ظلت أسئلة المغايرة التي تفرزها الذات في مواجهتها لتناقضاتها ولمنغلقات واقعها، أفقا مشرعا أمام البحث والتأمل. وظلت قضايا الاندماج داخل فضاءات “الآخر” الأوربي سؤالا متجددا بامتياز لدى جل الكتاب والباحثين المنشغلين برصد التموقعات الكبرى التي من المفروض أن تؤطر حياة المواطن الفرد، في زمنه المخصوص وفي مجاله الجغرافي المحدود. لقد قيل الشيء الكثير عن قضايا الهجرة نحو أوربا، وظهرت أعمال مسترسلة تراوحت في منطلقاتها المنهجية، وتباينت في مرجعياتها وفي خلفياتها الفكرية والإعلامية والأكاديمية. وازداد الأمر حدة مع بروز عودة جماعية لمقاربة أسئلة علاقة الذات بالآخر، من موقع التجاذب الذي ظل يؤطر الرؤى المتبادلة بين “الآخر” الغازي والمستعمر من جهة، و”الأنا” المتطلعة للحرية وللعيش الكريم من جهة ثانية. وإذا كان مجال البحث الأكاديمي قد أفرز غنىً مثيرا من الأعمال المرجعية والتأسيسية بالضفتين المغربية والإيبيرية وخاصة في مجالات علوم التاريخ والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، فإن الكتابة الإبداعية لم تكن بعيدة عن هذا المجال، إذ برزت أعمال تأصيلية سعت إلى إعادة مقاربة الموضوع وفق رؤى تخييلية رحبة، غالبا ما كانت تمتح منطلقاتها من صلب واقع عنيد ظل يرسم للمهاجر سقف واقعه البئيس في ظل تصاعد موجات العداء للهجرة وللمهاجرين، وفي ظل بروز قوى اليمين العنصري المتطرف بأوربا المنظور له كخلاص مفترض أمام كل التهديدات المزعومة التي تطال أمن أوربا واستقرارها ومستقبلها، وفي ظل طغيان فقاقيع الخطاب الشعبوي الملتف حول التاريخ وحول الواقع في سعيه لاختلاق أساطيره ولتبرير “فتوحاته”، وخاصة بالجارة الإسبانية، حيث نتقاسم الجوار والتاريخ والقيم والمصير.
وإذا كانت المتابعات الإعلامية قد نجحت في توجيه الرأي العام المحلي الإسباني في حروبه الدونكيشوتية ضد “المرو” بصوره النمطية الجاهزة، فإن الكتابة الإبداعية التخييلية، اكتسبت الكثير من الرؤى الثاقبة التي نجحت في تفكيك السياقات وفي إنضاج المقاربات الرصينة القادرة على استيعاب ملابسات قضايا الهجرة في أبعادها الجيوستراتيجية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإنسانية، بشكل يتيح إمكانيات هائلة لمقاربة الموضوع بعين نافذة لا تكترث لضجيج اليمين الفرنكوي العنصري، ولا لحملات التجييش الموجهة، ولا لابتزاز لوبيات المصالح الاستعمارية المتجددة. فالكتابة الإبداعية تقوم على استلهام عطاء ما تلتقطه العين الفاحصة من جزئيات ومن وقائع قد لا تثير أدنى اهتمام لدى الفاعل السياسي أو المؤطر الجمعوي. وبذلك، تستطيع أن تعيد تركيب الوقائع بعيدا عن ضغط اللحظة وعن إكراهات السلط الرمزية والعقد التاريخية التي تطبع علاقات المغرب بجيرانه الإيبيريين.
في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور رواية “المشي على الريح- موت في المنفى”، للمبدع عبد الحميد البجوقي، سنة 2018، في ما مجموعه 132 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول عموما، إن المؤلف قد استطاع الارتقاء بحصيلة عطاء تجربة طويلة من العمل بين صفوف المشتغلين بقضايا الهجرة فوق الأرض الإسبانية. فقد كان من مؤسسي إطارات مدنية وجمعوية ذات صلة بهذا المجال، واحتك بهيآت المجتمع الإسباني وخاصة في صفوف اليسار وتنظيماته الحزبية والنقابية. وبذلك، أصبح الأستاذ البجوقي واحدا من بين أكثر المغاربة اطلاعا على قضايا الهجرة الأجنبية بإسبانيا، سواء على مستوى ضبط سياقاتها التاريخية، أم على مستوى رسم معالمها وتوزيعاتها الجغرافية، أم على مستوى رصد امتداداتها داخل بنية المجتمع والدولة الإسبانيتين، أم على مستوى تأثيراتها على نسق التمثلات الذهنية المتبادلة بين المغاربة والإسبان. لذلك، فإن صدور عمل إبداعي يشتغل على قضايا الهجرة، لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية هذه الخصوبة الاستثنائية التي تشكل جزءا قائما داخل سيرة الأستاذ البجوقي الخاصة، وداخل رصيد عطائه الجمعوي والمعرفي والثقافي المتداخل.
ينهض نص “المشي على الريح” على فعل استرجاعي لسير أبطال فاعلين داخل دهاليز المتن، وعلى رأسهم “رشيد” المعارض المغربي، و”مامادو” المهاجر النيجيري، و”إيفا” المواطنة الإسبانية. وبين هذا وذاك، تنهض شخوص على شخوص، وتبرز عوالم على عوالم، وتتناسل محكيات على محكيات، لتعيد تركيب الوقائع في شكل شهادة ضد ظلم اللحظة وضد بؤس المآل وضد تناقضات قوى اليسار والتقدم والحرية. فهذه القوى التي جابهت ديكتاتورية فرانكو وناضلت من أجل إسبانيا الديمقراطية، هي نفسها التي تعيد إنتاج أساليب القهر والتضييق على المهاجرين. في هذا الإطار، يقول السارد مستحضرا سياقات إصدار الحكومة الإسبانية لقانون الهجرة بإسبانيا: “هو قانون الأجانب العنصري المقيت، قانون عنصري صدر ديمقراطيا في دولة ديمقراطية وفي ظل حكومة اشتراكية بقيادة الاشتراكي فيليبي غونصاليص، ألم أقل لك عزيزتي أن ليس كل ما هو ديمقراطي عادل، وأن الغرب يكيل بمكيالين في عدالته المزعومة، ومؤسساته الشرعية المستقلة تسن قوانين خاصة بالأجانب تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان التي يتبجح بريادته في تنزيلها؟ إنها إسكيزوفرينيا الغرب المسيطر…” (ص ص. 111-112).
ينحو المؤلف نحو توظيف ملكات لغته التخييلية، ليعيد ترصيص عوالم مشيدة داخل أبراج الذاكرة الجماعية المرتبطة بالمغرب وبإسبانيا، بجروحها وبندوبها وبانكساراتها، ثم بأحلامها المؤجلة وبطموحاتها المعطوبة. في هذا الإطار، أصبحت للطوبونيميا قيمة جمالية في تأثيث النص وفي ضمان سلاسته وانسيابيته. تحضر مواقع وأعلام لتشكل بنية مهيكلة للنص، ولتفرز محكيات على محكيات، مثلما هو الحال مع مواقع “باب الشمس” بالعاصمة مدريد، وساحة القديس دومنغو، وشارع مونطيرا، وساحة لافابييس، ومركز موراطلاس لاحتجاز المهاجرين السريين بمدريد، وسوق الراسترو، وحي فاجيكاس،… وفي المغرب كذلك، يطفح النص بإشارات لمعالم قائمة لا شك وأنها تشكل علامات فارقة في مسار خطوط الهجرة الإفريقية نحو أوربا، مثلما هو الحال مع مدن طنجة، وتطوان، والفنيدق، وواد لاو، والناظور،… وإلى جانب هذا التوظيف الطوبونيمي الدقيق والثري، ظل الأستاذ البجوقي مستثمرا لوقائع محددة في تاريخ إسبانيا الراهن، كان لها الدور البارز في رسم محطات التحول في واقع الهجرة الإفريقية والمهاجرين الأفارقة فوق أرض شبه الجزيرة الإيبيرية، مثلما هو الحال مع ظروف صعود اليمين المتطرف خلال الانتخابات الأخيرة، وتداعيات أحداث الإيخيدو بألميريا، وحيثيات استمرار الإسبان في إنتاج رؤاهم وتمثلاتهم الجاهزة تجاه المغرب وتجاه “المورو”، ذاك الجار المقلق حسب التعبير الأثير لقطاعات واسعة من المنابر الإعلامية الإسبانية المعاصرة.
وإذا كان نص “المشي على الريح” يراهن على كثافة المعنى، وعلى انسيابية السرد الأخاذ لوقائع خاصة بحالات إنسانية متداخلة، فإن منطق الاسترجاع التخييلي يظل عنوانا ناظما لكل منعرجات السرد، مما يجعل من النص كتابا مفتوحا لقراءة الملفات “الأخرى” في قضية الهجرة الأجنبية فوق الأرض الإسبانية. لقد استطاع المبدع عبد الحميد البجوقي التقاط تفاصيل مجهرية وجزئية ظلت -دائما- منفلتة من بين ثنايا السرديات التاريخية التخصصية، الأمر الذي أتاح له إمكانات هائلة لتوظيف استعاراته العجيبة والمثيرة، ولاستغلال خصوبة عطاء ذاكرته الفردية/الجماعية، ثم لأنسنة قضايا محكياته ووقائع أبطال سرده. وفي كل ذلك، ظل المؤلف حريصا على استنباط خلاصاته واستثمار نتائج تدويناته ووقائع شخصيات نصه من موقعه كفاعل مباشر في الأحداث وكطرف أساسي في التفاصيل. يقول المؤلف على لسان السارد مستحضرا ثقل المعاناة جراء هيمنة “روح المنفى” هنا وهناك: “كنت مبعثرا أعزائي بين العودة والرحلة، بين الفرحة والألم، بين الأنتم والهم، أحباب ينتظرونني في الضفة الأخرى وأحباب أغادرهم من هذه الضفة، انتابني إحساس بأنني ممزق بين مشاعر وأحاسيس متناقضة ومتأججة تحرقني بلهيبها. الآن تأكدت… أن عذاب المنفيين لا ينتهي بالعودة إلى الوطن، بل هو أبدي يلتصق بهم حيث حلوا وارتحلوا.. أن وطننا يلتئم بمن نحبهم على اختلافهم وتنوعهم.. أن وطن المنفيين يمتد في كل مكان لا يغادرونه ولا يعودون إليه. هو القلق أعزائي، هو نفس القلق والضبابية والشعور بالضياع يرافقنا…” (ص. 131).
هي رحلة القلق التي لن يخلق المبدع سكينتها إلا في نصه المشتهى، حيث يعبر القارات ويقطع المسافات ويخترق الأزمنة. هي رحلة “المغايرة الاضطرارية” التي تعيد بناء الوجود في سعي حثيث نحو تشييد عوالم الرقي ومراتب القيم ومدارج الانتماء.
أسامة الزكاري