ـ النوع الخامس الأكثر غموضا وخفاء هو «النصية الجامعة l’Architextualité» المحددة أعلاه؛ ويتعلق الأمر هنا بعلاقة بكماء تماما بحيث لا تتقاطع -على الأكثر- إلا مع إشارة واحدة من إشارات النص الموازي التي لها طابع صنافي خالص مثل: العنوان البارز كما في «أشعار»، «دراسة»، «رواية الوردة»… أو، في أغلب الأحيان، مع عنوان صغير كالإشارة إلى أن الكتاب رواية أو قصة أو قصائد… والتي تصاحب العنوان في أسفل الغلاف. وكون هذه العلاقة بكماء، راجع ربما، إلى رفضها إظهار أي وضوح، أو على العكس، لأنها تتجنب وتدفع كل انتماء. وفي كل الحالات فإن النص في حد ذاته، ليس من المفروض فيه أن يعرف، ومن ثم، أن يعلن عن نوعه الخاص؛ فالرواية لا تحدد ذاتها بوضوح على أنها رواية ولا القصيدة على أنها قصيدة، بل، ولربما، وبطريقة أكثر حصرا (لأن النوع ليس سوى مظهر لجامع النص) فإن البيت الشعري ذاته لا يعين نفسه على أنه بيت شعري، ولا النثر على أنه نثر ولا الحكي على أنه حكي… في النهاية؛ فإن تحديد قانون أو معيار النوعية لنص ما ليس من شأن النص وإنما من شأن القارئ، من شأن النقد والجمهور؛ فهذه العناصر وحدها هي من يستطيع، وبجدارة، الطعن في القانون المزعوم للتوازي النصي؛ فنقول ببساطة (كقراء) بأن المأساة الفلانية لـ»كورني Corneille» ليست مأساة، أو أن «رواية الوردة» ليست رواية. ولكن كون هذه العلاقة خفية وعرضة للمناقشة (مثلا: لأي نوع تنتمي الكوميديا الإلهية؟) أو عرضة للتقلبات التاريخية (فالشعر القصصي الطويل مثل الملحمة لا ينظر إليه اليوم البتة على أنه متفرع عن الشعر؛ إذ ضاق مفهوم الشعر شيئا فشيئا إلى أن انحصر معناه في الشعر الغنائي)، وكونه كذلك، لا يقلل في شيء من أهميته؛ فتمييز النوع الأدبي على أنه شعر أو قصة أو روايةيتحكم، كما نعرف، في توجيه أفق انتظار القارئ ومن ثم في استقباله للعمل الأدبي.
ـ النوع الرابع: أرجأت عمدا الإشارة إلى النوع الرابع من النصية المتعالية لأنه هو وحده، ووحد فحسب، الذي سيشغلنا هنا مباشرة، وهو الذي سأنعته من الآن فصاعدا بـ»النصية المتفرعة Hupertextualité» وأقصد بهذا كل علاقة تجمع نصا (ب) -الذي سأسميه نصا متفرعا-، بنص سابق(أ) سأسميه «نصا أصلا Hypotexte»(12)؛ يلقح منه بطريقة مغايرة لتلك التي نجدها في التفسير، يلقح منه كما في الاستعارة. وفي التحديد السالب فإن هذا التعريف جد مؤقت.
ومن أجل النظر إليه من زاوية أخرى، فلنضع مفهوما عاما لـ(النص في الدرجة الثانية Texte au Second Degré» (أتخلى هنا عن البحث، من أجل استعمال عابر، عن أداة أولية تجمع، في وقت واحد، بين «التفرع Hyper والوصف Méta»)، أو [لنضع هذا المفهوم ] لنص مشتق من آخر سابق في الوجود. هذا المشتق من الممكن أن يكون منتميا للمنظومة الوصفية والثقافية حيث يوجد نص واصف: (نقول مثلا إن الصفحة الفلانية من كتاب «أرسطو» تتحدث عن نص «أوديب ملكا»).
ويمكن أن يكون من نظام آخر؛ مثل: (ب) لا تتحدث قط عن (أ) ولكنها لا يمكن، في نفس الوقت أن توجد كما هي عليه بدون (أ)؛ يؤدي هذا إلى مصطلح مرتبط بعملية سأنعتها به مؤقتا، هي أيضا، وهذا المصطلح هو «التحويل Transformation» إذ تستحضر «ب) العنصر «أ» بظهور أقل أو أكثر دون الاستشهاد به أو التحدث عنه بالضرورة.
الإنياذة L’Eneide وأوليس Ulysse هما، بدون شك، بدرجات متفاوتة، وهما كما نرى بعنوانين مختلفين، عملان (ضمن الأعمال الأخرى) متفرعان لنص واحد أصل هو الأوديسا l’Odyssée طبعا. وكما نلاحظ من هذه الأمثلة فإن النص المتفرع أيسر أمرا من النص الواصف الذي يعد بمثابة عمل أدبي خالص. لهذا السبب البسيط، من بين الأسباب الأخرى، فإن العمل الذي يشتق من عمل خيالي (سردي تمثيلي) يظل عملا خياليا؛ وبهذا النعت، يسقط، بطريقة آلية، في أعين الجمهور وهم يرونه في حقل الأدب. ولكن هذا التعريف ليس أمرا جوهريا، وسنجد له، دون شك، بعض الاستثناءات. اخترت هذين المثالين لسبب آخر أكثر أهمية؛ فإذا كانت الإنياذة وأوليس يشتركان في كونهما لم يشتقا من الأوديسا على طريقة (صفحة ما من «فن الشعر» تشتق من «أوديب ملكا»)، أي بتفسير الأوديسا، وإنما اشتقا منه بعملية تحويلية؛ فإن العملين (الإنيادة وأوليس) متمايزان، لأن الأمر في الحالين لا يتعلق بنفس النوع من التحويل: فالتحويل الذي يقود من الأوديسا إلى أوليس يمكن وصفه إجمالا بأنه تحويل بسيط أو مباشر؛ يحصر همه في نقل الحادثة أو الفعل من الأوديسا إلى «دبلن Dublin» القرن العشرين. والتحويل الذي يقود من نفس الأوديسا إلى الإنياذة أكثر تعقيدا وأكثر التواء رغم المظهر والقرب التاريخي: لأن «فيرجيل Virgil» لا ينقل، من «أوجيجي Ogygie» إلى «قرطاج Carthage» ومن «إيتاك Ithaque» إلى «لاتيوم Latium»، فعل أو حادثة الأوديسا، وإنما يحكي قصة أخرى مغايرة تماما؛ (مغامرات إيني Enée لا أوليس Ulysse) ولكن عبر استلهام الأوديسا، ليجعل الإنياذة من نفس الطراز (نوعا أدبيا من حيث الشكل والموضوع) الذي صاغ به «هوميروس Homère»(13) الأوديسا (والإلياذة طبعا)، أو كما كان يقال منذ زمن بعيد، فقد قام بمحاكاة هوميروس. والمحاكاة، هي أيضا، وبدون شك، تحويل، ولكن بطريقة أكثر تعقيدا، لأنها، وبإيجاز، تتطلب إنجازا سابقا وتأسيسا لنموذج تتمثل فيه الكفاية النوعية (ولنقل إنه ملحمي مستخلص من هذا الإنجاز الفريد الذي هو الأوديسا (وربما من أعمال أخرى أيضا)، قادر على إحداث عدد لا نهائي من الأداءات المحاكتية. هذا النموذج يشكل، إذن، بين النص المحاكى Imitié والنص المحاكي Imitatif محطة وواسطة ضرورية مما لا نجده في حال التحويل البسيط أو المباشر؛ فلتحويل نص، من الممكن الاكتفاء بحركة آلية بسيطة تكمن مثلا في حدود سلبه، وبكل بساطة، بعض صفحاته، وهذا تحويل تقليص. أما لمحاكاة نص؛ فينبغي بالضرورة تملك سلطة ولو جزئية عليه، أعني القدرة على اختيار الخصائص التي ستتم محاكاتها؛ لقد جرى مثلا أن فيرجيل أقصى من محاكاته لهومير كل ما يتغذر فصله عن اللغة اليونانية. يمكن، حقا، أن يعترض علي بما فيه الكفاية، في أن المثال الثاني ليس أكثر تعقيدا من الأول، وأن جويس وفيرجيل، ببساطة، لا يأخذان من الأوديسا ليعطيا لعمليهما الخاصين نفس الملامح: ينتزع جويس سلسلة من الأحداث والعلاقة بين الشخصيات ويعالجها باسلوب مغاير تماما، أما فيرجيل فينتزع منها طريقة ما ويطبقها على أفعال مغايرة، أو بتعبير أكثر تحديدا: جويس يحكي قصة أوليس بطريقة مغايرة لهومير، وفرجيل يحكي قصة إيني بطريقة مشابهة لطريقة هوميروس؛ فهي تحويلات تماثل وقلب. هذا التعارض المبسط (قول نفس الشيء بطريقة مغايرة/قول شيء مغاير بطريقة مشابهة) غير خاطئ بالنظر (أيضا إلى كونه يبالغ في إهمال التشابه الجزئي بين أحداث أوليس وإيني) وسوف نجد في التشابه الفعالية والمردودية في فرص أخرى أفضل، غير أنه ليس تشابها عاما، وسنرى ذلك أيضا، خاصة وأنه يخفي تباين درجات التعقيد التي تفرق بين هذين النوعين من العملية. ومن أجل توضيح أفضل لهذا الاختلاف، يحسن أن ألجأ، بطريقة مخالفة، إلى أمثلة أولية: لنفرض أن نصا أدبيا، أو شبه أدبي، صغيرا كان أو قصيرا مثل هذا المثل: «الوقت معلم كبير le temps est un grand maître» فمن أجل تحويله يكفي أن أجري تغييرا بأية طريقة كانت لواحد من مكوناته، وليكن حذف حرف واحد؛ فأكتب مثلا: «le temps est un grand maître». إن النص الصحيح قد تحول بطريقة شكلية خالصة إلى نص خاطئ (اي فيه خطأ إملائي). أو أغير مثلا حرفا واحدا فأكتب كما فعل «بالزاك BALZAC» على لسان «ميستيكري Mistigris»(14): le temps est un grand maigre = الوقت نحيف كبير». هذا التغيير لحرف واحد أحدث تغييرا في الكلمة وأنتج معنى جديدا، وهكذا. أما محاكاته فعمل آخر، لأن هذه المحاكاة تفترض أن أرصد في هذا الملفوظ طريقة ما مميزة (طريقة المثل السابق مثلا). والمثل طريقته مميزة، بإيجازه وبتأكيده الحاسم للمعنى وباستعاريته. كما تفترض المحاكاة أن أعبر بهذه الطريقة أو في هذا الأسلوب عن فكرة أخرى شائعة أو غير شائعة؛ مثلا عن فكرة: «كل شيء يحتاج إلى وقت» ينبثق المثل المعروف(15): «باريس لم تبن في يوم واحد Paris n›a pas été bâti en un jour».
يلاحظ هنا بطريقة أفضل، أتمنى ذلك، أين تكون العملية الثانية أشد تعقيدا من الأولى، وأبعد ما تكون من المباشرة. أتمنى ذلك لأنني لا أريد أن أزيد من السماح لنفسي في الوقت الحالي لتذهب بعيدا في تحليل هذه العمليات التي سيكون لنا معها موعد في الوقت والمكان المناسبين(16).
(*) إشارة:
أ – الترجمة التالية للفصل الأول (وهو مدخل نظري) من كتاب جيرار جنيت:
Gérard Genette, Palimpsestes/la littérature au second degré/ 1ère publication. Ed. Du Seuil 1982.
ب – جيرار جنيت من مواليد باريس سنة 1930. مدير الدراسات في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية، وبها ينظم حلقة دراسية حول الجمال والشعرية كما يدير مجلة (شعرية Poétique) المشهورة، من منشورات «سوي Seuil».
(من صفحة الغلاف الأخير لأطراس)
ج – من مؤلفاته:
Figures (في ثلاثة أجزاء) 1966-1969-1972.
Mimologiques, 1976.
Introduction à l’Architexte, 1979 (وقد ترجمه عبد الرحمن أيوب وصدر عن دار توبقال للنشر بالمغرب).
Nouveau Discours du Récit, 1983.
Seuls, ed. Seuil, 1987.
Fiction et Diction, 1991.
هوامش المؤلف:
1 – Introduction à l’Architexte, Seuil, 1979, p.8.
2 – مصطلح «جامع النص»، أنبه، وإن متأخرا، إلى أنه من اقتراح «لويس ماران»:
Louis Marin, Pour une Théorie du Texte Parabolique, in.le Récit évangélique, Bibliothèque des sciences religieuses, 197.
ليعين به «النص/الأصل لكل خطاب ممكن، أصله ووسطه الذي أنشئ فيه»، قريبا مما سأسميه هنا (Hypotexte النص الأصل) لقد حان الوقت لوجود مفوض commissaire لجمهورية الآداب حتى يفرض علينا مصطلحات متماسكة.
3 – Séméôtikè, Seuil, 1969.
4 – لمعرفة تاريخ هذه الطريقة، تراجع الدراسة الرائدة: A.Compagnion, la seconde Main, Seuil, 1979.
5 – اقترضت المثال الأول من موضوع بعنوان: «التلميح» في بحث «استعارات Tropes» لـ(دومارسي Dumarsais) والثاني من «صور الخطاب: Figures du Discours» لـ (فونتانيي Fontanier).
6 – La Trace de l’Interetexte, la pensée, Octobre 1980.
La Syllepse intertextuelle, Poétique 40, novembre, 1979.
C.F. La Production du Texte, Seuil 1979, et: Sémiotique de la poésie, Seuil 1982.
7 – The Anxiety of influence, Oxford, U.P. 1973, Et la suite.
8 – ينبغي فهمه في معناه الملتبس ambigu، انظر: hypocrite (مخادع) التي تشتغل في صفات مثل parafiscal (ضرائب تجبى للإدارات المستقلة)، أو paramilitaire (شبه عسكري) [parafiscal هي ضرائب تجبيها الدولة لصالح إدارات مستقلة بموازاة ضرائبها هي. فـ(مخادع hypocrite)، حسب جيرار جينيت، ينبغي دمج معناها في معنى (الموازي) = التص الموازي شبيه بالنص مواز له، ولكن إذا بحثنا عن عناصره الملموسة، كنص له كيانه الواضح، لم نجد. ولذلك فهو أيضا مخادع = هو شبيه وغير شبيه بالنص ] – المترجم.
9 – المصطلح، طبعا، شديد التفاؤل بالنسبة لدور القارئ الذي لم يوقع شيئا في هذا الميثاق، والذي له أن يأخذ أو يدع [ما يعرض عليه من نصوص ]. ولكن يبقى أن العلامات المشتركة أو غيرها من العوامل التي توجه المؤلف وتستخدمه لصالحها، فهو، وخوفا من عقوبة سوء الاستقبال لعمله، يخضع بدوره للشروط في الغالب وبشكل غير متوقع: سنصادف شواهد كثيرة على ذلك.
10 – ربما كان علي أن أحدد أن النصية الموازية ما هي إلا متعالية واحدة من بين متعاليات أخرى، على الأقل تتميز عن هذه المتعالية التي تربط النص بالحقيقة الخارج نصية التي لا تهمني الآن، ولكني أعرف أنها موجودة: (يحدث أن أخرج من مكتبتي/ليس لي مكتبة). أما فيما يخص المتعالية transcendance التي كانت د اختلطت لدي بالاهتداء أو السمو الصوفي، فهي هنا تقنية خالصة، هي ضد (l’immanence التي كانت قد اختلطت لدي بالاهتداء أو السمو الصوفي، فهي هنا تقنية خالصة، هي ضد (l’immence: المثولية والحضور في الشيء) على ما أعتقد.
11 – وجدت لذلك الخطوط الأولية في: M.Charles, la lecture critique, poétique 34, avril 1978.
12 – استعمل هذا المصطلح من قبل «مييك بال» Mieck Bal, Notes ou narrative embedding, poetics today, hiver 1981. في معنى آخر طبعا، يشبه تقريبا ذلك الذي أطلقته ديما على (القص ما بعد الحكائي récit métadiégétique). حتما، لا شيء ينتظم أمره إزاء المسطلح، ولن نسمع من أحد يقول «ما عليكم إلا أن تتحدثوا مثل سائر الناس». وفي أمر كهذا فإن النصيحة ستكون أسوأ، لأن الاستعمال مرصوص بألفاظ جد مألوفة وشفافة بشكل جد كاذب، إذ نستعملها عادة للتنظير على امتداد مجلدات أو ندوات دون أن يخطر ببالنا لحظة تساؤل: عن أي شيء نتحدث ونحن نستعملها؟ سنصادف قريبا مثالا نموذجيا لهذا الترديد الآلي (الببغائي) في مفهوم المحاكاة الساخرة Parodie. هذا بخلاف لغة أهل الحرف التي لها على الأقل هذا الامتياز، إذ، على العموم، يعرف كل واحد من مستعمليها ويعين المعنى الذي يقصده من كل مصطلح من مصطلحاته.
13 – لا جرم فإن «أوليس» و»الإنياذة» لا تختزل قطعا (ولي فرصة أخرى للعودة إلى الموضوع) في مجرد تحويل مباشر أو غير مباشر لـ»الأوديسا». ولكن هذه الخاصية، هي وحدها، التي لنا أن نحتفظ بها هاهنا.
14 – Un Début dans la vie, Pleiade, I, p.771.
15 – ليس لي فضل في اختراعه، فقد اقترضته من نص «بالزاك» هذا.
* ) طرس. ويجمع على أطراس وطُروس.. والطٍّرس: الصحيفة التي محُيت ثم كتب عليها.