في مثل هذه الأيام القائظة وبالتحديد صبيحة يوم الثلاثاء 22 يونيو 2021 غادرتنا الدكتورة هدى المجاطي إلى دار البقاء وتركت فينا صورة إنسانة تعددت فيها الفضائل وتنوعت فيها الشمائل.
يا إلهي كم هو قاس هذا الفراق وكم هو عسير على الفؤاد أن يسترجع حدث وداع لم يكن عاديا.
يا إلهي كم هو مؤلم ألا يبقى لنا من آثار من نحب غير اسم موشوم في ذاكرتنا ورسائل صوتية وكلمات مخطوطة بحبر المعاناة والآلام وحروف قوة الإيمان والرضى بقضاء الله وقدره.
يا إلهي كم هو أعمى وأناني ومدمر هذا السرطان الذي يصر كل مرة على أن يسلب من أحب الحياة ويسلبنا القدرة على الصبر وتحمل شر القدر.
لقد غبت يا هدى ولم تتركي لي غير الحنين ودموع تحرقني ودفء قبلة عاندت رهبة لحظة توديعك لأتركها وتقديري الكبير لك على جبينك.
لقد غبت يا ملاكي الطاهر ولم يبق لي منك غير بقايا صور وذكرى موكبك الجنائزي وهو يخترق شوارع طنجة في هيبة وصمت وملامح الحزن المرسومة على وجوه أهلك وأساتذتك وطلبتك وكل محبيك.
لأنني لم أستوعب فكرة ألا أراك مرة أخرى يا هدى تمردت وبجنون على كل العادات والتقاليد.. تجاهلت فتاوى رجال الدين ورافقتك خطوة خطوة إلى حيث ينتهي اللقاء.
وجعي عليك لا حد له يا هدى ولا أحد يمكن أن يستشعر حجمه غير روحك.. حقا أنا موجوعة عليك حبيبتي وعلى ساجد وعلى نفسي وعلى كل من يحبك.
قلبي موجوع يا الله لرحيل هدى فاعذرني وتجاوز عني واغفر لي رفضي لهذا الرحيل.
بهذه الكلمات ختمت لحظة الفراق، وأنا أعود أدراجي نحو بيتي، وفي قلبي فراغ قاتل حل بي ليتخذ مني سكنا. عدت، أحاول أن أنسى طيف هدى وهو يقاوم داخلي يأبى التواري.
لم تكن هدى صديقتي كباقي الصديقات نملأ مساحات اللحظات بالعيش في طفولتنا وفي سراديب مراهقتنا وشبابنا، ولم تكن هدى أستاذتي كباقي الأساتذة الذين تعلمت على أيديهم الكثير، ولكنها كانت هذه وتلك وتزيد.
كانت هدى ذلك النجم القطبي المتوهج الذي أنار دروب حياتي في لحظة كانت قد عمتها ظلمة، كانت السند الذي صادفني في لحظة ضعف، وكانت الدليل الذي رافقني في لحظة تيه. هي التي أعادتني إلى رحاب الجامعة، وإلى رحاب نفسي التي كانت قد ضاعت بين أوراق اليومي الذي لا ينتهي. هي الصيحة التي كسرت هدوء حياتي وجعلتني أطرق باب العلم والمعرفة من جديد.
عندما كنت التقي هدى في رحاب الجامعة، أو أي فضاء آخر يجمعنا، كنت أعيد تشكيل الماضي بحكاياتها الغنية، أفسر لحظات الحاضر بأمثلة جديدة، أعانق الحلم بروح سعيدة، وأرسم المستقبل بعقل منفتح. كنت أسمعها وهي تحاور فيّ نفسها وتجدد ثقتها بإيمانها وبخالقها، وتحارب مرضها اللعين بقناعة المؤمن الصادق. تحاكيك هدى وتثير فيك حماسك للحياة، وتمتد أمامك كقصيدة تثير فيك عظمة جمال الحب والتعلق بالحياة، وتأخذك إلى نفسك على طبق من كلمات الحب الصوفي اللامتناهي، فتعيدك إلى وجودك بعد لحظات استرخاء وكأنك تولد من جديد.
كانت هدى، تجعل من الصدق عملة ثمينة ومن الوفاء خصلة لا تنفذ ومن العلم حياة لا تفتر، ومن الصداقة سندا لا يقهر. تطعمك أملا بلا حدود وإيمانا بلا قيود وودا بلا شروط. فكذلك عرفت هدى، وكذلك كانت. ومهما مضى الزمان ستظل هدى هداي وستظل ذكرى الوداع في داخلي ذكرى ميلاد الحب المتجدد لروحها الطاهرة. ولحظة صلاة لا تنتهي.
رحمك الله سيدتي وغفر لك ما تقدم وتأخر وجعل قبرك روضة من رياض الجنة.
بقلم الباحثة نجلاء الوركلي