حين يطلب مني قريبي مرافقته إلى أصيلة، لقضاء مأرب من مآربه، أجدني وكأنني خرجت من دنيا، ودخلت إلى دنيا.
أجدني وكأنني عدت إلى عهودي الأولى، يوم كان الدرب وحدة سكنية، متماسكة البنيان، تحس فيها بالدفء والمودة.
فأصيلة تدخل “البيات الشتوي” لمدة تقارب ثمانية أشهر، تخلد فيها للراحة، وتسلم نفسها لنوم عميق، يلتزم فيه السكان الصمت، ويمتنعون عن الحركة، فإذا تحركوا، تحركوا بمقدار، وإذا ساروا، ساروا سيرا هينا. الجالسون منهم في المقاهي يتهامسون، أو ينشغلون بتصفح الجرائد، أو فك طلاسم الكلمات المتقاطعة. والمترددون على الأسواق، يسيرون في خشوع، وكأنهم يؤدون واجبا دينيا مقدسا.
لا يقطع هذا الصمت، إلا نفير سيارة قادمة من طنجة، أو صفير قطار آت من الرباط، أو نباح كلب ضال، أو أمواج البحر التي تخرج بين الحين والحين، عن وقارها المعتاد.
حتى المحكمة التي يقصدها قريبي للاطمئنان على قضية من قضاياه، أشعر بأنها تسير في هذا النسق، فلا تدافع بالمناكب. ولا لغطا ولا صخبا، حتى يخيل لك أن الأصيليين يحلون مشاكلهم بالتي هي أحسن، ولا يقصدون المحكمة إلا من أجل صلة الرحم بطاقمها الإداري.
بنايات المدينة متطامنة متواضعة، لا يتعالى بعضها على بعض، إلا بمقدار ما يشرف على البحر، ويستنشق هواءه، وينعم بزرقته، تصطف في نظام وانتظام، فتبرز للعيان متناسقة الأبعاد، متشابهة الأشكال والألوان.
قال لي قريبي: ألا تعرف أن لأصيلة ابنا بارا سلمته مقاليد أمورها – عن طريق صناديق الانتخاب۔ فأحسن التسيير، وأحسن التدبير، وحافظ للمدينة على خصوصياتها ومكتسباتها؟
قلت له: بلى، أعرفه، وأعرف ما سخر لمدينته من إمكانيات، وما بذل في سبيلها من مجهودات، ستوضع له -إن شاء الله- في ميزان حسناته يوم العرض الأكبر
قال: إنه الحب، حب مدينتك- يفعل الأعاجيب، وإنها الغيرة، تصنع المعجزات، وخوارق العادات، فإذا الأمور تسير في طريقها المرسوم، وإذا المنجزات تنجز في وقتها الموقوت، وإذا الناس ينعمون بالسكينة والأمن والرخاء.
مصطفى حجاج