، أن أجواء الحوار، والنقاش، والمجادلة بالتي هي أحسن، فيما تحققت مطالعته ومناقشته مع صفوة الصحب وقتئذ، هو ما أسهم، لاحقا، في تغذية شغف التثقيف الذاتي لدى كثير من أقراني، وأبقى جذوته متأججة في النفوس، وحضوره ماكثا في الذاكرة إلى اليوم!
ولله در القائل: فهم سطرين، خير من حفظ وقرين، ومذاكرة اثنين، خير من هذين.
د. محمد محمد العلمي